قديمًا قال أزدشير لابنه: "يا بني إن الملك والدين أخوان لا غنى لأحدهما عن الآخر، فالدين أس والملك حارس، ومن لم يكن له أس فمهدوم، ومن لم يكن له حارس فضائع". وقال كعب: "مثل الإسلام والسلطان والناس مثل الفسطاط والعمود والأطناب والأوتاد، فالفسطاط الإسلام والعمود السلطان، والأطناب والأوتاد الناس، لا يصلح بعضها إلا ببعض". وقال بعضهم: "السُّلْطَان يدافع عَن سَواد الْأمة ببياض الدعْوَة".


ضرورة قيام الدولة
من هنا أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لابد من كيان سياسي يحفظ الدعوة وينشرها، وكما قال ابن تيمية: "قِوَامُ الدِّينِ بِكِتَابِ يَهْدِي وَسَيْفٍ يَنْصُرُ".


لهذا كله عاش النبي صلى الله عليه وسلم حلم الدولة الإسلامية، وجعل صلى الله عليه وسلم يهيئ أصحابه لتحمل تبعات تلك الدولة ومقوماتها، ويبشرهم أن حالة الاستضعاف التي هم فيها لن تدوم وأن الغاية التي يسعون إليها –إقامة الدولة- ستتحقق قريبًا، كما ورد في صحيح البخاري عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: "أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا". قَالَ: "كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ".


ولأهمية تلك الغاية الكبرى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يبحث عن المراكز الداعمة لبناء الدولة الإسلامية الوليدة، فكانت هجرة الحبشة الأولى والثانية حماية للمسلمين من بطش قريش وحفاظًا على الدعوة من الفناء فأرض الله واسعة، ثم تطورت فكرة الدولة في ذهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضحت معالمها ومقوماتها ورُسمت إستراتيجية الحركة السياسية الإسلامية، واختار رسول الله صلى الله عليه وسلم أول خطوات بناء الدولة: طلب الحماية والنصرة للدعوة والمسلمين من قريش، فعرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل في أسواق العرب وأماكنهم ووفودهم، وجعل يقول: "من رجل يحملني إلى قومه فيمنعني حتى أبلغ رسالة ربي، فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي؟!" وأبو لهب وراءه يقول للناس: "لا تسمعوا منه، فإنه كذاب".


إنها دعوة صريحة بطلب الحماية من القبائل العربية لتبليغ دعوة الله عز وجل، ويفهم من هذه الدعوة أنه ليس من الضروري أن تسلم القبيلة، إنما المطلوب أن تؤمن الحماية اللازمة له لتبليغ دعوة الله عز وجل.


وكان أن عرض نفسه على بني شيبان، فقال أحدهم -وهو مفروق بن عمرو: إلام تدعو يا أخا قريش؟ فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأني رسول الله، وإلى أن تؤووني وتنصروني، فإن قريشا قد تظاهرت على أمر الله وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق. والله هو الغني الحميد".


ثم تكلم هانئ بن قيبصة، فقال: "قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وإني أرى أن تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر لوهن في الرأي وقلة نظر في العاقبة، وإنما تكون الزلة مع العجلة، ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليه عقدا ولكن ترجع ونرجع وتنظر وننظر".


وكأنه أحب أن يشرك في الكلام المثنى بن حارثة فقال: وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا، فقال المثنى: "قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة في تركنا ديننا واتباعنا إياك في مجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر، وإنا إنما نزلنا بين صريان: اليمامة والسماوة.


فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما هذان الصريان؟" فقال: "أنهار كسرى ومياه العرب، فأما ما كان من أنهار كسرى فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول، وأما ما كان من مياه العرب فذنبه مغفور، وعذره مقبول، وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى، لا نحدث حدثا ولا نؤوي محدثا، وإني أرى أن هذا الأمر مما تكرهه الملوك، فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلناه". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق، فإن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم ويفرشكم نساءهم أتسبحون الله وتقدسونه؟" فقال النعمان بن شريك: اللهم لك ذلك، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:45-46].


