الوسطية في الاسلام


قال الإمام الطبراني: "وأما الوسط فإنه في كلام العرب: الخيار, يقال منه: فلان وسط الحسب في قومه, أي متوسط الحسب, إذا أرادوا بذلك الرفع في حسبه.
قال زهير بن أبي سُلمى في الوسط:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم ***إذا نزلت إحدى الليالي بعظمِ

والله تعالى إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين, فلا هم أهل غلو فيه, غلو النصارى الذين غلوا بالترهب, وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه ولا هم أهل تقصير فيه, تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله, وقتلوا أنبياء هم, وكذبوا على ربهم, وكفرو به(4).


وقال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند قوله تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا): "أي: عدلاً وخيار, وما عدا الوسط فأطراف داخلة تحت الخطر, فيجعل الله هذه الأمة وسطاً في كل أمور الدين, وسطاً في الأنبياء بين من غلا فيهم كالنصارى, وبين من جفاهم كاليهود, بأن آمنوا بهم كل على الوجه اللائق بذلك.

ووسطاً في الشريعة, لا تشديدات اليهود وآصارهم, ولا تهاون النصارى.

وقال سيد قطب رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: "إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعاً, فتقيم بينهم العدل والقسط, وتضع لهم الموازين والقيم, وتبدي فيهم رأيها فيكون هو الرأي المعتمد, وتزن قيمهم وتصوراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم فتفصل في أمرها, وتقول: هذا حق منها وهذا باطل. لا التي تتلقى من الناس تصوراتها وقيمها وموازينها. وهي شهيدة على الناس, وفي مقام الحكم العدل بينهم وبينما هي تشهد على الناس هكذا, فإن الرسول هو الذي يشهد عليها, فيقرر لها موازينها وقيمها, ويحكم على أعمالها وتقاليدها, ويزين ما يصدر عنها, ويقول فيها الكلمة الأخيرة.

"أمة وسطاً" في التصور والإعتقاد لا تغلوا في التجرد الروحي ولا في الإرتكاس المادي.
إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد, أو جسد تتلبس به روح.

"أمة وسطاً" في التفكير والشعور, لا تجمد على ماعلمت وتغلق منافذ التجربة والمعرفة.
ولا تتبع كذلك كل ناعق, وتقلد تقليد القردة المضحك, إنما تستمسك بمالديها من تصورات ومناهج وأصول, ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب, وشعارها الدائم: الحقيقة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها, وفي تثبت ويقين..

وفهم الوسطية يتحدد في معنيين هما:

الأول: الخيرية والأفضلية.
الثاني: التوازن والعدل والقيام بالحق, والبينية بين الإفراط والتفريط.
والوسطية والعدل والبينية تقتضي أن يكون هناك طرفان مذمومان يكتنفان الوسط والعدل.
أحدهما: ينزع إلى الغلو والإفراط.
والآخر: ينزع إلى التفريط والإضاعة والجفاء.
وفي هذا المعنى يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "وقال بعض السلف: ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط, وإما إلى مجاوزة, وهي الإفراط, ولا يبالي بأيهما ظفر: زيادة أو نقصان"

ويحسن بنا في هذا المقام أن نتعرض لمفهوم الغلو والإفراط, ومفهوم الجفاء والتفريط بعد أن اتضح لنا معنى الوسط والعدل والتوازن.

أولاً: الغلو والإفراط:

قال الجوهري: "وغلا في الأمر يغلو غلواً أي: جاوز فيه الحد"
وقال في اللسان: "وغلا في الدين والأمر يغلو غلواً: جاوز حده, وقال في التنزيل (لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ), سورة النساء: 171... وقال بعضهم: غلوت في الأمر غلواً وغلانية وغلانياً إذا تجاوز فيه الحد وأفرطت فيه... ويقال للشيئ إذا ارتفع: قد غلا, وغلا النبت: أي ارتفع وعظم"

وأما في السنة فقد ورت أحاديث كثيرة تنهى عن الغلوا والتشديد في الدين, وذكر بعضها هنا يساعد في فهم معنى الغلو وحدوده.
الحديث الأول: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم, غداة جمع: "هلم القط لي الحصى", فقلنا له حصيات من حصى الخذف, فلما وضعهن في يده قال: "نعم بأمثال هؤلاء وإياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين"
الحديث الثاني: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هلك المتنطعون". قالها ثلاثاً(
قال النووي: "هلك المتنطعون: أي المتعمقون المغالون المجازون الحدود في أقوالهم ..

ثانيا:التفريط والجفاء:

قال في اللسان: "التفريط هو التضييع. وقال: (وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا), سورة الكهف: 28.
أي: كان أمره التفريط وهو تقديم العجز, وفرط في الأمر يفرط فرطاً. أي: قصر فيه وضيعه حتى فات, وكذلك التفريط"


وقال الجوهري: "فرط في الأمر فرطاً: أي قصر فيه وضيعه حتى فات, وكذلك التفريط"
وقد وردت مادة "فرط" في القرآن في عدة مواضع:
قال تعالى: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا), سورة الأنعام: 31.


قال ابن عباس: "لايفرطون". لا يضيعون.

وبالتعرف على معنى التفريط نكون قد أحطنا علما بالطرفين المذمومين المخالفين للوسطية والعدل, هما: طرف الغلو والإفراط, وطرف التفريط والتقصير, وأن الميزان العدل وسط بينهما في كل الأمور.


تنبيه:
مسألة الموازنات في المصالح والمفاسد شأنها عظيم ولا يصلح أن يشتغل بها إلا الراسخون في العلم, المجتهدون الربانيون الذين حباهم الله رسوخاً في العلم والتقوى, وحماهم من الهوى وأغراض الدنيا, فهؤلاء هم الذين تتبع الأمة فتاواهم ومواقفهم لأنهم وإن بدا للوهلة الأولى أن في فتاواهم تقصيرًا, فإنهم قد انطلقوا في تقريرها من ضوابط شرعية دقيقة, ومن تجرد وإخلاص.
فمثل هذه الفتاوي لا يقال عنها إنها تفريط وتقصير, وإنما هي من العدل والحق إن شاء الله تعالى.
نعم لو أن من يتصدى لذلك كان من غير المعروفين بالرسوخ في العلم او من المعروفين بالهوى وحظوظ الدنيا, فإن فتاواهم في الغالب تنطلق من هوى أو دون ضوابط شرعية, وحينئذ يصدق على أمثال هؤلاء وصفهم بالتفريط والإضاعة.


فما أعظمه من دين, وما أجله من تشريع جاء لإسعاد الناس وإخراجهم من ظلمات الشرك والبغي والعدوان إلى نور التوحيد والعدل والقسطاس الممنق والمستقيم, فنحمده سبحانه على الهداية لهذا الدين القويم العظيم ونسأله عز وجل أن يثبتنا عليه وأن يميتنا عليه, وأن يجعلنا من الداعين إلى سبيله المستقيم, وأن يكتب على أيدينا إخراج من يشاء من عباده من عبادة العباد إلى عبادته وحده سبحانه, ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام, ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا الآخرة.