قال تعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.. [آل عمران : 72].


لقد أراد بعض من أهل الكتاب أن يشككوا المسلمين في أمر المنهج، لذلك اصطنعوا تلك الحيلة، فالمؤمنون من العرب وقريش في ذلك الزمن كانوا أميين وكانوا يعرفون أن أهل الكتاب على علم بمناهج السماء، ولم يكن القرآن كله قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا ما آمن بعض منهم برسالة رسول الله وجه النهار وكفروا به آخر النهار فهذا خلط للحق بالباطل. وفي هذا خداع للمؤمنين.


ولنا أن نعرف أن {وَجْهَ النهار} مقصود به ساعات الصباح والظهر، فالوجه هو أول ما يواجه في أي أمر، ونحن نأخذ ذلك في أمثلة حياتنا اليومية، فنقول عن بائع الفاكهة: (لقد صنع وجها للفاكهة)، أي أنه قد وضع أنضج الثمار في واجهة العربة، وأخفى خلف الثمار الصالحة الناضجة ثمارا أخرى فاسدة. وعندما يفعل التاجر مثل هذا الفعل فمقصده الغش والخداع، لأن الإنسان إذا ما اشترى أي مقدار من هذه الفاكهة فسيجد ربع ما اشترى هو من واجه الفاكهة، والباقي من الثمار الفاسدة.


وكذلك حاول بعض من أهل الكتاب أن يخدعوا المؤمنين بإعلان الإيمان أول النهار ثم إعلان الكفر آخر النهار، والهدف بطبيعة الحال هو إشاعة الشك وزراعة البلبلة في نفوس المؤمنين بخصوص هذا الدين، فقد يقول بعض من الأميين: (لقد اختبر أهل الكتاب هذا الدين الجديد وهم أهل علم بمناهج السماء ولم يجدوه مطابقا لمناهج السماء).


أو أن الآية قد نزلت في مسألة تحويل القبلة إلى الكعبة، فإذا كان الحق سبحانه قد أمر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، فالكافرون من أهل الكتاب أرادوا نقض ذلك، وقالوا: (فلنسمع أول النهار كلام محمد ونتوجه في الصلاة إلى الكعبة ثم نصلي آخر النهار ونجعل قبلتنا بيت المقدس).


وكأن الحق قد أراد بذلك أن يكشف لنا أن كل أساليب الكفر هي من تمام قلة الفطنة وعدم القدرة على حسن التدبر، لقد أرادوا إشعال الحرب النفسية ضد المسلمين، لعل بعضا من المسلمين يتشككون في أمر الدين الجديد، لكنهم دون أن يلحظوا أنهم قد فضحوا أنفسهم، واعترفوا دون قصد منهم بأن الذين آمنوا بالقرآن هم المؤمنون حقا بينما هم قد أخذوا لأنفسهم موقف الكفر الذي هو نقيض للإيمان، قال سبحانه حكاية عنهم: {آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار واكفروا آخِرَهُ} فهم قد ارتضوا لأنفسهم الكفر.


لقد أعلن هؤلاء المشككون التصديق بالإسلام؛ وذلك ليعرف الناس عنهم ذلك، ولكونهم أهل كتاب فهم قادرون على الحكم عليه، فإذا ما رجعوا عن الإسلام من بعد معرفته، فسيقولون: إن رجوعنا ليس بسبب الجهل أو التعصب، إنما بسبب اختبارنا لهذا الدين، فلم نجده مناسبا ولا متوافقا مع ما نزل على رسولنا. وهذا من أساليب الحرب النفسية.


والحق سبحانه وتعالى يكشف ذلك المكر والخداع للذين حاولوا أن يكتموا خداعهم ولعبتهم الماكرة، والتي أرادوا بها التشكيك والخداع. فَيُنزل على رسوله هذا القول الحق: {وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله...}.