القواعد الذهبية للعلاقات الزوجية في ضوء القرآن الكريم


تمهيد


مكانة الأسرة في الإسلام

الأسرة هي اللبنة الأولى لبناء المجتمع، وعلى قدر إحكام بناء الأسرة، وإحاطتها بسياج من الدين والخلق والتعليم، وتزوديها بالمهارات المفيدة، والعادات الطيبة، والتقاليد الحسنة، يكون تشكُّل المجتمع، وتتميز علاقة أفرداه، وتظهر أهدافه في الحياة، ويكون تأثره وتأثيره بما سواه من مجتمعات وأمم.
وفي الفقرات التالية ما يميط اللثام عن أهمية الأسرة ومنافعها وضرورة الاعتناء بها، وحمايتها من التصدع والانهيار.
1- تنويه القرآن بشأن الأسرة:
لقد عظم القرآن شأن الأسرة، وجعلها الله آية من آيات قدرته، فقال تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}([1]) كما جعل الله الأسرة منَّةً من أعظم مننه، ونعمةً من أجلِّ نعمه، فقال سبحانه:
{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ}([2]).
ومن أدلة تعظيم القرآن شأن الزواج والأسرة، أن الله جعل العلاقة الزوجية لا تضاهيها علاقة، وجعل عقدها ميثاقًا غليظًا لا يدانيه عقد، فقال سبحانه: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}([3]). كما نوه بشأن الأسرة الأولى على وجه الأرض، وعظم شأن الأرحام فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ}([4])وقال تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}([5]) وقال جل جلاله: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}([6]).ومن الأدلة الجلية على أهمية الأسرة في الإسلام، إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الشيطان لا يفرح بشيء فرحه بهدم بيت من بيوت المسلمين، وتشتيت أسرة من أسرهم، ففي الحديث: «إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئًا، ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، فيدينه منه، ويقول: نعم أنت! »([7]).2 - أهمية الأسرة:
الأسرة من أعظم مظاهر تكريم الإنسان، وتميزه عن الحيوان، فهي رباط وثيق، وميثاق غليظ، يمتد أثرها امتداد الحياة، وتبقى روابطها وصلاتها بعد الوفاة، وقد اقتضتها مصلحة الإنسان، بل لا تتم رعاية الضرورات الخمس - في أغلب الأحيان - وهي الدين والنفس والعقل والعرض والمال، إلا بوجود الأسرة الحانية، ومن الفوائد الجليلة للأسرة ما يأتي:تحقيق السكن النفسي والروحي، وإيجاد بيئة مغمورة بالمحبة والرحمة، والبر والتآلف، كما قال تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}([8]).
ب - إنجاب الأولاد الشرعيين، والمحافظة على الأنساب، وفي هذا كرامة للولد، وتخليد للولد، وكل مولود يأتي من غير طريق الأسرة يكون لقيطاً طريداً منبوذاً، لا يقبله حتى من كان سبباً في وجوده.ج - حاجة الطفل إلى جو من الحنان، والحب، والعطف، حتى ينشأ نشأة سوية، فيها تفاؤل، ورغبة في الحياة والعطاء، وشعور بأن هناك من يرعاه، ويحوطه ويقبله، فينشأ نشأة سوية، ويشتد عوده رويدًا رويدًا.
د - الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي تطول طفولته، ولا يضارعه في ذلك غيره([9]) فهو لا يستقل تمام الاستقلال عن أسرته إلا بعد سنوات كثيرة، وقد اقتضت حكمة الله ذلك لحاجة الإنسان إلى تعلم اللغة والدين والعادات، واختزان النتاج الحضاري الذي سبقه إليه آباؤه وأجداده، والأسرة تؤمن له شيئاً كثيراً من ذلك.
هـ - الأسرة هي المحضن الأول، والمدرسة الأولى، التي يتلقى فيها الطفل الحق والصواب، وأصول الأخلاق، وطريقة التعامل، فيتهيأ للخروج إلى المجتمع وقد أحاط بجملة صالحة، من عادات مجتمعه ودينه وأخلاقه، وأسلوب التعامل الذي يبعده عن المزعجات، ويجنبه المهلكات.
و - حاجة الطفل إلى التعلم عن طريق المحاكاة، والأسرة تؤمن له ذلك، فهو يرى والديه الذين يغمرانه بالحب والعطف يقيمان الصلاة، ويصومان رمضان، ويقرآن القرآن، ويعجبهما السلوك الحسن، ويسوؤهما السلوك السيئ، فتنطبع في ذهنه هذه الصورة، ويترسم خطاها فيما بعد، وتصبح جزءًا من حياته([10]).
ز - حاجة الكبار إلى الأسرة، فالإنسان مدني بالطبع يحب الاجتماع، ويكره الوحدة، والأسرة أعظم مظهر حضاري وديني يؤلف بين مجموعة، وهي أروع مثل عرفته البشرية في التعاون والوفاء، والحماية والتكافل، مع ما يغشاهم من الرحمة، ويحفهم من المحبة.ح - لا تكتمل رجولة الرجل، ولا أنوثة الأنثى إلا بهذا الرباط الوثيق، الذي سماه الله «ميثاقاً غليظ»، ففي الرجال فجوات تسدها النساء، وفي النساء نواقص يكملها الرجال، وباجتماعها يكتمل الاثنان، قالت أمامة بنت الحارث التغلبية وهي توصي ابنتها: «أي بنية! لو استغنت امرأة عن زوج بفضل مال أبيها لكنت أغنى الناس عن ذلك، ولكنا للرجال خلقنا كما خلقوا لنا»([11]).
ط - سلامة الأفراد والمجتمع من الانحلال الخلقي، وانتشار الأوبئة، والأمراض الجنسية، التي تنتج من السفاح، والعلاقات غير الشرعية، قال صلى الله عليه وسلم في حديث طويل: «لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون، والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا»([12]).ي - من بركات الزواج، وتكوين الأسرة، كمال دين العبد، وإعانته على التقوى، وتيسير غض بصره، وحفظ فرجه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تزوج العبد فقد كمل نصف الدين، فليتق الله في النصف الباقي»([13]) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج»متفق عليه([14]).
وفوائد الأسرة وأهدافها أكثر من أن تحصر، والمقصود الإشارة إلى ذلك، لحمل كل فرد من أفرادها على الذود عنها، وحمايتها من زوابع الاختلاف، وأعاصير الأهواء.
3 - متطلبات أساسية حتى تؤدي الأسرة وظائفها:الأسرة في الإسلام أقيمت على أساس ثابت ودقيق، مستمد من الواقع والحاجة، ومطابق للفطرة، وحتى تؤتي الأسرة ثمارها، وتحقق المأمول منها، لابد من وعي الزوجين، وإحاطتهما بثقافة إسلامية جيدة، مع الصدق في التطبيق.
ومما يؤسف له أن الواقع الذي تعيشه الأمة الإسلامية اليوم، والانفتاح الإعلامي والمادي، وعمق تأثيره على الكبار والصغار، والانبهار بمعطيات الحضارة الغربية، قد أدى إلى تفكك كثير من أواصر المجتمع، وأسباب ارتباطه، ونال الأسرة المسلمة من ذلك الشيء الكثير، وصار بعض الأسر مبنية على شفا جرفٍ هارٍ، فتتعرض للانهيار عند أدنى زلزال خلاف، أو عاصفة أنانية وشح.وقد رأيت أن أجلي قواعد قيمة، وتوجيهات نيرة، ومهذبات سلوك مؤثرة، يقرؤها الزوجان في كتاب الله، ويطلعان عليها في سنة رسول الله لكن الغفلة عن التدبر، تحرمهما الاستفادة، وتمنعهما من التأثر، فلعل في جمعها وشرحها، وتقريب معانيها بأسلوب ميسر، وعبارة لا تنبو عن الأذهان، ما يحقق سعادة الزوجين، ويحمي أسرتهما من التصدع والانهيار، والشقاء ونكد الحياة، فإليك هذه القواعد الذهبية، التي استنبطت من نص الكتاب والسنة والله تعالى يقول: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}([15]). وعلى قدر تمسك الزوجين بهدي الكتاب والسنة، تكون سعادتهما في الدنيا، وفلاحهما في الآخرة، مصداقًا لقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}([16]).
القاعدة الأولى