بيعة العقبة الأولى
ومع أن مفاوضات النبي صلى الله عليه وسلم مع القبائل والوفود وتكوين التحالفات لم تنجح، إلا أن آمال إقامة دولة الإسلام في الأرض ما زالت قائمة، حيث عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه على ستة شباب من الخزرج في العقبة، فواعدوه سنة حتى يكمل اجتماع أهل يثرب، بعد أن فرَّقهم وشتَّت شملهم النزاع في حرب بعاث، وانتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم عاما كاملا على الموعد الذي تم بينه وبين النفر الستة من الخزرج، وتم لقاء جديد في العقبة أطلق عليه فيما بعد -بيعة العقبة الأولى، وهو كما رواه ابن إسحاق: "حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا، فلقوه بالعقبة، وهي العقبة الأولى، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض عليهم الحرب".


وهنا عدة ملاحظات:
1- توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي البناء الداخلي في المدينة، وإلى بث الفكرة في صفوفها، فكما يقول ابن إسحاق: "فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام حتى فشى فيهم، فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم".


2- حضر بيعة العقبة الأولى سبعة جدد فيهم اثنان من الأوس، وهذا يعني أنهم وفوا بالتزاماتهم التي قطعوها على أنفسهم في محاولة رأب الصدع، وتوجيه التيار لدخول الإسلام في المدينة أوسها وخزرجها وتجاوز الصراعات القبلية القائمة.


3- وكان التطور الجديد الذي أثمرته بيعة العقبة بعث مصعب بن عمير ممثلا شخصيا للرسول صلى الله عليه وسلم إلي المدينة، يشرف على تطور الموقف، ويفقه المسلمين بهذا الدين الجديد، وكل هذا ضمن النشاط الفكري والسياسي، والاتجاه للتعبئة وتكوين الأنصار المعتنقين لهذه العقيدة.


4- واستطاع الدبلوماسي الإسلامي الأول في المدينة بحكمته وحصافته وذكائه السياسي أن يجر أكبر قيادات الأوس للإسلام، أسيد بن حضير وسعد بن معاذ، خلال العام الجديد، ولم يبق في بني عبد الأشهل- بطن كبير من الأوس- رجل ولا امرأة ولا طفل إلا ودخل في الإسلام.
لقد أصبح التيار عارما، والاتجاه معبأ لقيام الدولة الإسلامية في المدينة -إذا صح التعبير، وأصبحت مهمة القيادة تنظيم هذه الطاقات كلها لصالح المعركة.


5- وهذا ما خطط له رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن بذل كل ما يملك من جهد لتعبئة الطاقات الإسلامية في المدينة. ولم يكن هناك أدنى تقصير في الجهد البشري الممكن في بناء القاعدة الصلبة التي تقوم على أكتافها الدولة الجديدة واحتمل هذا الجهد سنتين كاملتين من الدعوة والتنظيم. وتفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصب جهده عليه، تاركا -لفترة مؤقتة- الانشغال في الجهود السياسية الخارجية موجها كل طاقاته عليه الصلاة والسلام لبناء الصف الداخلي الواحد المتراص. من قوم كان بينهم قبل أقل من عام دماء وثارات.


6- وتمت التعبئة الكاملة، حين شعرت القاعدة الصلبة أنه قد آن الأوان لقيام الدولة الجديدة، وكما يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه وهو يمثل هذه الصورة الرفيعة الرائعة: "حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟". لقد أصبحت النفوس جاهزة للانطلاق، وتنتظر إشعال الفتيل للحرب ضد الجاهلية المستحكمة.


7- وصل مصعب رضي الله عنه إلى مكة قبيل الموسم الثالث عشر للبعثة، ونقل الصورة الكاملة التي انتهت إليها أوضاع شباب الإسلام هناك، والقدرات والإمكانات المتاحة، وكيف تغلغل الإسلام في جميع قطاعات الأوس والخزرج، وأن القوم جاهزون لبيعة جديدة قادرة على حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنعته.


8- كان اللقاء الذي غير مجرى التاريخ في موسم الحج في السنة الثالثة عشرة من البعثة، حيث حضر لأداء مناسك الحج بضع وسبعون نفسا من المسلمين من أهل يثرب، فلما قدموا مكة جرت بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم اتصالات سرية أدت إلي اتفاق الفريقين على أن يجتمعوا في أوسط أيام التشريق في الشعب الذي عند العقبة حيث الجمرة الأولى من منى، وأن يتم هذا الاجتماع في سرية تامة في ظلام الليل.


