كانت أحوال الصادقين في الموقف يوم عرفة تتنوع، فمنهم: من كان يغلب عليه الخوف أو الحياء، ومن العارفين من إن بالموقف يتعلق بأذيال الرجاء.


من كان يغلب عليه الخوف أو الحياء
وقف مطرف بن عبد الله بن الشخير وبكر المزني بعرفة فقال أحدهم: اللهم لا ترد أهل الموقف من أجلي. وقال الآخر: ما أشرفه من موقف وأرجاه لأهله لولا أني فيهم.


وقف الفضيل بن عياض بعرفة، والناس يدعون وهويبكي بكاء الثكلى المحترقة قد حال البكاء بينه وبين الدعاء، فلما كادت الشمس أن تغرب رفع رأسه إلى السماء، وقال: واسوأتاه منك وإن عفوت.


وقال الفضيل أيضًا لشعيب بن حرب بالموسم: إن كنت تظن أنه شهد الموقف أحدٌ شرًا مني ومنك، فبئس ما ظننت. ودعا بعض العارفين بعرفة، فقال: اللهم إن كنت لم تقبل حجي وتعبي ونصبي فلا تحرمني أجر المصيبة على تركك القبول مني. ووقف بعض الخائفين بعرفة إلى أن قرب غروب الشمس فنادى: الأمان فقد دنا الانصراف، فليت شعري ما صنعت في حاجة المساكين.


ووقف بعض الخائفين بعرفة فمنعه الحياء من الدعاء فقيل له: لم لا تدعو؟ فقال: ثَم وحشة، فقيل له: هذا يوم العفو عن الذنوب فبسط يديه ووقع ميتًا.


ووقف بعض الخائفين بعرفات وقال: إلهي الناس يتقربون إليك بالبدن وأنا أتقرب إليك بنفسي، ثم خرَّ ميتًا.



للناس حج ولي حج إلى سكني *** تهدي الأضاحي وأهدي مهجتي ودم



ما يرضى المحبون لمحبوبهم بإراقة دماء الهديا، وإنما يهدون له الأرواحا:


أرى موســــــم الأعيـــــــاد أنـــــس الحبائــب *** وا العبد عندي غير قــــرب الحبائب
إذا قــــــــربوا بـــــــــدنا فقـربانـــي الهـــــوى *** فـــــــإن قبلوا قلبي وإلــــا فقـــالبــي
وما بـــــــــــــــــدم الأنـــــــعام أقضي حقوقهـم *** ولكــــــــن بما بين الحشــا والترائب


كان أبو عبيدة الخواص قد غلب عليه الشوق والقلق في الطريق ويقول: واشوقاه إلى من يراني ولا أراه، وكان بعد ما كبر يأخذ بلحيته ويقول: يا رب قد كبرت فاعتقني، ورؤي بعرفة وقد ولع به الوله وهو يقول:


سبحــان مــن لــو سجدنـا بالعيون له *** على حمى الشوك والمحمى من الإبر
لــم نبلــغ العشــر من معاشـــر نعمته *** ولا العشيــر ولا عشــــرا من العشر
هـــو الرفيـــع فــلا الأبصــار تدركــه *** سبحانـــه مـــن مليـــك نافــــذ القدر
سبحان من هو أنسى إذا خـــــلوت به *** في جوف ليلي وفي الظلماء والسحر
أنت الحبيـــب وأنت الحب يا أمـــــلي *** من لي سواك ومن أرجوه يا ذخـــر


ومن العارفين من إن بالموقف يتعلق بأذيال الرجاء
قال ابن المبارك: جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة وهو جاث على ركبتيه وعيناه تهملان، فقلت له: من أسوأ هذا الجمع حالًا ؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر لهم.


وروي عن الفضيل أنه نظر إلى تسبيح الناس وبكائهم عشية عرفة فقال: أرأيتم لو أن هؤلاء ساروا إلى رجل فسألوا دانقا -سدس درهم- أكان يردهم، قالوا: لا، قال: والله للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق.


وإنــي لأدعـــو الله أطلــب عفـــوه *** وأعلـــم أن الله يعفـــو ويغفـــر
لئن أعظم الناس الذنـــــوب فإنـــها *** وإن عظمت في رحمة الله تصغر


الواقفون بعرفة
وعما قليل يقف إخوانكم بعرفة في ذلك الموقف فهنيئا لمن رزقه، يجاورن إلى الله بقلوب محترقة ودموع مستبقة، فكم فيهم من خائف أزعجه الخوف وأقلقه، ومحب ألهبه الشوق وأحرقه، وراج أحسن الظن بوعد الله وصدقه، وتائب نصح لله في التوبة وصدقه، وهارب لجأ إلى باب الله وطرقه، فكم هنالك من مستوجب للنار أنقذه الله وأعتقه، ومن أسير للأوزار فكه وأطلقه، وحينئذ يطلع عليهم أرحم الرحماء ويباهي بجمعهم أهل السماء، ويدنو ثم يقول: ما أراد هؤلاء؟ لقد قطعنا عند وصولهم الحرمان، وأعطاهم نهاية سؤلهم الرحمن، وهو الذي أعطى ومنع، ووصل وقطع.


ما أصنع هكذا جرى المقدور *** الجبر لغيري وأنا المكسور
أسير ذنب مقيد مأســــــــــور *** هل يمكن أن يبدل المسطور


من فاته في هذا العام القيام بعرفة فليقم لله بحقه الذي عرفه، من عجز عن المبيت بمزدلفة فليبت عزمه على طاعة الله وقد قربه وأزلفه، من لم يمكنه القيام بأرجاء الخيف فليقم لله بحق الرجاء والخوف، من لم يقدر على نحر هديه بمنا فليذبح هواه هنا وقد بلغ المنا، من لم يصل إلى البيت لأنه منه بعيد فليقصد رب البيت فإنه أقرب إلى من دعاه ورجاه من حبل الوريد، نفحت في هذه الأيام نفحة من نفحات الأنس من رياض القدس على كل قلب أجاب إلى ما دعى.


يا همم العارفين بغير الله لا تقنعي، يا عزائم الناسكين لجمع أنساك السالكين اجمعي، لحب مولاك أفردي وبين خوفه ورجائه اقرني وبذكره تمتعي، يا أسرار المحبين بكعبة الحب طوفي واركعي، وبين صفاء الصفا ومروة المروى اسعي وأسرعي، وفي عرفات الغرفات قفي وتضرعي، ثم إلى مزدلفة الزلفى فادفعي ثم إلى منى نيل المنى فارجعي، فإذا قرب القرابين فقربي الأرواح ولا تمنعي، لقد وضح الطريق ولكن قل السالك على التحقيق وكثر المدعي.


لئــن لــم أحــج البيــت أو شـط ربعـه *** حججت إلى من لا يغيب عــن الذكــر
فأحرمــت مــن وقتــي بخلع نقائصي *** أطــــوف وأسعى في اللطائف والبـــر
صفاي صفائي عن صفاتي ومـروتي *** مـروءة قلبي عـن ســـوى حبــه فقـــر
وفــي عرفــات الأنــس بالله مـوقفـي *** ومـزدلفـى الزلفـى لديـه إلـى الحشــــر
بــت المنــى منـي مبيتــي فـي منـــا *** ورمي جماري جمر شوقي في صدري
وأشعــار هــدي ذبــح نفسي بقهرهـا *** وخلعــي بمحـــو الكائنـــات عــن السر
ومـــن رام نفـــرا بعــد نســك فإنني *** مقيـــم على نسكـــي بـــلا نفـــــــــــــر