حسن اختيار الزوجين

عقد الزواج يقصد به الديمومة، ويرجى من ورائه تحقيق الرحمة والمودة والسكينة، كما قال تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}([1]).
كما أن من أعظم أهدافه إنشاء أسرة، يستظل بها الزوجان أولاً، والأولاد ثانياً، ومن وراء ذلك العائلة والمجتمع والأمة، ولذا ينبغي حسن اختيار الزوجين، ومراعاة مواصفات معينة، على قدر الجهد والطاقة، حتى يحقق الزواج أهدافه، ويجني الطرفان، ومن له علاقة بهما ثماره، وسأذكر بعض ما جاء في الكتاب والسنة، من الصفات الحسنة، التي ينبغي مراعاتها عند الاختيار وقبل العقد:

1 - صفات الزوجة([2]): جاء في الكتاب والسنة مواصفات معينة للزوجة الصالحة، المؤهلة للارتباط بها، حتى تقوم الحياة الزوجية على الهناءة والتعاون، والصبر والتحمل، وعمق المودة والرحمة، وصدق المحبة، فإن غابت فحسن المجاملة، وجميل المعاشرة، ومما جاء في الكتاب والسنة في هذا الشأن: أولًا: قوله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا}([3]):مسلمات: أي خاضعات لله بالطاعة([4]).مؤمنات: مصدقات بالله ورسوله([5]).قانتات: القنوت في اللغة: الطاعة، هذا هو الأصل([6])، ويرد بمعان متعددة([7]).
أما معنى القنوت في الآية: فهو لزوم طاعة الله مع الخضوع له([8])، ويندرج في ذلك لزوم طاعة الزوج، إذ إن طاعة الزوج من طاعة الله، بل إن المقصود من الخبر في هذه الآية وفي قوله تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ}([9]) الأمر بطاعة الزوج والقيام بحقه([10]).تائبات: أي: راجعات إلى ما يحبه الله منهن من طاعته عما يكره منهن([11])، ومن ذلك ندمهن على ما فرط منهن في حق أزواجهن، إذ إن ذلك مما يسخط الله، كما في الحديث: «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت، فبات غضبان عليها، لعنتها الملائكة حتى تصبح»([12]) متفق عليه.
عابدات: متذللات لله بطاعته([13])، كأن العبادة امتزجت بقلوبهن حتى صارت ملَكَة لهن([14]).
سائحات: أي صائمات، هذا قول ابن عباس، ومجاهد، وجمهور المفسرين([15]) تشبيهاً للصائم بالسائح من بني إسرائيل وغيرهم، الذي يقلل من الطعام والشراب والنساء([16]).وقيل: السياحة هي السير في الأرض، والمراد به سير خاص محمود شرعًا، وهو السفر الذي هو قربة لله وامتثال لأمره، مثل سفر الهجرة والجهاد والحج([17]).
ثانيًا: - قوله تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ}([18]) والصلاح والقنوت يندرج فيما ذكر في الآية السابقة، أما معنى قوله تعالى: {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} أي: حافظات لفروجهن في غيبة أزواجهن([19])، وفرج المرأة أعظم وديعة عندها، وعفتها أعظم دعامة تقوم عليها الأسرة المسلمة، ولهذا أعلى الله شأن العفة والإحصان للذكر والأنثى، فقال تعالى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ}([20]) وقال: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ}([21]) وحرم الله تعالى على المؤمنين نكاح الفاجرة، وإنكاح الفاجر فقال: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}([22])ثالثًا: - قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}([23]) ومعنى «بعضهم أولياء بعض»: أي يتناصرون ويتعاضدون، من الولاية، وهي النصرة والأخوة والمحبة([24]).
وإذا كانت هذه سمة أفراد المجتمع المسلم الكبير، الذين تربط بينهم رابطة العقيدة، فمن باب أولى أن تكون سمة أفراد المجتمع الصغير، وهو الأسرة، وأن يكون أفرادها - ذكورًا وإناثًا - متناصرين متناصحين، تسود بينهم الألفة والمحبة، والتعاون على البر والتقوى، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكي منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»([25])، وعلوم أن الأقربين أولى بالمعروف، والشريعة تجعل للقريب حقوقًا لا تجعلها لغيره.
وشاهد المقال: إن على الزوجين أن يتصفا بما ورد في الآية، حتى تتم سعادتهما، ويجنيا ثمرة الرابطة بينهما في الدنيا والآخرة.رابعًا: قوله صلى الله عليه وسلم: «تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك»([26]). وهذا الحديث خبر عن رغبات الرجال في النساء، وأسباب تفضيلهن، وقد حث على الظفر بذات الدين، فإن الدين يجبر نقص المرأة في الأمور المذكورة، لحسن تبعلها، وحرصها على مرضاة زوجها، طمعًا في ثواب ربها، إذ إن المشاهدة تدل على أن مال الزوجة وحسبها وجمالها ليست أسبابًا لسعادة الزوج على الدوام، بخلاف الدين.
والجدير بالتنبيه أن الحديث لا يلغي هذه الصفات، بل يجعل الدين مقدمًا عند التعارض، قال الحافظ ابن حجر: (قوله: «ولجمالها» يؤخذ منه استحباب تزوج الجميلة إلا إن تعارض الجميلة الغير دينة والغير جميلة الدينة، نعم لو تساوتا في الدين فالجميلة أولى، ويلحق بالحسنة الذات الحسنة الصفات)([27]).
ومما ينبغي التنويه به أن الإسلام لا يعارض الفطرة في طلب الجمال، فالنبي - عليه السلام - يقول: «خير النساء التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره»([28]).خامسًا: الحرص على الأبكار، لحديث جابر، «قال: قلت يا رسول الله إني حديث عهد بعرس، قال: تزوجت؟! قلت: نعم، قال: أبكر أم ثيبًا؟ قال: قلت: بل ثيبًا، قال: فهلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك؟!»([29]).ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عليكم بالأبكار، فإنهن أعذب أفواهًا، وأنتق أرحامًا، وأرضى باليسير»([30]).2 - صفات الزوج:وكما أن على الرجل أن يبحث عن صفات معينة في المرأة، فكذلك على المرأة وولاة أمرها أن يبذلوا جهدهم في اختيار الزوج المناسب، ذي الصفات الحسنة، بل إن شأن الزوج أشد، وحسن اختياره أهم، إذ إن العصمة بيد الرجل، فهو متى شاء أنهى عقد النكاح، بخلاف المرأة، فقد تعاني كثيرًا، ولا يتيسر لها الخلاص من رجل سوء، ثم إن المرأة تتضرر كثيرًا من الطلاق، بل وقد تحرم الزواج والأسرة والولد بسببه.
وما ذكر من صفات المرأة في الفقرة السابقة، ينبغي مراعاتها في حق الرجل من الإسلام، والإيمان، والقنوت، والتعبد، والتوبة...الخ، وثمت صفات أخرى للرجل وردت في الكتاب والسنة، وقد يندرج بعضها ببعض، أو فيما سبق، ولكن نذكرها لمزيد عناية بها، ومن ذلك: أولًا: - ما ورد في قوله تعالى:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّه بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}([31]). فقد أشارت هذه الآية إلى ثلاث خلال ينبغي أن يتحلى بها الزوج:أ - قوله تعالى: «الرجال» ومن معاني الرجولة في لغة العرب: الكمال والاتصاف تخرجه عن الصغر والسفه والتخنث، ففي لسان العرب: (ابن سيده: وقد يكون الرجل صفة يُعنى بذلك الشدة والكمال، قال: وعلى ذلك أجاز سيبويه الجر في قولهم مررت برجل رجل أبوه، والأكثر الرفع، وقال في موضع آخر: إذا قلت هذا الرجل، فقد يجوز أن تعنى كماله وفي معنى تقول: هذا رجل كامل، وهذا رجل: أي فوق الغلام)([32])، وبهذا نعرف سير التعبير بقوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} ولم يقل الذكور قوامون على الإناث، ففي هذا إثارة لمكامن الرجولة فيهم تجاه هذه المسئولية العظيمة، إذ لا يقوم بهذه القوامة حقاً، إلا من كانوا رجالاً حقاً([33]).
ب - قوله: {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}أي بما خصهم به من خصائص تميزهم عن النساء، فليس أهلاً للتزويج من تشبه بالنساء، وتخلى عن صفات الرجولة.
ج - قوله: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} فالنفقة من ضرورات الحياة الزوجية، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت قيس رضي الله عنها عن التزوج بصعلوك لا مال له([34])، والفقير الترب يؤمر بالاستعفاف، وحفظ الفرج والصوم، دون الزواج، قال تعالى:{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}([35]).
وفي الحديث: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء»([36]).قال الحافظ بن حجر - رحمه الله -: (وفي الحديث إرشاد العاجز عن مؤن النكاح إلى الصوم)([37])، وذكر ابن دقيق العيد عن بعض العلماء تحريم النكاح في حق من يخل بالزوجة في الوطء أو الإنفاق([38]).
نعم، لو كان الزوج فقيرًا ولكنه قوي مكتسب، يستطيع أن يقيت امرأته، ويحصل نفقة كل يوم بيومه، ورضيت الزوجة به، فلا محظور شرعًا في تزويجه، لقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}([39]) وفي صحيح البخاري: باب تزويج المعسر، ثم ساق حديث الذي لم يجد مهرًا، ولو خاتمًا من حديد، وتزويج النبي له امرأة بما معه من القرآن([40]).
ثانيًا: - الدين، إذ هو الحصن الحصين، الذي يحمي المرأة من ظلم بعلها، ومن تفلته ماديًا أو معنويًا، أو سلوكيًا، وصدق التدين يشع على الحياة الزوجية الأمن النفسي، والصحي، والاستقرار العاطفي.ويمكن الاستدلال على الترغيب بإنكاح ذي الدين الحي بقول الله تعالى في ثنايا آيات الطلاق والرجعة: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}([41])، فمن لا يقبل وعظ الله في أحكامه عامة، وفي أمور النكاح والنفقة والعشرة والطلاق والرجعة خاصة، فليس أهلاً للتزويج.
ويؤكد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إن لا تفعلوا تكن فتنة في الأرض، وفساد عريض»([42]).ثالثًا: - حسن الخلق، وهو شعبة من الدين، لكني أفردته لأهميته، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أفرده في قوله: «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه» ولا يخفى أنه من باب عطف الخاص على العام، تنويهًا بالخاص، وتنبيهًا على أن الحياة الزوجية لا تستقر بدونه، ومن حسن الخلق: بذل الندى، وكف الأذى.ومنه: التحلي بالفضائل، والتخلي عن الرذائل.ومنه: أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك([43]).وإذا كان أفراد البشرية لا تستقيم حياتهم، ولا تستمر صلاتهم، إلا بخلق قويم، وتعامل كريم، فإن أفراد الأسرة الواحدة أشد حاجة لذلك، لكثرة الاحتكاك، وقلة الانفكاك. وسيأتي مزيد بيان لهذه المزية في القاعدة الرابعة.
القاعدة الثانية

