فى حياة الأمم أحداث عظيمة لا تمحوها الأيام ولا تنال منها الليالى، بل تعود إليها الأجيال لتستمد منها أسباب النصر والقوة وأسباب النجاح والفلاح، ولقد علمنا القرآن الكريم سنة استرجاع الأحداث العظيمة فى تاريخ الأمة، ويظهر لك واضحا فى آية الهجرة، قال تعالى: إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا التوبة/40.


وهذه الآية التى تتعلق بـهجرة سيدنا رسول الله لم تنزل مواكبة لأحداث الهجرة، ولا نزلت بعدها بقليل، بل نزلت بعد الهجرة بتسع سنين، استرجاعًا لعبر ودروس غالية، حين كان المسلمون فى حاجة شديدة إلى هذا الدعم المعنوى الإلهى، كما كانوا فى حاجة لتذكيرهم بحقيقة مهمة فى المعركة الدائمة بين الخير والشر, وهى روح التضحية والفداء وعدم التخاذل والهوان فى أوقات الشدائد والمحن.


وكان نزول آية الهجرة بسبب موقف بعض الناس من قرار النبى بمحاربة الرومان الذين اعتدوا على الدعاة الإسلاميين، ومنعوهم من الدعوة.. فقال بعض الناس: أنّى لنا بمحاربة هؤلاء؟ وكان الرومان القوة الأولى فى العالم آنذاك، فأنزل الله آية الهجرة لتستأصل روح الهزيمة من نفوسهم، وتقطع دابر الضعف فى قلوبـهم، وتطالب المؤمنين بالتضحية والفداء مع رسول الله كى ينصرهم كما نصر وأيد نبيه ومن معه فى الهجرة.


وكان يمكن للهجرة أن تتم فى أقل من لمح البصر، فماذا تساوى المسافة بين مكة والمدينة إذا ما قورنت بالمسافة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى فى رحلة الإسراء، أو المسافة بين المسجد الأقصى والسماوات العلا فى رحلة المعراج؟.. ولكن ربك أراد أن لا يحرمنا من الأسوة و القدوة فى حياة سيدنا رسول الله فى أوقات الشدائد والمحن، فأجرى الهجرة وفق الأسباب، لنتعلم كيف خطط النبى ورتب دليل الطريق ومن يأتى بالزاد ومن يمشى بالغنم كى يمحو الأثر والرفيق والدابة، وخالف الطريق والجهة تمويها على المشركين.


ولنتعلم أن لا ننهار أمام المفاجآت غير المتوقعة حين وصل الكفار إلى الغار وسيطرت مشاعر الخوف على أبى بكر فكان الثبات من رسول الله ، وكان التماسك قائلاً لـه: لا تحزن إن الله معنا، ولنتعلم درس التآخى والتراحم والتعاطف من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.
وهكذا نرى أن الهجرة درس قيم فى عبور المحن والكوارث والشدائد.