الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على عبدِهِ ورسولِهِ ومصطفاه، أما بعد:
فإنّ سورةَ الفاتحةِ أعظمُ سورةٍ في القرآن, وأجمعُ آياتِ هذه السورةِ لمعاني الدينِ وحقائقِ الملةِ قولُه تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين} الفاتحة:إذ يعترفُ العبدُ بتلاوتِها بأمرين عظيمين:
الأول: أنّه عبدٌ للهِ لا يعبُدُ أحداً سواه, ولا يتوجَّه برغبتِه ورهبتِه ومحبتِه ورجائِه وصلاتِه ونُسُكِه وجميعِ عباداتِه إلا للهِ وحدَه, لا يَشرِكُ به شيئاً.
والثاني: أنّه لا يَستعينُ على قضاءِ حوائجِه، وكَشْفِ كُرَبِه وتفريجِ همومِه، وإجابةِ دعائِه وتحقيقِ آمالِه ورفعِ آلامِه، إلا بالله, فهو القادرُ وحدَه على كلِّ شيء، وهو المستعان على كلِّ شأن, وهو بهذا يَعترِفُ لربِّه بالقوَّةِ المطلقة والقدرةِ التامة، والعلمِ الكاملِ والرحمةِ الواسعةِ والربوبيةِ الشاملة, والفضلِ والمُلْكِ والإنعام، جَل جَلالُه وتَقدَّستْ أسماؤه.

وهذه الآيةُ على قِلَّةِ ألفاظِها، فإنّها تَضَمَّنت معانيَ جليلةً وحقائقَ عالية، تَستَحِقُّ أنْ يَتَوَقَّفَ المسلمُ عندها مَلِيَّاً.
فمِن ذلك: أنّ العبادةَ قُدِّمَت فيها على الاستعانة؛ لأنَّ العبادةَ حقُّ الله, والاستعانةَ حقُّ المخلوق, وحقُّ اللهِ -بلا شك- مُقدَّمٌ على حقِّ المخلوق, وهي بهذا تُعلِّمُنا الأدبَ مع اللهِ، وتقديمَ حقِّهِ وأمرِهِ ونهيِهِ على كلِّ شيءٍ؛ اعترافاً بفضلِهِ وألوهيتِه، وإجلالاً له وخضعاناً لجَنَابِه.

ومن ذلك: أنّ الفعلينِ فيها جاءا بلفظِ الجمعِ (نعبد ونستعين)، ولم يقل (أعبد وأستعين)؛
تذكيراً للمسلمِ بارتباطِه مع الجماعةِ المسلمة، وحرصِه على إيجادِها، وبُعدِهِ عن الفَردِيَّةِ والانعزال, إضافةً إلى ما فيها من التواضعِ الذي يقتضيه هذا الاعتراف, ذلك أنّه إذا ذَكَرَ عِبادتَه مع عبادةِ الجماعة، واستعانتَه مع استعانتِها؛ ارتَفَعَ مِن قلبِه الالتفاتُ إلى عبادتِه والعُجْبُ بها، فهو يقولُ بلسانِ الحالِ: أنا يا رب ليس مني عبادةٌ تَستَحِقُّ أن أَعترِفَ بها؛ لكن عبادتي مع إخواني هي مَحَلُّ اعترافي لك وتَوَسُّلي إليك, فيَسقُطُ بذلك رؤيةُ المصلي لعملِهِ، وهذا داعٍ لِقَبولِهِ عند ربه واستجابةِ دعائِه، فإنّه لا يقبلُ عملاً مِن مُعجَبٍ، ولا يَسمعُ دعاءاً مِن مُتَكبِّر.
ومن ذلك: أنّ تقديمَ العبادةِ في الآيةِ على الاستعانةِ وافَقَ قِسمَةَ السورةِ المذكورَ في الحديثِ القدسي:
(قَسَمْتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفين) (1).
فالنصفُ الأولُ لله، والنصفُ الثاني للعبد, والسورةُ مُكَّوَّنةٌ مِن سبعِ آياتٍ، تبدأُ -على الصحيح- بقوله: {الحمد لله رب العالمين} فيكونُ ما للهِ فيها ثلاثُ آياتٍ ونصف, وما للعبدِ ثلاثُ آياتٍ ونصف.
ومن ذلك: أنّ الدِّينَ مُنقسمٌ إلى قسمين, عبادةٌ واستعانة, ولا يَكمُلُ دينُ امرئٍ حتى يقوم بهما على أكمل الوجوه. فالصلاةُ عبادةٌ واستعانة, وسؤالُ اللهِ ودعاؤه عبادةٌ واستعانة, وأفضلُ الخَلْق مَن كَمَّلَهما وقام بهما على أكملِ وجهٍ وأحسنِ حال, وشَرُّ الخَلْق مَن تَرَكَ عبادةَ اللهِ، وتَرَكَ الاستعانةَ به على قضاءِ الحوائجِ، وكَشفِ الكُرَبِ، وتَيسيرِ الأمورِ، وشرحِ الصدور.

