الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن اهتدى بهداه واستن بسنته إلى يوم الدين ، اللهم آمين . أما بعد :


كم أرخينا آذاننا لسماع المواعظ !؟ وكم من عبر رأينا في أحوال خلق الله !؟ وكم من ملمات أصابت غيرنا إعتبر بها منا من إعتبر وأعرض عنها من أعرض !؟ كم حمدنا ربنا على المعافاة من خطوب الدنيا ونوازلها وكم سألنا الله السلامة والنجاة من فتن الدنيا بألسنتنا ، إلا أن حقيقة قلوبنا تركن إلى الدنيا وتلهث خلف متاعها ، والله المستعان !
شاء الله أن أقف على أية تختصر حقيقة الدنيا تأملتها فأحدثت في وجداني مالم يحدثه أي موقف وعبرة أو عظة سمعتها من قبل ، كيف لا والواعظ هنا ربنا جل جلاله وتقدست أسماءه ومن أحسن من الله قيلا ، ومن أحسن من الله حديثا .
قال الله جل وعلا في سورة الكهف التي نقرأها كل جمعة ولكن قد نغفل عما فيها من معان ظاهرة أو خفية
( وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا ) .
فلنتأمل سويا حقيقة الدنيا وقد رأيتها عيانا كما ضرب الله تعالى لنا هذا المثل في زرع نزرعه في الحدائق في فصل الربيع ، ذلك النوع من الزرع قصير الأجل الذي يخضر ويزهو في فترة الربيع الممتدة لأيام قصيرة كما نخضر ونزهو بشبابنا فما يلبث أن يأتي الصيف فيحرقه وييبسه فيموت فلا تنفع فيه سقيا ولا عناية ولو ارتوى بمياه الأرض كلها ما أحيته من جديد . وما أعمارنا وأحوال حياتنا غير ذلك ولا أفضل من هذا الوصف بمثقال ذرة . إلا أن غرورنا بطول الأمل ونحن نعلم علم اليقين أن نهايتنا ونهاية الدنيا كلها إلى يبس وزوال مستمر لا ينقطع مشوبا بذلك الركض المحموم إلى ما لا يشبعنا بلوغه فلا يملأ عيني ابن آدم إلا التراب ، وليس أكثر من ركضنا فرارا إلى الدنيا لا منها ، إلا غفلتنا !
وضرب الله جل وعلا الكثير في محكم آياته من الأمثال في الدنيا، ولكنه قل ما تمتلئ قلوبنا بما تتلوه ألسنتنا فتلك الأمثال لا يعقلها إلا العالمون لا الجاهلون الغافلون المصرفون عن تدبر هذا القرآن وتعلمه
قال الله جل وعلا :
( اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّـهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴿٢٠﴾ ” سورة الحديد
لو لم نقف إلا على ختام هذه الآية الكريمة لكفانا منها اختصارا معجزا في جمع كل حقائق الدنيا في كلمات قليلة بالغة الإعجاز ( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) .


وفي كتب التفاسير عجب العجاب مما يأخذ الألباب المتأملة المتدبرة لمعاني هذه الآية ، فتأملوا معي :
يقول الإمام الطبري في تفسير الآية : " وما لذات الدنيا وشهواتها وما فيها من زينتها وزخارفها إلا متاع الغرور ، وإلا متعة يتمتعكموها الغرور والخداع المضمحل الذي لاحقيقة له عن الامتحان ، ولا صحة له عن الاختيار ، فأنتم تتلذذون بما متعكم الغرور من دنياكم ثم هو عائد عليكم بالفجائع والمصائب والمكاره فلا تركنوا إلى الدنيا فتسكنوا إليها فإنما أنتم منها في غرور تتمتعون ، ثم أنتم بعد قليل راحلون ، ثم قال والغرور مصدر من قول القائل : غرني فلان فهو يغرني غرورا بضم الغين وأما إذا فتحت الغين من الغرور فهو صفة الشيطان ، الذي يغر إبن آدم .
وقال ابن كثير في تفسيره للآية : " ما الحياة الدنيا إلا الغرور تصغير لشأنها ن وتحقير لأمرها ، وأنها دنيئة فانية ، قليلة زائلة كما قال تعالى : بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى . وفي الحديث والله ما الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم إصبعه في اليم ، فلينظر بم يرجع إليه " .
وقد يظن الظان من الناس أن حديثنا عن غرور الدنيا هو دعوة للتقشف والزهد والإحجام عن التمتع بما أحل الله من الطيبات من الرزق ونجد من بيننا من يستشهد بقوله تعالى ( ولا تنسى نصيبك من الدنيا ) في الوقت الذي لم نجعل في أيامنا لآخرانا نصيب ، فالرجل منا مفتون بالمال والمناصب والكسب والمرأة مشغولة بمنافسة قريناتها والزينة ، حتى في تلك الأمور المحمودة من علم وتربية وتنمية وبناء في شؤون الدنيا نغفل أن نحتسب ذلك طاعة لله وسعيا في مرضاته فنحول رصيد تلك الأعمال إلى ميزان الآخرة .
فحري بنا أن نجدد النيات ونحتسب المباحات ناهيك عن الصالحات فقد قيل : بصلاح النيات تصبح العادات عبادات وبفساد النيات تصبح العبادات عادات . فالعادات من أكل شرب ونوم غير ذلك إذا احتسبها العبد طاعة لله وامتثال لأمره وكف عن نهيه كانت بميزان الصالحات من أعماله بإذن الله ، وقد نبلغ بنايتنا من الأجور مالا تدركه أعمالنا وطاقتنا وإذا صلحت نياتنا فقد نبلغ بإذن الله منازل الأبرار .
فانظر في قوله تعالى مثالين للبذل والإنفاق وافطن لعواقب الباذلين في الآيتين فرغم توحد العمل اختلفت العاقبة :
قال الله جل وعلا : ( مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ ) وقوله تعالى : ( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) ما الذي جعل عاقبة الباذلين في الآيات إلا ميزان الأيمان واحتساب نية العمل .
إذن في أحوال زمننا الذي عجزنا فيه أن نأخذ من الليل ما أخذ منه سلفنا الصالح ، وزمن كثرت فيه الملهيات والمشغلات فلا نفرط بمثل هذا العمل اليسير تحرير النية وتوجيها إلى بارئها في المنشط والمكره وقياما وقعودا وشبعا وجوعا وذلك في أدنى الأحوال ، إلا أن نكون من الملحين على الله بالدعاء بأن يرزقنا علو الهمة وقوة الطاقة في فيما يرضى من فضائل الأعمال والسداد في إتمام الواجبات والإحسان بالنوافل ، وأن كان ذلك صعبا في بداياته إلا أن الله أكرم من أن يمنع فضله ومدده وسداده على الصادقين من عباده ، فقد وعد ووعده الحق في سورة العنبكوت : (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
إن الحديث في علاقتنا مع الدنيا يطول بطول أملنا فيها وغفلتنا وتقصيرنا ، وقد جاء في الكتاب المجيد من الآيات ما يفتح الله بها على قلوب العارفين ، وقال الواعظون في ذلك ما قالوا .
قال الإمام ابن الجوزي في صيد الخاطر : " الناس نيام وإذا ماتوا انتبهوا " .
وما خاطرتي هذه إلا جهد المقل ولفتة يسيرة أذكر بها نفسي عل الله أن ينفعني بها وأياكم قبل فوات الأوان !
ربنا اجعلنا مما نال عفوك وعافيتك بالتقوى فأحسن العمل ونجى من عقابك وفاز بغفرانك فرزقته جنانك وذلك والله هو الفوز العظيم .