بيعة العقبة الثانية ومباحثات قيام الدولة
جاء موسم الحج في السنة الثالثة عشرة من النبوة يحمل الخير كله. خرج وفد يثرب للحج، وكان الوفد مكونًا من ثلاثمائة حاج، منهم خمسة وسبعون من المسلمين (ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان). وبعد أن أمَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم اللقاء بينه وبين الأنصار، تم اللقاء المهيب في هذه البقعة المباركة من أرض مكة، والذي كان من نتائجه أن تغيرت خريطة العالم بعد ذلك وقامت للإسلام دولة، وسقطت عروش عظيمة كعرشي كسرى وقيصر، واستقر دين الإسلام في الأرض.


تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغب في الإسلام ثم قال: "أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم"، فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: والذي بعثك بالحق نبيا لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا (نساءنا) فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحرب، وأبناء الحلقة (السلاح)، ورثناها كابرا عن كابر. فاعترض القول -والبراء يُكَلِّمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم- أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالا، وإنا قاطعوها -يعني اليهود- فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "بل الدم الدم والهدم الهدم أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم".


وروى الإمام أحمد في مسنده والبيهقي في السنن عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: فَرَحَلَ إِلَيْهِ مِنَّا سَبْعُونَ رَجُلاً حَتَّى قَدِمْنَا عَلَيْهِ في الْمَوْسِمِ فَوَعَدْنَاهُ شِعْبَ الْعَقَبَةِ فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَهُ مِنْ رَجُلٍ وَرَجُلَيْنِ حَتَّى تَوَافَيْنَا فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى مَا نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: "تُبَايِعُونِى عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ في النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، والنَّفَقَةِ في الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْىِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَنْ تَقُولُوا في اللَّهِ لاَ تَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ، وَتَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ. وَلَكُمُ الْجَنَّةُ".


يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: فَقُمْنَا نُبَايِعُهُ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَهُوَ أَصْغَرُ السَّبْعِينَ، فَقَالَ: رُوَيْدًا، يَا أَهْلَ يَثْرِبَ، إِنَّا لَمْ نَضْرِبْ إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْمَطِيِّ إِلَّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، إِنَّ إِخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافَّةً، وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ، وَأَنْ تَعَضَّكُمْ السُّيُوفُ، فَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَصْبِرُونَ عَلَى السُّيُوفِ إِذَا مَسَّتْكُمْ، وَعَلَى قَتْلِ خِيَارِكُمْ، وَعَلَى مُفَارَقَةِ الْعَرَبِ كَافَّةً، فَخُذُوهُ وَأَجْرُكُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خِيفَةً، فَذَرُوهُ فَهُوَ أَعْذَرُ عِنْدَ اللَّهِ.


قَالُوا: يَا أَسْعَدُ بْنَ زُرَارَةَ، أَمِطْ عَنَّا يَدَكَ، فَوَاللَّهِ لَا نَذَرُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ، وَلَا نَسْتَقِيلُهَا. فَقُمْنَا إِلَيْهِ رَجُلًا رَجُلًا يَأْخُذُ عَلَيْنَا بِشُرْطَةِ الْعَبَّاسِ، وَيُعْطِينَا عَلَى ذَلِكَ الْجَنَّةَ.


ثم كانت مرحلة تشكيل الحكومة الإسلامية بالانتخاب، فبعد أن تمت بيعة العقبة الثانية طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم انتخاب اثنى عشر زعيما يكونون نقباء على قومهم، يكفلون المسؤولية عليهم في تنفيذ بنود هذه البيعة، إذ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لن يستطيع أن يبايع كل أفراد الأمة المسلمة على ذلك، فلا بد من انتخاب قيادة مسؤولة مسؤولية مباشرة عن هذه القواعد. وتم الأمر بانتخاب تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس. وبعد هذا الانتخاب الحر عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتماعًا مهمًّا على مستوى القمة مع هؤلاء النواب، وأخذ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ميثاقا آخر بصفتهم رؤساء مسؤولين، وقال لهم: "أَنْتُمْ عَلَى قَوْمِكُمْ بِمَا فِيهِمْ كُفَلاءُ كَكَفَالَةِ الْحَوَارِيِّينَ لِعِيسَى بِنْ مَرْيَمَ، وَأَنَا كَفِيلٌ عَلَى قَوْمِي". يعني المسلمين من أهل مكة. فقالوا: نعم.