«وليس الذكر كالأنثى»

إن الإحاطة بهذه القاعدة القرآنية من أعظم أسباب هناءة الزوجين، والتفافهما، ودوام الإلفة والمحبة بينهما، ومعرفة النوازع والدوافع للسلوك البشري، ومن ثم القدرة على تجنب مواطن التدابر والتقاطع، وتقدير كل طرف للآخر عند الاختلاف.
لقد سوى الإسلام بين الرجال والنساء في أمور كثيرة، كالتكريم، وأصل التكليف، والمسؤولية، والجزاء، وحق التملك والإرث، وأهلية التعاقد...الخ.
ومع تلك المساواة ثمت فوارق جسدية، وعقلية، وفكرية، وعاطفية، وتصورية.
هناك اختلاف الطبع والفطرة، وتباين القوى العقلية، والمشارب النفسية، والاستعدادات العصبية.
هناك فوارق جلية، وأخرى خفية، وهي بمجموعها تؤدي إلى وجود جنسين، يتشابهان في أشياء، ويختلفان في أشياء، وقد قدر الخالق الكريم هذه الفوارق ليشعر كل طرف بنقص لا ينجبر إلا بالطرف الآخر، ومن ثم تقوم الأسرة، ويؤدي كل جنس ما نيط به من مسؤوليات، وينقاد بزمام الفطرة إلى تنفيذ ما كلف به من مهمات.وقبل أن أسترسل في شرح هذه القاعدة القرآنية، أنبه إلى أن الرجل والمرأة في أصل الفطرة متوادان لا متباغضان، ومتآلفان لا متضادان، ومتكاملان لا متناقضان، فالرجل لا يستغني عن المرأة، ولا يستطيع أن يؤدي وظيفتها أو يقوم بدورها!!.وكذلك المرأة لا تسعد بعيدًا عن الرجل، ولا تستغني عنه!!.والفوارق بينهما لا تعني عيبًا في أحدهما، بل إن العيب فيما لو تشبه أحدهما بالآخر، أو أراد أن يخالف الفطرة فيقوم بدور أنيط بغيره!!.إن الرجل والمرأة كالشمس والأرض، فلا حياة بلا شمس، ولا ثمرة للشمس بلا أرض، ولا يعيب الأرض كون الشمس أكبر، وأرفع، وأكثر حرارة، فكل ميسر لما خلق له.
وقضية عدم مساواة الجنسين ما كانت لتحرر وتقرر، لولا الاضطراب الفكري الذي يعيشه العالم الإسلامي، والانهزام النفسي أما حضارة الغرب، وشهوة تقليدها، بل وعبودية البعض لهذه الحضارة، مما جعلهم يبصرون الأشياء بمقاييسها ويملؤون الجو ضجيجاً، بل نعيقاً مطالبين بالمساواة، وإلغاء الفوارق!!.
إن الفوارق بين الرجال والنساء أكثر من أن تحصر، ولعل الفقرات التالية تميط اللثام عن شيء من ذلك: أولًا: - النصوص الشرعية:قال الله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى}([1]) وقال سبحانه: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}([2])، وقال جل جلاله:{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ}([3]).

