لا تبخسوا الناس أشياءهم




يخطئ كثير من الناس عند حكمهم على الآخرين؛ فيميلون كل الميل إلى فئة من الناس، ويرفعونها إلى درجة ربما تعلو درجة الملائكة ، في حين أنهم يجورون في حكمهم على مخالفيهم، فيهبطون بهم إلى درجة دون درجة الأبالسة الشياطين.

وثمة صورةٌ أخرى ـ تتكرر يومياً تقريباً ـ يغيب فيها الإنصاف، وهي أن بعض الكتاب والمتحدثين حينما ينتقد جهازاً حكومياً، أو مسؤولاً عن أحد الوزارات، يحصل منه إجحاف وبخس للجوانب المشرقة في هذا الجهاز أو ذاك، ويبدأ الكاتب أو المتحدث ـ بسبب النفسية التي دخل بها ـ لا يتحدث إلا من زاوية الأخطاء، ناسياً أو متناسياً النظر من زاوية الصواب والحسنات الكثيرة التي وُفق لها ذاك المرفق الحكومي، أو ذلك الشخص المسؤول!
وما هكذا يربي القرآن أهله، بل القرآن يربيهم على هذا المعنى العظيم الذي دلّت عليه هذه القاعدة المحكمة: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}.
وقد يقع البخس ـ أحياناً ـ في تقييم الكتب أو المقالات على النحو الذي أشرنا إليه آنفاً، ولعل من أسباب غلبة البخس على بعض النقاد في هذه المقامات، أن الناقد يقرأ بنية تصيد الأخطاء والعيوب، لا بقصد التقييم المنصف، وإبراز الصواب من الخطأ، عندها يتضخم الخطأ، ويغيب الصواب.


وصدق الشاعر حينما قال:

ولست برادٍّ عيب ذي الودِّ كله *** ولا بعض ما فيه إذا كنت راضيا

فعين الرضا عن كل عيب كليلة *** كما أن عين السخط تبدي المساويا



ولا يلتفت هؤلاء إلى أن السماوات والأرض قامتا على القسط، واستقام أمر الدنيا كله بالعدل؛ لذا فإن الظلم ظلمات في الدنيا والآخرة.

إن الله تعالى يطالب المسلمين بأن يكونوا منصفين مقسطين، يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)﴾ (المائدة)،

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم، كحال أهل البدع" (منهاج السنة 337/4)، والمقصود بالعدل في وصف الآخرين هو العدل في ذكرى المساوئ والمحاسن، والموازنة بينهما؛ فإذا حكمت على شخص أو فكرة فاذكر محاسنها واذكر مساوئها.

وإنك لتجد كثيرًا من يذم غيره بذكر مساوئه ويغضُّ الطرف عن محاسنه؛ بسبب الحقد والبغضاء، أو لتنافس مذموم بينهما، وهذا غالبًا ما يقع بين الأقران، ولكن المنصفين هم الذين يذكرون المرءَ بما فيه من خير أو شر، ولا يبخسونه حقه، ولو كان الموصوف مخالفًا لهم في الدين والاعتقاد أو في المذهب والانتماء.

لقد أبدع الإمام الذهبي رحمه الله حينما حرص كل الحرص على الإنصاف والعدل وهو يترجم للنبلاء والأعلام في كتابه القيِّم (سير أعلام النبلاء)؛ فقد ترجم لعدد ممن اشتُهِرَ بين الناس وكانوا من أهل البدع أو الفسق أو الإلحاد؛ فلم يبخسهم حقَّهم من صفات جيدة، بل أنصفَهم بذكر ما لهم وما عليهم، ومن أمثلة ذلك ما يلي:

* وقال عن الحكم بن هشام: "وكان من جبابرة الملوك وفسَّاقهم ومتمرديهم، وكان فارسًا شجاعًا، فاتكًا ذا دهاء وعتوٍّ وظلم، تملَّك سبعًا وعشرين سنة" (السير: 8/254).

* وقال عن المأمون الذي تبنَّى فتنة القول بخلق القرآن، وامتحن علماء أهل السنة بذلك، وكان من أكثر رجال بني العباس حزمًا وعزمًا، ورأيًا وعقلاً، وهيبةً وحلمًا، ومحاسنه كثيرة في الجملة" (السير: 10/273).

* وقال في ترجمة الجاحظ الأديب المعتزلي: "العلاَّمة المتبحِّر ذو الفنون، وكان أحد الأذكياء، وكان ماجنًا قليل الدين، له نوادر" (السير: 11/256).

* وقال في ترجمة الشريف المرتضى: "وكان من الأذكياء الأولين، المتبحِّرين في الكلام والاعتزال والأدب والشعر، لكنه إماميٌّ جلدٌ، نسأل الله العفو" (السير: 17/589).

ويقول أيضا شيخ الاسلام إبن تيميه :
في كتاب (منهاج السنة النبوية) (4/543): "ومن سلك طريق الاعتدال، عظَّم من يستحق التعظيم، وأحبَّه ووالاه، وأعطى الحق حقه، فيعظِّم الحق، ويرحم الخلق، وإن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات؛ فيُحمَد ويُذمَ، ويُثاب ويعاقَب، ويُحب من وجه، ويُبغض من وجه، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة؛ خلافًا للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم".

إنه العدل ولا شيء أجمل من العدل، وإنه الإنصاف والقسط الذي قامت به السماوات والأرض، فليحذر الذين يمارسون الظلم بأقوالهم أو أفعالهم من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون، وليعلموا أن للظالم عاقبةً وخيمةً، وله يومًا يندم فيه، فضلاً عما يبتليه الله في دنياه قبل آخرته.

وصدق أحمد شوقي حينما قال:

وقفَ الهُدهُدُ في با بِ سُليمانَ بذِلَّهْ

قال: يا مولايَ، كن لي عِيشَتي صارت مُمِلَّه

متُّ من حَبَّةِ بُرٍّ أحدَثتْ في الصدر غُلَّه

لا مِياهُ النَّيلِ ترْويها ولا أَمواهُ دِجْله

وإذا دامتْ قليلاً قتلْتني شرَّ قِتْله

فأشار السيِّدُ العا لي إلى مَن كان حوْلَه

قد جَنَى الهدهُدُ ذنْبًا وأتى في اللؤم فَعْلَه

تلك نارُ الإثمِ في الصَّدْ رِ، وذي الشكوىَ تَعِلَّه

نسأل الله تعالى أن يرزقنا الإنصاف من أنفسنا.. والإنصاف لغيرنا،وأن يجعلنا من المتأدبين بأدب القرآن ...