في أيَّامٍ مباركاتٍ كأيامنا هذه، كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يستعدُّ لأداء مناسك حجة الوداع، التي بيَّن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كيفيَّة أداء المناسك على وجهها الصحيح، كما بيَّن - وهذا من أهمِّ الأمور - مَنهج الأُمَّة الإسلاميَّة في الوصول إلى أهدافها.


لقد خطب الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الحَجَّة "حجة الوداع" ثلاث خطب، وكان طابع الخطب الثلاث التي خطبها الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم يختلف إلى حدٍّ ما عن خطبه السابقة في فترة المدينة المنورة، وكان يغلب على طابع هذه الخطب الثلاث أنها موجهة إلى الأمة الإسلاميَّة في زمان قوَّتها وتمكُّنِها، لقد كانت نصائح في غاية الأهمِّيَّة لكلِّ جيل إسلامي مُكِّن في الأرض.


لقد خاطب صلى الله عليه وسلم قبل ذلك الأفراد، وخاطب المستضعفين في الأرض، وخاطب المُحاصَرين، وخاطب المحارِبين، وخاطب الدعاة، وخاطب المصيبين، والمخطئين، واليومَ يخاطب صلَّى الله عليه وسلَّم الممكَّنين في الأرض، يَضَعُ أيدِيَهم على القواعد التي بها يستمرُّ تمكينهم ويتَّسع، ويُحذِّرهم من الأمور التي تُذهِب هذا التمكين، وتُسقط الدولة الإسلاميَّة، ويشرح لهم بوضوح دور الدولة الإسلاميَّة الممكَّنة في الأرض، لقد كان خطابًا لأُمَّة ناجحة، بلغت الذِّروة في التشريع، فقد كَمُل التشريع في هذه الحَجَّة، وبلغت الذروة في الحضارة، والذروة في القيم والأخلاق، والذروة في الفهم والتطبيق.


وعلى المسلمين أن يفقهوا جيِّدًا أنه بغير هذه القواعد، والأسس لن تُبنى لهم أُمَّة، ولن تقوم لهم قائمة، ومن هذه القواعد الجامعة:


الوَحدَة والمساواة بين المسلمين في خطبة الوداع:
وصية في غاية الأهمية، وهي الوَحْدَة بين المسلمين، ومع كثرة التوصيَّات بالوَحْدَة في كل حياة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، إلا أنه كان لا بُدَّ من إعادة التوصية في الأيام الأخيرة وفي خطبة الوداع خاصة، وإعادة التركيز عليها والتذكير بها.


إن الأُمَّة المتفرِّقة لا تقوم أبدًا، لا ينزل نصر الله عزَّ وجل على الشراذم، يقول صلَّى الله عليه وسلَّم في خُطبه في حجة الوداع: "تَعْلَمُنَّ أَنَّ كُلَّّ مُسْلِمٍ أَخٌ لِلْمُسْلِمِ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ إِخْوَةٌ".


إنه التأكيد على حقيقةٍ حَرَصَ عليها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من أوَّل أيَّام الدعوة، في فترة مكة، وفي فترة المدينة، واذكروا عتق العبيد في مكة، واذكروا المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، واذكروا الميثاق بين الأوس والخزرج، لقد كانت عَلاقة مُمَيِّزة فعلاً للدولة الإسلاميَّة أن الجميع فيها إخوة، الحاكم أخو المحكوم، القائد أخو الجندي، الكبير أخو الصغير، العالم أخو المتعلم، إنها أُخُوَّة حقيقيَّة بلغت حدّ التوارث في أوائل فترة المدينة، ثم نُسِخَ الحكم وبقِيَت الأُخوَّة في الدين.


ثم إنه التأكيد على معنى آخر من معاني الأُخُوَّة كان واضحًا في حجة الوداع، وهو أن هذه الأُخُوَّة ليست خاصَّة بعِرْقٍ مُعَيَّن، أو نسب مُعَيَّن، أو عنصر مُعَيَّن، أو قبيلة، أو دولة، أو طائفة، إنها المساواة بين المسلمين جميعًا من كل الأصول؛ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلاَ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلاَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلاَ لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى".