وقد صح أن سبب نزول هذه الآية تمني النساء بعض خصائص الرجال([4])، قال السعدي تعليقًا على هذه الآية: «ينهى الله تعالى المؤمنين عن أن يتمنى بعضهم ما فضل الله به غيره، من الأمور الممكنة، والأمور غير الممكنة،فلا تتمنى النساء خصائص الرجال»([5]).
ومن النصوص البينة الدالة على الفرق بين النساء والرجال قوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ}([6])، فالمرأة بوحي من الفطرة، وتوجيه من الغريزة والطبع، تميل إلى التحلي والتزين، وزخرفة الثياب والأثاث!.وكذلك المرأة - عند الغضب والانفعال وشدة الخصام - لا تكاد تبين عما في خاطرها، أو تنهض بحجتها.ثانياً: - هل هن ناقصات عقل ودين؟!:عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما رأيت ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن! قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟! قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا خاضت لم تصل ولم تصم؟! قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان دينها»([7]).أما نقصان الدين فبين من ظاهر الحديث، فمن ترك شيئاً من الفرائض - ولو لعذر - نقص دينه، إذ إن الدين مجموعة أقوال وأعمال واعتقادات، فما نقص منها كان نقصاً في دين المرء.
وأما نقصان العقل فيحتاج إلى بيان المراد بالعقل في الكتاب والسنة، لأن الله خاطب جميع بني آدم بقوله: {وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}([8])، وبقوله: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ}([9]). وخاطب جميع المؤمنين بقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}([10]) وبقوله: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} وخص بالعقل أقواماً فقال: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}([11]) وبقوله: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}([12])كما أن الله تعالى نفى العقل عن قوم عرفوا بالذكاء، والدهاء، وسعة الحيلة، وعظيم المكر، كما في قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ}([13]) مع قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ}([14])،وهل العهد يبرم إلا مع علية القوم ودهاتهم، لا مع سفلتهم وسفائهم، ومثل هذا يقال في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}([15])، مع أن القوم الذين نزلت فيهم هذه الآية - لو صح سبب النزول([16]) - من دهاة العرب وعظمائها، وأظهر من هذا وصف جميع الكفار بقوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}([17])، وفيهم نوابغ وأذكياء، ودهاة وحكماء، وأصحاب مكر يكاد يزيل الجبال.
إذن، ما المراد بالعقل في لسان العرب، وفي كتاب الله؟! وعلى ضوئه يتضح المراد بالنقصان الوارد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الفقرات التالية تكشف الحقيقة وتنير البصيرة:
أ‌- يخطئ من يقصر العقل على ما يضاد الجنون، فالعقل في لغة العرب أوسع من ذلك، قال ابن فارس: «عقل: العين والقاف واللام أصل واحد منقاس مطرد، يدل عظمه على حبسة في الشيء، أو ما يقارب الحبسة، من ذلك العقل وهو الحابس عن ذميم القول والفعل، قال الخليل: العقل: نقيض الجهل([18]) يقال: عقل يعقل عقلاً: إذا عرف ما كان يجهله قبل، أو انزجر عما كان يفعله... ورجل عقول: إذا كان حسن الفهم»([19]).
وقد ذكر ابن منظور مرادفات العقل وهي: الحِجر، والنهى، والحبس، وجمع الأمر، والرأي، والتثبت، والقلب، والتمييز، والفهم، وقمع النفس عن الهوى، ولم يذكر مضادًا للعقل سوى الحمق([20])، بينما لم يذكر ابن فارس مضاداً له سوى الجهل([21]). وبناء على ذلك فإنه يصح لغة أن يقال: عند فلان نقص في العقل، إن كان فيه حمق، أو جهل، أو تشتت رأي، أو ضعف تمييز، أو عجلة، أو قلة تثبت، أو عدم قدرة على قمع النفس عن الهوى.
وإذا قارنا بين الرجال والنساء - من حيث الجملة - علمنا أن النساء ينقصن عن الرجال في كثير من هذه الأمور.ب‌- القرآن نزل بلغة العرب، ولم آر أحدًا من المفسرين ذهب إلى أن نفي العقل في القرآن يعني الجنون، أو البله، أو نقص الذكاء، وإليك ما قاله بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}([22])، كمثال لسائر الآيات: قال ابن جرير: «وقال الفوج الذي ألقي في النار للخزنة: «لو كنا في الدنيا» «نسمع أو نعقل» من النذر ما جاؤونا به من النصيحة، أو «نعقل» عنهم ما كانوا يدعوننا إليه ما كنا اليوم «في أصحاب السعير» يعني: أهل النار»(([23]).
وقال البغوي: «وقالوا لو كنا نسمع» «من الرسل ما جاؤونا به» أو «نعقل» منهم، وقال ابن عباس: لو كنا نسمع الهدى، أو نعقله فنعمل به»([24]).
وفي التفسير المنير: «لو كنا نسمع» «سماع تفهم» أو «نعقل» عقل تفكر فلو كنا نسمع ما أنزل الله من الحق سماع من يعي، وسماع هداية، أو نعقل عقل من يميز، وينظر وينتفع، وعقل هداية، ما كنا من أهل النار»(([25]).
ولعل الراغب الأصفهاني خير من يوضح العقل في القرآن حيث قال: «العقل يقال للقوة المتهيئة لقبول العلم، ويقال للعلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة عقل، ولهذا قال أمير المؤمنين: «العقل عقلان: مطبوع ومسموع» وهذا العقل - يعني الثاني المسموع - هو المعني بقوله: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} وكل موضع ذم الله فيه الكفار بعدم العقل فإشارة إلى الثاني دون الأول، نحو: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ}إلى قوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}([26]) ونحو ذلك من الآيات، وكل موضع رفع فيه التكليف عن العبد لعدم العقل فإشارة إلى الأول، وأصل العقل: الإمساك والاستمساك»([27]).
وخلاصة القول: إن العقل المسموع يتجزأ ويزيد وينقص بناء على العلم والتجربة، والتفكر في عواقب الأمور، وكذلك العقل المطبوع درجات بعضها أرفع من بعض، والرجال من حيث الجملة أوفر حظاً من النساء في العقل المسموع وفي العقل المطبوع.
ثانيًا: - أقوال علماء الاجتماع:
يقول د/محمد أحمد حسن ود/أحمد فؤاد محمود: «فالمطالبة بالمساواة التامة للمرأة مع الرجل في كل شيء، أمر لا يتفق مع واقع الحياة، إن الله - سبحانه - خلق الرجل والمرأة من نفس واحدة، وجعل في طبيعتهما خصائص جنسية مشتركة، وأخرى نوعية، للرجل منها ما ليس للمرأة، وللمرأة ما ليس للرجل، ليتحقق الغرض من الزوجية... ذلك أن الله - جلت قدرته - خص كلاً من الرجل والمرأة بخصائص معينة يتعذر على الجنس الآخر القيام بها وسوف يبقى الرجل رجلًا مهما حاول محاكاة المرأة فيما خصها الله به من وظائف الحياة، وسوف تبقى المرأة امرأة مهما حاولت محاكاتها الرجل فيما خصه الله به من وظائف الحياة ومن هنا كان طلب المساواة التامة للمرأة مع الرجل أمراً لا مبرر له، ولا يمكن تحقيقه، لأنه يسير في خط معاكس لما أراد الله»([11]).
وقال توفيق علي وهبه: «إن الذين يتشدقون بدعاوى تحرير المرأة ومساواتها بالرجل، إنما يدعون إلى طريق خطر، لأن الله الذي خلق كلاً من الرجل والمرأة من نفس واحدة، يسر كلاً منهما لما خلق له، فالمرأة بحكم تكوينها الجسماني تحمل، وتضع، وترضع، وتربي أولادها، ووضع في قلبها الحنان، والرحمة، وأعطى الرجل قوة في الجسم، ليستطيع العمل والكدح في الحياة»([12]).
وقال الأستاذ عبد العزيز بن ناصر العبد الله: «إن الرجال والنساء يختلفون في طريقة الحوار، والكلام، والتفكير، والشعور، والإدراك، وردود الأفعال والاستجابات، والحب، والاحتياجات، وطريقة التقدير والتعبير عن الحب.إن جهل هذه الفروق والسنن الإلهية في العلاقات الإنسانية هو سبب نشوء التوتر والاستياء، والصراعات بين الزوجين»([13]).
ثالثًا: شهادة العلم الحديث:
يقول العلم الحديث: «طبيعة تكوين الرجل وكيماويته وخشونته تختلف تمامًا عن طبيعة تكوين المرأة وكيماويتها ورقتها، لأن التكوين المقنَّع تدخلت فيه الهرمونات الجنسية التناسلية في كل منهما، وهي المسؤولة عن غلظة الذكر، وهي كذلك المسؤولة عن رقة الأنثى... هرمون التستوستيرون في الذكر يقوي العضلات، ويبني الجسم ويقوي العظام وهذا الهرمون تفرزه خصيتا الرجل، وهو مسؤول عن ظهور العلامات الجنسية... مثل ظهور شعر الشارب، واللحية، وغلظة الصوت، وبناء الهيكل العضلي والعظمي... يقابله في المرأة أو الأنثى هرمون البروجسترون، وهذا الأخير مسؤول عن السمات الجنسية في الأنثى مع هرمون الإستروجين من ظهور الثديين، وتكوين المبايض وتطورها، وبناء الرحم والمهبل...»(([14]) كذلك لهذه الهرمونات آثارها على الأنثى من نعومة، ورقة صوت، واستدارة جسم، إضافة إلى التأثير على العواطف والمزاج.
وقد أثبت الدكتور روجر سبراي - الحائز على جائزة نوبل في الطب - وجود فروق بين مخ الرجل ومخ المرأة، مما يمنع المساواة بينهما في المشاعر، والعواطف، وردود الأفعال، ويمنع الذكر والأنثى من القيام بنفس الأدوار([15])
كما أجري طبيب أعصاب في جامعة(بيل) الأمريكية تجارب عديدة، فأثبت أن نصف مخ الرجل يقوم بعمل مخ الأنثى كاملاُ([1]).
وهذا ما اكتشفه البروفسور ريتشارد لين المنتسب إلى جامعة (أليستر) البريطانية حيث قال: (إن عددًا من الدراسات أظهرت أن وزن دماغ الرجل يفوق مثيله النسائي بحوالي أربع أوقيات).
وأضاف لين: (إنه يجب الإقرار بالواقع، وهو أن دماغ الذكور أكبر حجمًا من دماغ الإناث)([2]).
ولعل هذا نفس نبوغ الذكور في جوانب الاكتشافات، والاختراع، والرياضيات والفيزياء، والكيمياء، والفلسفة، والشعر، من جهة الإبداع والاختراع، وإن نبغت أنثى في شيء من ذلك ففي جانب التلقي والاختزان، ومحاكاة ما سبق اختراعه.
إن المسلمين ليسوا بحاجة إلى مثل هذه الشهادات، فعندهم شهادة الذي خلق الزوجين، قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} وإنما ذكرت ذلك لأن دعاة المساواة بين الجنسين إنما هم مقلدة لحضارة الغرب، فشهادتها تقع لديهم موقعًا حسناً.رابعًا: - شهادة الواقع:
قديمًا قيل:
« وليس يصح في الأفهام شيء



