" أهمية العناية بالقلب تحلية وتخلية "

العناية بالقلب لها جانبان :

التحلية : وذلك بالقيام بالطاعات القلبية .

والتخلية : وذلك بتطهير القلب عن أدناس المعاصي القلبية .

إن هذه العناية بشقيها تبرز أهميتها من خلال ما يأتي :

أولاً : قيام بفرض عيني :

العناية بالقلب وتحليته بالأعمال القلبية، كالتوكل والمحبة والإخلاص والخشية ونحوها كل ذلك من الفروض العينية .

وهكذا تطهيره من أدران الرياء والكبر وسوء الظن بالله والحسد ونحو ذلك. وقد تقدم تقرير ذلك في المبحث الأول .


ثانيًا : صلاح الجوارح بصلاح القلب :

القلب بصلاحه تصلح الجوارح وتستقيم على سبيل الهدي، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : (القلب هو الأصل فإذا كان فيه معرفة وإرادة، سرى ذلك إلى البدن بالضرورة، لا يمكن أن يتخلف البدن عما يريده القلب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب» (أخرجه البخاري ومسلم)وقال أبو هريرة : القلب ملك والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده، وقول أبي هريرة تقريب وقول النبي صلى الله عليه وسلم أحسن بيانًا، فإن الملك وإن كان صالحًا، فالجند لهم اختيار قد يعصون ملكهم وبالعكس، فيكون فيهم صلاح مع فساده، أو فساد مع صلاحه، بخلاف القلب فإن الجسد تابع له، لا يخرج عن إرادته قط.. فإذا كان القلب صالحًا بما فيه من الإيمان علمًا وعملاً قلبيًا لزم ضرورة صلاح بالجسد بالقول الظاهر والعمل بالإيمان المطلق ، كما قال أئمة أهل الحديث : قول وعمل. قول باطن وظاهر وعمل باطن وظاهر، والظاهر تابع للباطن لازم له متى صلح الباطن صلح الظاهر، وإذا فسد فسد .
وبهذا كان الأصل في التقوى والفجور القلب قال تعالى في الحديث القدسي : «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، ولو كانوا على أفجر قلب رجل منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئًا» (رواه مسلم) .
قال ابن رجب في شرحه لهذا الحديث : (وفي هذا دليل على أن الأصل في التقوى والفجور هو القلب، فإذا بر القلب واتقى، برت الجوارح، وإذا فجر القلب فجرت الجوارح كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «التقوى ها هنا» وأشار إلى صدره (رواه مسلم) (جامع العلوم والحكم) .
ومن الناس من يجد في إقامة جوارحه على طاعة الله، وكفها عما حرم الله جهدًا وثقلاً، حتى إن بعضهم تحدثه نفسه بالاستقامة، لكن ما إن يسلك طريقها حتى يرجع القهقري .
ولو أتى هؤلاء البيوت من أبوابها، واجتهدوا مع العمل الظاهر في إصلاح قلوبهم، لهان عليهم سلوك سبيل الاستقامة، بل لوجدوا فيه اللذة والسعادة، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إنما الأعمال كالوعاء، إذا طاب أسفله، طاب أعلاه، وإذا فسد أسفله، فسد أعلاه» (رواه أحمد وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ) .

ثالثًا : كثرة نصوص الكتاب في ذكر القلب :

كثرت نصوص القرآن التي فيها ذكر القلب وطاعاته وأمراضه وأحواله فقد ذكر القلب في القرآن في مائة وثلاثين موضعًا .
ومن أوصافه المحمودة المذكورة في القرآن : سلامته، اطمئنانه، هدايته، الربط عليه، تقواه، العقل به سكينته، رأفته، رحمته، الخير فيه، طهارته، تزيين الإيمان فيه، إيمانه، وجله، ذهاب غيظه، إخباته، لينه، خشوعه، تأليف القلوب .
ومن أوصافه المذمومة : غلظه، الطبع عليه، إثمه، غفلته، الختم عليه رعبه، عدم فقهه، زيغه، عماه، اشمئزازه من ذكر الله وحده قفله، قسوته تزيين الباطل فيه، غلفه، كونه في أكنة، غله، مرضه، إشرابه بالباطل، حسرته، إباؤه الحق، ريبته وارتيابه، نفاقه، تقطعه، صرفه، الشد عليه، إنكاره الحق، لهوه، كونه في غمرة ، حميته الجاهلية، الران عليه .


رابعًا : القلب هو موضع نظر الله :

إن القلب هو موضع نظر الله جل وعلا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» (أخرجه مسلم) .
ويقول جل وعلا في شأن قرابين البدن : " لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ " [الحج: 37] .
ولذا فإن الأعمال تتفاضل عند الله بتفاضل ما في قلوب العاملين (مجموع الفتاوى) .
وتبعًا لهذا التفاضل فإن تكفير الأعمال الصالحة للذنوب الوارد في النصوص يكمل أو ينقص بحسب ما في القلوب .

يقول ابن القيم : (فتفاضل الأعمال عند الله بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص والمحبة وتوابعها، وهذا العمل الكامل هو الذي يكفر تكفيرًا كاملاً، والناقص بحسبه، وبهاتين القاعدتين تزول إشكالات كثيرة، وهما : تفاضل الأعمال بتفاضل ما في القلوب من حقائق الإيمان، وتكفير العمل للسيئات بحسب كماله ونقصانه) (الوابل الصيب).