الله أكبر، هل في العالم مثل ذلك؟! مهما تشدَّق المتشدِّقون، ومهما تكلَّم المتكلِّمون، ومهما حاولوا التجميل والتزيِين، تبقى الحقيقة التي لا يمكن إنكارها، وهو أن الطبقيَّة ما زالت متفشيَّة في كل أركان الأرض تقريبًا، مهما سُنَّت القوانين المانعة لذلك في أمريكا، وفي فرنسا، وفي إنجلترا، وفي روسيا، وفي ألمانيا، وفي كل مكان؛ الأبيض أبيض، والأسود أسود، الغني غني، والفقير فقير، العنصر والجنس والطائفة علامات مميِّزة لا مهرب منها.

خريطة العالم الإسلامي
أمّا الأُمَّة الإسلاميَّة، فهي خليط عجيب من شتَّى أجناس وعناصر الأرض، وقد ربطت عناصر هذا المزيج برابطة العقيدة، ورغم ذلك لم تجبرهم على نظام واحد للحياة؛ فكل جنس، بل كل إنسان إذا كان له موروثه الحضاري الخاص الذي لا يتعارض مع مبادئ الإسلام؛ فإن الإسلام لا يجبره على تغييره؛ فالإسلام يتسع للأنماط الحضارية المختلفة، وهذا من عوامل تفوقه وتميزه؛ لذا رأينا الناس يدخلون في دين الله أفواجًا؛ فالمصري بجانب المغربي، والشامي بجانب العراقي، والأوروبي بجانب الإفريقي، كل واحد له ملبسه الخاص، ونظام حياته الخاص، ولا يتعارض هذا مع ذاك.


ويوم تستبدل الأُمَّة الإسلاميَّة هذه العقيدة السليمة الرابطة بينها بقوميَّة معينة، أو عنصريَّة خاصة يوم تسقط الأُمَّة الإسلاميَّة لا محالة.


لقد فَتَحَت الدولة الإسلاميَّة (فارس)، فما مرَّت شهور قلائلُ، أو سنوات على الأكثر، إلا وأصبح الفرس من المسلمين، لهم ما لهم، وعليهم ما عليهم، ذابوا ذوبانًا طبيعيًّا تمامًا في المجتمع المسلم، وما شعروا بأية غربة عن المسلمين من الأصول العربيَّة، وخَرَجَ منهم البخاري، ومسلم، والترمذي، والنَّسائي، وابن ماجه، والبيهقي، وغيرهم، وغيرهم، هذه هي عظمة الإسلام التي أكَّد عليها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في خُطَبه في حَجَّة الوداع.


ولقد ذاقت الأمة – وما تزال – الويلات نتيجة الدعوات العصبية التي اجتاحت بلاد المسلمين، وعقول بعض المفكرين في القرنين: التاسع عشر والعشرين؛ فبَعُدَت المسافات القريبة، وتنافرت القلوب، ونفخ الشيطان في نار العصبية ليمزق الأمة شر ممزَّق.


ولقد أَفِكَ قومٌ قصروا هذه الوَحْدَة على العرب دون غيرهم من منطلق القوميَّة العربيَّة، أو على الأتراك دون غيرهم من منطلق القوميَّة التركيَّة، أو على البربر دون غيرهم من منطلق القوميَّة البربريَّة، أو على أي عنصر، أو قبيلة، أو دولة، لقد سَمَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك جاهليَّة، فقال فيما رواه أبو داودَ عن أبي هريرةَ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الجاهلية – أي: فخرها وتكبُّرها - وَفَخْرَهَا بِالآبَاِء، مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْجِعْلاَنِ الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتِنَ".


وها هو ذا صلَّى الله عليه وسلَّم في خُطبته ينهى عن الجاهليَّة تمامًا بكُلِّ صورها: "أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمِي مَوْضُوعٌ".


ألا ما أجمل الإسلام!!


نسأل الله عزَّ وجلَّ أن تعود الوحدة بين المسلمين قويةً، وأن ترجع أمة الإسلام عزيزةً كما كانت. إنه ولي ذلك والقادر عليه.