إذا احتاج النهار إلى دليل» ([3])





إن الواقع المشاهد، وعلاقة الذكر بالأنثى على مدار تأريخ البشرية، ومجمل الميول والاهتمامات، وتؤكد الفوارق الهائلة، بين الذكر والأنثى، وبما أن توضيح الواضح فاضح فسوف اقتصر في شهادة الواقع على بعض ماله مساس بحياة الزوجين، وإعانتهما على التفاهم والتواؤم:
أ - تختلف المرأة عن الرجل عند شدة الغضب والخوف، فالمرأة - إلا من شذ - تفقد السيطرة على أعصابها، وتختفي رؤيتها للماضي والمستقبل، وتنحصر الرؤية في اللحظة الحاضرة، ولذا تكرر المرأة عند غضبها كلمتين تزعجان الزوج الجهول بطبائع النساء، وهما: ما رأيت منك خيرًا قط، ولا أستطيع الحياة معك في المستقبل، أو أنت رجل لا يطاق.
فإذا هدأت ندمت وتأسفت، وأيقنت أنها كادت أن تهدم بيتها، وتدمر نفسها، ومع ذلك تكرر الخطأ نفسه، عند شدة الانفعال والغضب.

وعلى الزوج الوقور أن يتوقع سماع تلك الكلمتين مرارًا وتكرارًا، وأن لا يأخذ الأمر مأخذ الجد، بل ينتظر ساعة هدوء ومرح، ثم يبحث عن الحقيقة الغائبة ساعة الانفعال.
ب - تختلف اهتمامات المرأة عن اهتمامات الرجل، فالرجل يهتم بالثروة والمال، والأعمال، والدين، والعلم، والسياسة، بينما يغلب على المرأة الاهتمام بالجمال، والزينة، وتلطيف الحياة، بالإضافة إلى عنايتها بالأولاد.والرجل يركز كثيرًا على المستقبل، بينما ينصب اهتمام المرأة على الحاضر.
والمال عند الرجل ثروة وقيمة، بينما الزينة شيء ثانوي، أما المرأة فتنظر للمال على أنه زينة، وقيمته كثروة وعدة مستقبل، تأتي في المرتبة الثانية.
إن هذه الاختلافات مثار صراعات عند الزوجين الجهولين بطبعهما، وقد يستسلم أحدهما لنظرة الآخر على مضض، ولو عرفا هذه الفروقات وعذر أحدهما الآخر، وتلطف في الوصول إلى بغيته، واختار الظرف المناسب، لزالت كثير من المشاكل الزوجية، وعاش الزوجان في هناءة ترفرف عليهما أعلام السعادة، وتُجمِّلهما ورود التوافق والتكامل، ومتى ما انفجرت صراعات، عرفا كيف يديران الدفة بأمان.
ج - تختلف - غالبًا - طريقة الرجل والمرأة عند الجدال، فالرجل يبدأ جداله على أن الصواب معه، ثم يبدأ بالمراوغة لئلا يظهر خطؤه، وهذا يشعر المرأة بالامتعاض، لتوقعها أن الرجل مثلها، يقر بالخطأ، ويقبل التوجيه.
وتكمن مشكلة المرأة عند الجدال رفضها الكليات، عند عدم موافقتها على الجزئيات، فإذا جادلت الزوج في خطأ وقع فيه فإنها تشعره - من حيث لا تدري - أنه غير مقبول لها كليًا، فينتقل الزوج إلى الدفاع عن ذاته، وتكبر المشكلة، وهي في بداية الأمر صغيرة.
ويُنصح الزوجان أن يقللا من الجدال، وأن يبتعدا عنه كلية عند الغضب، وأن لا يستمرا فيه إذا حدث، خاصة إذا كانت الزوجة عالية الثقافة، أو ممن تسممت أفكارها بدعوات التغريب والمساواة.
د - تختلف طريقة الرجل في التكيف مع ما أشكل من الأمور، فهو بطبعه يميل إلى التفكير، والبحث عن حل عملي، وقد ينعزل بنفسه، أو يتشاغل بشيء بين يديه، وباله مشغول بالمشكلة، ويحب في هذه اللحظة الصمت، بينما تميل المرأة بطبعها إلى الحديث عما أشغل بالها، ويُهوِّن عليها وقع المشكلة سماع الآخرين لها.
وهذا موطن خلاف وشجار، خاصة إذا لم يع الزوجان طبع كل منهما، فالمرأة تظن أن الرجل يهرب من مواجهة المشكلة، والرجل يرى أن المرأة تشغله بحديثها عن المشكلة، ويحاول قطع حديثها، أو عدم الإنصات إليها، فتبرز مشكلة أخرى.