ومما يوضح هذا : الفرق العظيم بين صلاة المخلص الخاشع وصلاة المرائي أو الغافل .

قال حسان بن عطية : (إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة، وإن ما بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض؛ وذلك أن أحدهما مقبل بقلبه على الله عز وجل والآخر ساه غافل)(الوابل الصيب) .

والمتأمل في الوحيين يجد أن الوعد بالجزاء الحسن على العمل الظاهر يأتي مشروطًا باقتران عمل قلبي به، ولذلك شواهد في الكتاب والسنة .
منها قوله تعالى : " لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا " [النساء: 114] .
وقوله صلى الله عليه وسلم : «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله، إلا أجرت عليها، حتى اللقمة ترفعها إلى فى امرأتك» (البخاري ومسلم) .
وقوله صلى الله عليه وسلم : «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه» (البخاري ومسلم) .
وقوله صلى الله عليه وسلم : «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه» (البخاري ومسلم) .
وقوله صلى الله عليه وسلم : «من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه»(البخاري ومسلم) .
ولما كان القلب هو موضع نظر الله عز وجل، كانت الخيرية عنده بحسب سلامة القلب واستقامته، يقول صلى الله عليه وسلم : «خير الناس ذو القلب المخموم واللسان الصادق ؟» قيل : وما القلب المخموم ؟ قال : «هو التقى النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد» قيل : فمن على أثره ؟ قال : «الذي يشنأ الدنيا، ويحب الآخرة» (أخرجه ابن ماجه وهو في السلسلة الصحيحة الألباني) وشاهد ذلك من القرآن قوله سبحانه " إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ " [الحجرات: 13] .
فقلب العبد الصالح هو إناء الله في الأرض يضع فيه الخيرات من الإيمان واليقين والمحبة وغيرها، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : «إن لله تعالى آنية من أهل الأرض، وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقها» (أخرجه أبو نعيم في الحلية وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة).


خامسًا : العناية بالقلب سبب النجاة :

العناية بالقلب سبب النجاة في الآخرة ودخول الجنة، وقد دلت على ذلك أدلة الكتابة والسنة .



ومن ذلك قوله سبحانه : " يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ " [الشعراء: 88، 98] .
وقوله : " وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ " [ق: 31-33] .
وقوله : " وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ " [العنكبوت: 58، 59] .
وأحيانًا تذكر أعمال القلوب مقرونة بأركان الإسلام، ويرتب على ذلك الثواب العظيم، ومن ذلك قوله سبحانه : " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ " [الأنفال: 2-4] .
وقد قدم تعالى أعمال القلوب، لأنها أصل لأعمال الجوارح وأفضل منها (تيسير الكريم الرحمن) .
وأحيانًا يعطف الله عمل القلب على الإيمان والعمل الصالح وهو من عطف الخاص على العام بيانًا لعظم منزلة العمل القلبي عند الله، يقول الله تعالى : " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " [هود: 23] .
وفي حديث أنس بن مالك في قصة الرجل الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : «يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة» وفيها أن عبد الله بن عمرو بن العاص تبعه، فبات معه ثلاث ليال، فلم يره يقوم من الليل شيئًا، غير أنه إذا تعار ذكر الله عز وجل وكبر حتى صلاة الفجر، فقال عبد الله : (غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا) فلما مضت الثلاث، وكدت احتقر عمله، قلت : يا عبد الله، لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة» فطلعت أنت الثلاث مرات، فأردت أن آوي إليك، فأنظر عملك فأقتدي بك، فلم أرك عملت كبير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله ص؟ قال: (ما هو إلا ما رأيت، قال : فلما وليت دعاني، فقال : ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشًا ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه) فقال عبد الله : هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق (أخرجه أحمد وصحح إسناده الأرناؤوط في تحقيقه للمسند) .
وتأمل يا أخي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله تجد أنهم ذوو أعمال قلبية، نتجت منها أعمال ظاهرة، حازوا ذلك الفضل العظيم .
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله ورجل تصدق صدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه» (البخاري ومسلم) .

فالإمام العادل : ما حمله على العدل وحجزه عن الظلم، وقد تمكن من الرقاب والأموال إلا خوفه من الله، واستشعاره لعظمة الموقف بين يدي الحكم العدل .
وأما الشاب الذي نشأ في عبادة الله فلم ينتصر على صبوة الشباب ونزوات نفسه إلا بمعان إيمانية قامت بقلبه .
وأما البقية، فقد أبان النبي صلى الله عليه وسلم ما في قلوبهم من أعمال قلبية .
فمنهم المحب لله الذي عظمت تلك المحبة في قلبه، فتعلق قلبه ببيوت الله، وأحب الرجل لا يحبه إلا في الله .ومنهم الخائف من الله الذي ثبت قلبه في موقف يضعف أمامه الأبطال، ومنهم المخلص لله في صدقته، ومنهم من امتلأ قلبه بتعظيم الله وإجلاله، ففاضت عيناه في خلوة، تجلى في عمله الإخلاص، والصدق مع الله .