من هنا تكونت ملامح الحكومة الشرعية الأولى للمدينة المنورة، قائد الحكومة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودستور الحكومة هو الكتاب والسنة، وجند الحكومة هم الأنصار والمهاجرون، عما قليل سيصبح للإسلام دولة !!


الهجرة ميلاد الدولة الإسلامية
قال ابن إسحاق: "فلما أذن الله تعالى له صلى الله عليه وسلم في الحرب، وبايعه هذا الحي من الأنصار على الإسلام والنصرة له ولمن تبعه وآوى إليه من المسلمين، أمر رسول الله أصحابه من المهاجرين من قومه، ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها، واللحوق بإخوانهم من الأنصار، وقال: "إن الله عز وجل قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون فيها". فخرجوا أرسالًا وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة، والهجرة إلى المدينة".


إن الهجرة النبوية أهم حدث في تاريخ الدعوة الإسلامية، فبالهجرة ولدت دولة الإسلام على أرض المدينة المنورة، وفي الهجرة ظهرت عبقرية التخطيط البشري من رسول الله صلى الله عليه وسلم، معتمدًا فيها على ربه متوكلًا فيها على مولاه عز وجل، حتى نجحت الخطة ووصل القائد الأعلى إلى مقر قيادته في المدينة.


وتجدر الإشارة أن محاولة بناء الدولة الإسلامية لم يقابل بالترحيب أو السكوت من أعداء ا لدين، بل عملوا كل ما في استطاعتهم لإجهاض هذا الحلم، واجتمعوا في دار الندوة، وانتهت كلمتهم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن الله تعالى نجَّاه وعصمه، وقد كانت الهجرة النموذج الأرقى للتضحية ودفع الثمن من أجل أن يصل المسلمون ما ينشدون، حيث كان يضحون بأموالهم وبيوتهم وبلدهم وأهلهم، مثلما كان من أمر أبي بكر الصديق وآل أبي سلمة وصهيب الرومي وأسماء بنت أبي بكر وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، فهذه نماذج من التضحيات ليعلم المسلمون كيف قامت دولة الإسلام الأولى وما الثمن الذي دفعه الصحابة في سبيل إقامتها.


وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار يحفون بهم، ويفدونه بآبائهم وأمهاتهم، ويضعون دماءهم وأموالهم تحت تصرفه، وقامت دولة الإسلام الأولى في الأرض تحف بها ملائكة السماء، بعد جهاد ضار مضني استمر ثلاثة عشر عاما كاملة، وكانت الخطوة الأولى في هذه المرحلة هي بناء المسجد الذي سيكون مركز انطلاقة لهذه الدولة، ودار الحكم فيها، ومقر قيادة الجيش، ومحضن التربية الأول ودار القضاء العالي.


ثم كان الأساس الثاني الذي أشرف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه في المدينة، وهو المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وضرب الأنصار المثل الرائع والقدوة العملية في معاني الأخوة والتآخي والوحدة والإيثار.


وقد ذكر أصحاب المغازي أن المؤاخاة بين الصحابة وقعت مرتين: الأولى قبل الهجرة بين المهاجرين خاصة على المواساة والمناصرة، فكان من ذلك إخوة زيد بن حارثة وحمزة بن عبد المطلب، ثم آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار بعد أن هاجر، وذلك بعد قدومه المدينة.


ثم كان الأساس الثالث (وثيقة المدينة)، حيث وُضع الدستور الإسلامي بين المسلمين وغيرهم، وهو أول دستور منصف عرفته البشرية، فقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا بين المهاجرين والأنصار وَادَع فيه يهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم واشترط عليهم.


وبعد:
فالهجرة النبوية كانت فيصلًا بين مرحلتين، مرحلة العصبة المؤمنة، ومرحلة الدولة الموحدة، أقام المسلمون بعدها دولة بنت حضارة إنسانية عريقة قوامها الأخلاق وعمادها الإنسان، ولن تقوم للإسلام دولة إلا إذا قامت على ما قامت عليه الهجرة.