«الرجال قوامون على النساء»



هذه القاعدة من أهم دعائم الأسرة المسلمة، ومن أعظم أسباب استقرارها ماديًا ومعنويًا، وإحاطتها بالرعاية والحفظ والتوجيه.


وقد قرر الله تعالى هذه القاعدة في قوله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}([1]) وأمر الله بتأديب المرأة المناهضة لمقتضاها فقال سبحانه: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ}([2]).


وكذلك قررها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: «لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة»([3]).

وإليك بعض الوقفات التي توضح هذه القاعدة، وتبين فوائدها للمرأة، ولأولادها، قبل الزواج، وتكشف الزيف والشبه التي أحيطت بها:


أولًا: - معنى القوامة:


القوام: صيغة مبالغة، وقام الرجل على غيره: إذا تكفل به، واعتنى بشأنه([4])، والقيِّم: السيد وسائس الأمور، وقيم القوم: الذي يقوِّمهم ويسوس أمرهم([5]). وعبارات المفسرين في تفسير قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} تحوم حول المعنى اللغوي وتشرحه، روى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس t قال: « قوله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} يعني: أمراء، عليها أن تطعيه فيما أمرها به من طاعته»([6]).


وقال الزمخشري: {قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}يقومون عليهن، آمرين ناهين، كما يقوم الولاة على الرعايا)([7]).


وقال أبو بكر ابن العربي: «قوله «قوامون»: يقال: قوّام وقيّم، وهو فعّال وفيعل، من قام، والمعنى: هو أمين عليها، يتولى أمرها، ويصلحها في حالها... وعليها له الطاعة... فعليه أن يبذل المهر والنفقة، ويحسن العشرة، ويحجبها، ويأمرها بطاعة الله وعليها الحفظ لماله، والإحسان لأهله، والالتزام لأمره»([8]) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:
«الزوج سيدها في كتاب الله([9])، وهي عانية عنده بسنة رسول الله([10]) صلى الله عليه وسلم »([11]). وقال ابن كثير: «يقول الله تعالى: «الرجال قوامون على النساء» أي: الرجل قيِّم على المرأة، أي: هو رئيسها، وكبيرها، والحاكم عليها، ومؤدبها إذا اعوجت»([12]).