هذان صنفان وبقي صنفان:
أولهما: مَن قَامَ بالعبوديةِ وقَصَّرَ في الاستعانة، وهذا يحصُلُ لبعضِ الصالحين, فهو يُؤدِّي المأمورات ويترك المنهيات، ويَفعلُ ذلك بانتِظام، لكنه مُقلٌّ من الاستعانةِ باللهِ على قضاءِ حاجتِه وعبادةِ ربه, وقد حُرِم بذلك حَظَّاً عظيماً مِن الافتقارِ إلى اللهِ، واللجأِ إليه، والانطراحِ بين يديه، وعَرْضِ حاجتِه على مَن يفرحُ بقضائِها، ويَبتَلي عبادَه بأنواعِ البلاءِ ليُقبِلوا بها على ربهم، مُتضَرِّعةً قلوبُهم، وَجِلةً أفئدتُهم, فتَسكُن بمناجاةِ السميعِ العليمِ الرحيم, تَلِذُّ بدعائِه، وتَأنَسُ بِعَرْضِ حاجتِها عليه.
وهذا الصنفُ يقعُ منه التقصيرُ في الاستعانةِ جَهلاً بمقامِ الاستعانة, الذي لا يَكمُلُ إيمانُ عبدٍ إلا به, وغفلةً عن الاقتداءِ بالأنبياءِ الذين يحرِصون على الاستعانة بربهم، والالتجاء إليه، ويَعرِضون حوائجَهم على ربهم في كل شؤون حياتهم، لا يُقصِّرون في ذلك, وتأمَّلْ حالَ كليمِ الرحمنِ، عندما قَتَلَ القِبطيَّ، وجاء الرجُلُ مِن أقصى المدينةِ يحذِّرُه, قال الله: {فخرج منها خائفًا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين * ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل}

ثم لمّا وَرَدَ ماء مدينَ، وسَقَى للفتاتينِ بلا أَجْرٍ: {تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير} القصص

وهذا سيِّدُ ولدِ آدم – صلى الله عليه وسلم- عندما التقى الجمعانِ في بدرٍ، رَفَعَ كَفَّيهِ إلى السماءِ يَسألُ ربَّه ويناجيه، ويدعوه دعاءَ المُفتقِرِ إلى الفَرَجِ مِن ربِّه الكريم، ويُناشِدُه قائلاً: “اللهمأَنجِزْليماوعدتني, اللهم إنّك إنْ تهلِك هذه العِصابةَ مِن أهلِ الإسلامِ لا تُعبدُ في الأرض” (2)، حتى أَشْفَقَ أبو بكرٍ عليه مِن شِدَّة تَضُرُّعِهِ وقال له: “يا نبيَّ اللهِ كفاك مناشدتك ربك, فإنّه سينجزُ لك ما وَعَدَك” (3).
لقد كان هؤلاء الأنبياءُ قائمين بعبادةِ ربِّهم على أَكْملِ الوجوه, ولم يمنعْهم ذلك أو يحمِلْهم على أن لا يستعينوا بالله, ويلتجئوا إليه في كشفِ الكُرَب، وقضاءِ الحوائج, لِعِلْمِهم بأنّ ذلك مِن تمامِ العبوديةِ، ومما يحبُّه الربُّ مِن عبادِه.
وثاني الصنفين: مَن يَستَعِينُ باللهِ في أمورِه، وتحصيلِ حاجتِه ولو كانت محرمة، لكنّه مُقصِّرٌ في العبادة، أو تاركٌ لها بالكُلِّية, وهذا موجودٌ في بعضِ العُصاةِ المنحرفين, وعُتاةِ المجرمين، فتَجِدُهم يدعون الله كثيراً لقضاءِ حوائجِهم -حلالاً كانت أم حراماً-، لكنّهم لا يَرعَون أمْرَ اللهِ ولا نهيَه، ولا يُطيعُون اللهَ ولا رسولَه صلى الله عليه وسلم في قليلٍ أو كثير.
فهؤلاء أصنافٌ أربعةٌ مِن أصنافِ الخَلْقِ في العملِ بِرُكْنَي هذه الآيةِ الكريمة.
وبهذا يُعلَم أنّه يَنبغي للعاقلِ أنْ يَتَفَقَّدَ هذين الأمرين العظيمين؛ في أعمالِهِ وسائرِ أحوالِه, فإذا عَزَمَ على الصيامِ استعانَ باللهِ على صِدقِ النيةِ وصِحّةِ العمل, والإقبالِ بقلبِه على الله, ثم سَألَ ربَّه القبول, وإذا أرادَ أنْ يُصليَ سَألَ اللهَ الإعانةَ على إقامتِها، والخشوع فيها، وإِخلاص النيةِ وسلامتها من الوساوس والخطرات،

وأَكْثَرَ مِن الدعاءِ النبوي :
“اللهمأعِنِّيعلىذكرِكوشُكرِكوحسنِعبادتِك”(3).

ومِن عجائبِ هذه الآية، أنّ العبدَ يَتوسَّلُ بها بين يدي الدعاءِ الأعظمِ في السورةِ: {اهدنا الصراط المستقيم} الفاتحة: فيَعْتَرِفُ أنّه عبدٌ ذليلٌ مُفتقِرٌ مُحتاجٌ طالِبٌ للعون, وهذه مِن أَعظمِ وسائلِ إجابةِ الدعاء, فيُقالُ له ما أَهمُّ شيءٍ تريدُ أنْ يُعينَكَ اللهُ عليه فيقول: اهدِنا الصراط المستقيم.
وحَرِيٌّ بمن حَمِدَ اللهَ وأثنى عليه ومجَّدَه، ثم اعترَفَ بِعُبوديتِهِ بربِّهِ أن يُجابَ دعاؤه وتُحَقَّقَ طلباتُه.
والحاصلُ أن هذه الآيةَ عظيمةُ القَدْرِ، جليلةُ المكانة، جديرةٌ بالتأمّل والتدبُّر، فيها أضعافُ ما ذكرنا من الوقفات، والتوجيهاتِ والحقائقِ العاليات، رَزَقَنا اللهُ القيام بها، وأداءَ حقِّها، وحُسْنَ التفكُّرِ فيها.
اللهم وارزقنا صدقَ التعبُّد لك، والاستعانة بك، واغفر اللهم لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.