ثانيًا: - مظاهر القوامة:قوامة الرجل على امرأته تكليف يترتب عليه تشريف، فمن مظاهر التكليف:
1 - المهر:وهو مال تستحقه الزوجة بسبب العقد عليها، وهو رمز تكريم، ودلالة صدق، وتوثيق عرى محبة بين الزوجين ولذا أسماه الله تعالى نحلة وصداقًا، قال تعالى: {وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}([1]). وقد جاء التأكيد على إعطاء المرأة مهرها، والنص على أنه فرض وأجر، فلا تجوز المماطلة فيه، أو بخس شيء منه، قال تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً}([2]) وقال سبحانه: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا}([3]).
2 - الحفظ والرعاية:فالرجل مسؤول عن حفظ المرأة ورعايتها،وصونها من المخاطر الدينية والدنيوية،قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}([4]) وقال صلى الله عليه وسلم: «الرجل راع على أهله، وهو مسؤول عن رعيته»([5]) وهو مطالب بالدفاع عنها، ولو ترتب على ذلك قتله، كما في الحديث: «ومن قتل دون أهله فهو شهيد»([6])، والتفريط في هذه الرعاية خيانة يترتب عليها عقوبة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت، وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة»([7]) ويدخل في ذلك منعها من التبرج والسفور والاختلاط بالأجانب.
3 - التعليم والإلزام بطاعة الله:قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}([8])، والأمر بالصلاة يستلزم تعليم أدائها، كما أن عموم قوله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}([9])يدخل فيه تعليم ما يحقق ذلك، والإلزام به.
4 - حماية الأسرة من الترف:إن الترف والمبالغة في التنعم، والعيش على هامش الحياة، مدمر للفرد وللأسرة وقد ذم الله الترف فقال: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ}([10]) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والتنعم، فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين»([11]).نعم! لا مانع من التمتع بالطيبات، وظهور أثر النعمة على العبد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده»([12])لكن المحذور هو المبالغة في ذلك حتى الوصول إلى حال التبذير والإسراف، والترف القاتل، ومعلوم أن الأمة المترفة تخور قواها، وتضعف عزيمتها، ولاسيما في الحروب، وأزمات الحياة.
5 - النفقة:فنفقة المرأة واجبة على زوجها بالإجماع([13])، فلها عليه تأمين جميع حاجاتها، من مأكول، ومشروب، وملبوس، ومسكن،([14]) قال تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}([15]) وقال تعالى: {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}([16]) فنسب الشقاء لآدم وحده، لأن الرجل هو المسؤول عن كفاية زوجته، وهو الذي يسعى([17])، وقال صلى الله عليه وسلم: «ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف»(([18])، وهي مقدرة بقدر الكفاية، مع مراعاة حال الزوج، لقوله تعالى:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} مع إرشاد الرسول صلى الله عليه وسلم لهند، لما ذكرت له أن زوجها أبا سفيان رجل شحيح، فقال: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف»([19])متفق عليه.
6 - السكن:فيجب لها مسكن يليق بأمثالها، وعلى قدر يسار الزوج وإعساره، بدليل قول الله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ}([20]) فإذا وجبت السكنى للمطلقة طلاقًا رجعيا فلغيرها من باب أولى.
7 - التأديب:فمتى اعوجت المرأة، وخشي على الأسرة من التصدع، والانهيار، كان من الزوج تأديبها، وردها إلى رشدها، كما قال تعالى:{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ}([21]) أما مظاهر التشريف المترتبة على القوامة فهي كثيرة منها:
1 - حق الطاعة:قال تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا}([22])، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح»([23]).2 - الخدمة بالمعروف:فخدمة الزوج واجبة فيما جرى به العرف، إن كان مثلها يَخدِم، قال شيخ الإسلام: «وقيل - وهو الصواب -: وجوب الخدمة، فإن الزوج سيدها في كتاب الله، وهي عانية عنده بسنة رسول الله ولأن ذلك هو المعروف، ثم من هؤلاء من قال: تجب الخدمة اليسيرة، ومنهم من قال تجب الخدمة بالمعروف، وهذا هو الصواب، فعليها أن تخدمه الخدمة المعروفة من مثلها لمثله، ويتنوع ذلك بتنوع الأحوال، فخدمة البدوية ليست كخدمة القروية، وخدمة القوية ليست كخدمة الضعيفة إلى أن قال: «والمعروف فيما له ولها هو موجب العقد المطلق، فإن العقد المطلق يرجع في موجبه إلى العرف»([24]) وبناء على ذلك يعرف الحكم الشرعي فيما إذا طلبت المرأة خادمة ورفض الزوج، وأن ذلك يعود إلى العرف، وعادة البلد، وهل مثلها يَخدِم أو يُخدم، وهل ذلك من المعاشرة بالمعروف في بلدها، وعند قومها.
3 - القرار في البيت، وعدم الخروج إلا بإذنه:قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}([25])، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها»([26]) متفق عليه، فإذا كان الخروج للعبادة يحتاج إلى إذن الزوج، فالخروج إلى غيرها من باب أولى.قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فليس لها أن تخرج من منزله إلا بإذنه، سواء أمرها أبوها، أو أمها، أو غير أبويها، باتفاق الأئمة»([27]).
4 - حسن التبعل:ويندرج في ذلك حسن الخلق، وتحسين الخلقة،بالتزين والتعطر ونحوها، والصبر على الأذى، وحفظ مال الزوج، ورعاية ولده، فعن أم سلمة رضي الله عنه قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أيما امرأة ماتت وزوجها راض عنها دخلت الجنة»([28]) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير النساء التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها، ولا مالها بما يكره»([29])، وعن عبد الله بن أبي أوفى t قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لغير الله، أمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفس محمد بيده، لا تؤدي المرأة حق ربها، حتى تؤدي حق زوجها كله، حتى لو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه»([30]).
ويؤكد عظم حق الزوج، والنهي عن مغاضبته، قوله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم: العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوموهم له كارهون»([31])
5 - المطاوعة لقضاء الحاجة: فقد جاء في الحديث: «إذا دعا الرجل زوجته لحاجته فلتأته، وإن كانت على التنور» ([1])وفي حديث آخر: «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجئ فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح»([2]) متفق عليه. وفي هذين الحديثين لفتة نبوية كريمة، قلَّ من النساء من تتفطن لها، وهي أن العملية الجنسية لها علاقة عميقة بالناحية النفسية، وكثير من الرجال تتحرك شهوته في ظروف معين، فإذا لم تطاوعه زوجته في هذا الظرف، أو شعر بعدم رغبتها لهذا الشأن انطفأت شهوته، وخمدت همته، وتكرار مثل هذا له أثر عميق على حالته النفسية، وعلاقته بامرأته.
6 - النهي عن هجره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها، لعنتها الملائكة حتى تصبح» متفق عليه([3]). 7 - النهي عن الصوم تطوعاً إلا بإذنه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تصم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه»([4]).
8 - النهي عن إدخال أحد بيته إلا برضاه؛ لقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأما حقكم على نساكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لم تكرهون»([5]) وهذا عام في منعهن عن الإذن لأحد في الدخول إلى البيوت، ولو كان محرماً أو امرأة إلا بعلمه ورضاه.
9 - حق السفر: فللزوج حق السفر بها متى كان مأموناً عليها في الطريق وفي بلد الإقامة([6])، وإن كان له أكثر من زوجة أقرع بينهن، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ([7]).
10 - تربية الأولاد: فمن أعظم الحقوق على الزوجية رعاية أولادها، وتربيتهم، وتعليمهم، والوقوف مع الزوج في سبيل تنشئتهم تنشئة سوية؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها»([8]).
11 - التسرية عن الزوج: فمن حقوقه عليها التسرية عنه، وإدخال السرور عليه، وتخفيف أعباء الحياة عنه، وإشاعة روح التفاؤل والأمل في نفسه، والوقوف بجانبه في البأساء والضراء، وتصبيره حتى يواجهها في شجاعة وحزم([9]).
ثالثاً: حدود القوامة: مقاييس الإسلام وتعاليمه تؤسس علاقة الرجل بامرأته على الاحترام، والتقدير، والمودة المتبادلة، والتربية على العدل: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}([10])، والشورى بينهم: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}([11])، والرحمة: «من لا يرحم لا يرحم»([12])، والتسامح: «رحم الله رجلاً سمحًا»([13])، والرفق: «إن الله رفيق يحب الرفق»([14]) بل إن الشريعة الإسلامية جعلت معيارا للخيرية هو: «خيركم خيركم لأهله» ([15])، وفي رواية: «خيركم خيركم للنساء»([16]). إن الثقافة الإسلامية المتغلغلة في أعماق الطرفين، تجعلهما متحابين، متآلفين، متعاونين على البر والتقوى، وفيِّين لبعضهما، صابرين في معترك الحياة، راضيين بقدر الله في اختلاف خلقه، مسلِّمين لحكمه وحكمته في هذا التفاوت، وبناء على ذلك فإنه قوامة الرجل على المرأة ليست مطلقة، وليست تسلطًا وسلبًا لجميع سلطات المرأة، وإلغاء لمكانتها؛ بل هي «راعية على بيت زوجها وهي مسؤولة»([17]) وقوامة الرجل محدودة بضابط {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}([18]).
ولفظة: «بالمعروف» حددت الشريعة أسسها، وتركت مساحة كبيرة للعرف والعادة([19]). قال ابن عاشور: (والعرب تطلق المعروف على ما قابل المنكر، أي: وللنساء من الحقوق مثل الذي عليهن، ملابسًا ذلك دائمًا للوجه غير المنكر شرعاً وعقلاً، وتحت هذا تفاصيل كبيرة تؤخذ من الشريعة، وهي مجال لأنظار المجتهدين، في مختلف العصور والأقطار...وقوله «للرجال» خبر عن «درجة» قدم للاهتمام بما تفيده اللام من معنى استحقاقهم تلك الدرجة... وفي هذا الاهتمام مقصدان: أحدهما: دفع توهم المواساة بين الرجال والنساء في كل الحقوق...وثانيهما: تحديد إيثار الرجال على النساء بمقدار مخصوص، لإبطال إيثارهم المطلق، الذي كان متبعاً في الجاهلية)([20]).
رابعاً: لماذا القوامة للرجل!؟: يطرح هذا السؤال – غالبًا – من في قلوبهم مرض، أو من يرون أن الحصارة هي استيراد مفاهيم، وقيم حضارة، تختلف في جوهرها ومظهرها عن حضارة الإسلام!. وللجواب على هذا السؤال:
أولاً: ما من اجتماع بشري إلا ويتوقع فيه حصول خلاف ونزاع، لاختلاف المفاهيم، وتعارض المصالح، وتفاوت العقول والمدارك، وتأرجح الأولويات... ونحو ذلك من أسباب الخلاف؛ ولذا لابد من تعيين مرجع، يفصل في الأمر عند الحاجة، وهذا ما فطرت عليه البشرية، فما من أمر ذي بال، يقوم على اجتماع وتعدد، إلا ويُعين له مرجع.
ثانياً: إما أن يقال: لا قوامة لأحد في الأسرة، أو القوامة للرجل والمرأة على السواء، أو للمرأة وحدها، أو للرجل وحده.
ولا يقول عاقل: إن الأسرة لا تحتاج إلى قيم، فإن العقلاء يضعون قيِّماً لكل مشروع ذي بال، والأسرة أعظم تجمع عرفته البشرية، وإذا كان الهدف من المؤسسات والشركات والمصانع إنتاج ماديات، فإن الهدف من الأسرة إنتاج بشر، وتنمية عقول، وتربية نفوس، وإيجاد سكن وملاذ للإنسان، كلما أرهقه الكدح، أو التعامل مع الماديات، وكذلك لا يقول عاقل: إن الشراكة في إدارة الأسرة هي الأقوام؛ فإن أي نظام أو دولة أو أمر ذي بال، لا ينتظم إلا بتوحد الإدارة العليا.
إذاً، من الأولى بأن يكون قيِّماً على الأسرة؟!
والجواب: إن الأولى بداهةً هو الرجل، للمبررات التالية:
أ - أن الرجل هو المؤسس للعائلة، فهو أحق بإدارتها. ب - قوة الرجل العقلية والجسمية. ج - تفوق الرجل على المرأة في الإدارة، خاصة عند حدوث أزمات. د - ضعف المرأة الجبلي، وزيادة هذا الضعف عند حدوث العوارض المتكررة، كالعادة الشهرية، والحمل، والنفاس، وانشغال البال بالمولود الجديد، قال تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ}([1]).
هـ - حاجة قيِّم الأسرة إلى مواجهة قوى، وأوضاع خارج نطاق الأسرة، وتفوق الرجل في هذا المجال لا يخفى على ذي بصيرة. والخلاصة: إن العقل والمنطق والفطرة وواقع الحال، تشهد بما شهد به الشرع، من ضرورة القوامة، وأنها لا تصلح إلا للرجل، قال الله تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}([2]) ثم إن القوامة في ضوء الشريعة الإسلامية قوامة رعاية، وحسن تنشئة، وجلب مصالح، ودرء مفاسد، وتحصيل خيرات، ودفع شرور ومنكرات، وهي قوامة تكليف قبل التشريف، وقوامة غرم قبل الغنم، على ضوء قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»([3]).
وعاشروهن بالمعروف


السعادة مطلب لكل إنسان، ومن أعظم أسباب السعادة البشرية المعاشرة الحسنة، بما يكتنفها من طيب المقال، وحسن الفعال؛ ولهذا أمر الله تعالى بالإحسان لكل من له علاقة بالفرد، فقال تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}([1]) وكلما كان المعاشر أقرب وألصق، ظهرت شدة الحاجة إلى ذلك، وأقرب الناس للمرء، وألصقهم به امرأته، كما بين الله ذلك بقوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}([2]).
إن من أعظم مقاصد الإسلام جلب السعادة الدنيوية والأخروية، وقد نبَّه أفراده إلى قيام الحياة الزوجية على السكن والمودة والرحمة، قال الله تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}([3]) فهذه الآية ترشد إلى ثلاث دعائم للحياة الزوجية المستقرة، التي تفيض حناناً وحباً:
الأولى: السكن والإلف ([4])والميل([5])، والأنس، وفرح النفس، وزوال الوحشة([6]).
الثانية: المودة، وهي المحبة، قال البغوي: (وما شيء أحب إلى أحدهما من الآخر، من غير رحم بينهما)([7]).
الثالثة: الرحمة، وتعني الشفقة([8])، والرأفة([9])، وما يقتضي الإحسان إلى المرحوم([10])، قال ابن كثير – رحمه الله -: (الرجل يمسك المرأة إما لمحبته لها، أو لرحمته بها... أو للإلفة بينهما)([11]). ولا تترعرع هذه الدعائم، ولا يتحقق الاستقرار الأسري، إلا بتهيئة الأسباب، ومن ذلك تحقيق مقتضى الحكمة، وتنفيذ أمر الشرع، حيث قال الله سبحانه: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوف}([12]).
ولعل النقاط التالية تميط اللثام عن هذه القاعدة الزوجية، وتبين آثارها ومظاهرها:
أولاً: - معنى المعاشرة بالمعروف: المعاشرة: المخالطة، عاشرته معاشرة، واعتشروا وتعاشروا: تخالطوا... وعشير المرأة: زوجها لأنه يعاشرها وتعاشره([13])، وفي الحديث أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال للنساء: «إنكن تكثرن اللعن، وتكفرن العشير»([14]) متفق عليه، قال ابن الأثير: (يريد الزوج، والعشير: المعاشر، كالمصادق في الصديق؛ لأنها تعاشره ويعاشرها)([15]).
أما المعروف: فقد قال ابن الأثير: (هو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله، والتقرب إليه، والإحسان إلى الناس... وهو من الصفات الغالبة: أي: أمر معروف بين الناس، إذا رأوه لا ينكرونه، والمعروف: النَّصفة، وحسن الصحبة مع الأهل، وغيرهم من الناس)([16]). وقال ابن كثير – رحمه الله -: (وقوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوف}أي: طيِّبوا أقوالكم، وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم، بحسب قدرتكم، كما تحب ذلك منها فافعل أنت بها مثله... وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جميل العشرة، دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف بهم، ويوسعهم نفقة، ويضاحك نساءه، حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين – رضي الله عنها - يتودد إليها بذلك)([17]).
وقال ابن عاشور: (حسن المعاشرة جامع لنفي الإضرار والإكراه، وزائد بمعاني إحسان الصحبة، والمعاشرة: مفاعلة من العشرة، وهي المخالطة... و«المعروف» ضد «المنكر» وسمي الأمر المكروه منكراً لأن النفوس لا تأنس به، فكأنه مجهول عندها نكرة، إذ الشأن أن المجهول يكون مكروهاً، ثم أطلقوا اسم المنكر على المكروه، وأطلقوا ضده على المحبوب؛ لأنه تألفه النفوس، والمعروف هنا: ما حدده الشرع ووصفه العرف)([18]).

ثانياً: - فضل حسن الخلق مع الأهل: من أعظم مظاهر المعاشرة بالمعروف حسن الخلق، وقد جاء تأكيد ذلك في الكتاب والسنة، قال تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}([19])وقال عز وجل: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ}([20])، وفي الحديث: «إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجات قائم الليل، صائم النهار»([21])بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل حسن الخلق أفضل المنح الربانية، فقال: «خير ما أعطي الناس خلق حسن»([22]). ويتأكد حسن الخلق مع الأهل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم «خيركم خيركم لأهله»([23]). ولعل تفسير قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}([24]) كفيل ببيان حقيقة حسن الخلق، فهذه الآية أجمع آية في هذا الموضوع.
خذ العفو: قال ابن جرير: («خذ العفو» من أخلاق الناس، وهو الفضل، وما لا يجهدهم) ثم سرد ابن جرير أقوالاً، ثم قال: (وأولى هذه الأقوال بالصواب، قول من قال: معناه: خذ العفو من أخلاق الناس، اترك الغلظة عليهم... فيكون - وإن كان من أجلهم نزل – تعليماً من الله خلقه صفة عشرة بعضهم بعضاً)([25]).
وقال الراغب مبيناً معنى «العفو»: (أي ما يسهل قصده وتناوله)([26])، قال البغوي: (وذلم مثل قبول الاعتذار، والعفو، والمساهلة، وترك البحث عن الأشياء، ونحو ذلك)([27]).
وأمر بالعرف: أي المعروف، وهو كل ما يعرفه الشرع([28])، وكذلك المعروف بالعرف وتواطؤ الناس، واستحسان كافة العقلاء([29]). وأعرض عن الجاهلين: وذلك بعدم مقابلة الجهال والسفهاء بمثل فعلهم، وعدم مماراتهم، مع الصبر على سوء أخلاقهم، وغض الطرف عما يسوء منهم([30]).
وهذه المبادئ الثلاثة، هي أصول الفضائل ومكارم الأخلاق فيما يتعلق بمعاملة الإنسان غيره، وبها تدوم العلاقة، وتزداد الإلفة، وتتوطد المحبة.
قال السعدي: (هذه الآية جامعة لحسن الخلق مع الناس، وما ينبغي في معاملتهم، فالذي ينبغي أن يعامل به الناس أن يأخذ العفو، أي: ما سمحت به أنفسهم، وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق، فلا يكلفهم ما لا تسمح به طبائعهم... ويتجاوز عن تقصيرهم، ويغض طرفه عن نقصهم... وأمر بالعرف: أي بكل قول حسن، وفعل حسن، وخلق كامل، للقريب والبعيد... ولما كان لابد من أذية الجاهل، أمر الله تعالى أن يقابل الجاهل بالإعراض عنه، وعدم مقابلته بجهله)([31]).
وماذا ستكون بيوت المسلمين لو امتثلوا أمر الله، وأطاعوه بتحسين أخلاقهم، وتقويم طباعهم، وقبول الآخرين بواقعهم وعيوبهم؟!.
لاشك أن ذلك سيشع على الحياة الزوجية ظلالاً وارفاً من السعادة، والحياة الطيبة، ودوام العلاقة، وعمق المحبة، ويبعد عنها منغصات الخلاف، ونكد الشحناء.