علم الجدل أو علم مقارنة الأديان -حسب المصطلح الأكثر شيوعًا في الوقت الحاضر- هو علم وفن المجادلة ومقارعة الحجة بالحجة، والفكرة بالفكرة.


وقد سار العقل المسلم -في عصور تألقه الحافلة- وفق النصر للإسلام وحضارته وأمته.


وعبر أدوات هذا المنهج الفريد في مقارعة الحجة بالحجة وعرض الدليل على الدليل، اهتدت أقوام، واعتنق الدين الحق أناس كثيرون من أهل الكتاب، ومن أجناس ومعتقدات مختلفة!


الباقلاني وكبير بطارقة النصارى
ويُعَدُّ الإمام الباقلاني واحدًا من العقول الجبارة في فن المناظرة والجدل وبسط الأدلة وفق مقتضيات المنطق العقلي، ومما يُروى عنه في هذا السياق أنه ناظر -ذات يوم- كبير بطارقة النصارى، فكان هذا الحوار الرائع الماتع:


*قال الباقلاني: نعم.


*قال البطريق: فلماذا لم يره إلا أهل مكة؟


*قال الباقلاني: يا هذا، نزلت المائدة على المسيح حقًّا؟


*قال البطريق: نعم.


*فقال له الباقلاني: فلماذا لم يرها أحد منكم؟ نحن قد آمنَّا بأن المائدة نزلت أيها البطريق؛ لأن الله تعالى أخبرنا بذلك في القرآن الكريم فآمنَّا به كل من عند ربنا.


*قال البطريق للباقلاني: أَوَمَا سمعتَ عن عائشة زوج نبيكم؟


أراد اللئيم أن يطعن أم المؤمنين رضي الله عنها على غرار ما أثاره رأس المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول وأتباعه المعاصرون!!


ورد الباقلاني في شموخ: أيها البطريق؛ هما امرأتان في التاريخ: امرأة لم تتزوج ومع ذلك ولدت، وامرأة تزوجت ولم تنجب... ونحن برأنا التي لم تتزوج وأنجبت ولدًا؛ لأن الله بَرَّأَهَا، وقال لها: {يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}[آل عمران:43]، وأنتم اتهمتم أم المؤمنين التي تزوجت ولم تُنجب، والله برأها من فوق سبع سموات؛ وقال: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور: 26].


فسكت البطريق هنيهة، ثم عاد يقول أو على الأصح يهذي: نبينا أطهر من نبيكم.. عيسى أطهر من محمد.


قال الباقلاني وهو متعجب مما سمع: وَلِمَ؟


قال البطريق: لأن المسيح لم يتزوج ومحمد تزوج.


وسأل الباقلاني البطريق: أمتزوج أنت أيها البطريق؟


قال البطريق: لا.. لأن الزواج نجاسة.


فقال له الإمام الباقلاني: كيف تقول: إن الزواج نجاسة، ولم تتزوج أنت، ومع ذلك قلتم: إن الله تزوج بمريم؟


فهل أنت أطهر أم الله العلي القدير أيها البطريق؟! أنت لم تتزوج بقصد الطهارة، ومع ذلك قلتم: إن الله قد تزوج أأنت أطهر أم الله؟!


وهنا ما كان من البطريق إلا أن صرخ قائلاً: وهو يرتعش من هول الحقيقة البازغة: يا إمام، والله لقد قلتَ حقًّا ونطقت صدقًا، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.


هذا هو الباقلاني صاحب الأسفار النفيسة "إعجاز القرآن"، "كيفية الاستشهاد في الرد على أهل الكفر والعناد"، "كشف الأسرار في الرد على الباطنية"، "المقدمات في أصول الديانات"..


وهذا هو منهجه في الانتصار للحق ولعقيدة التوحيد الخالص، وهذا هو المنهج ذاته الذي التزمه العقل المسلم عبر حقب إيناع الحضارة الإسلامية السمحة، وتألق الفكر الإسلامي الوضاء.


قصة أسير مسلم
وفي هذا السياق المتوهج بأشعة العقل، الطافح بمنادح النظر المؤمن، المُسَيَّج بحقائق الأدلة الغامرة نسوق -للقارئ الكريم- قصة هذا الشاب المسلم، الذي انتصر لدينه وعقيدته بسبب تضلعه في هذا الفنِّ الإسلامي العجيب.. فن المناظرة، أو علم المجادلة، والقصة واقعية ومن حقائق تاريخ حضارتنا الرائدة.


قال التاريخ: سيق الأسرى إلى قصر الأمير، وكانت وجوههم ساهمة، طبعها الحزن بمعالمه الكئيبة، وكيف لا يألمون لهذا المصير السيِّئ وهم يخترقون بلاد الروم منكسرين لا منتصرين كما كانوا يأملون؟!


ونظروا إلى زميلهم "واصل" الشاب الفقيه الذي ترك دراسته بدمشق، واكتتب في هذه الغزوة الفاشلة، كان واصل يبدو غير مكترث بما حدث؛ فقد استمع إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من سرية ترجع غانمة إلا تعجلت أكثر أجرها، وما من سرية تروع وتحرج إلا استوفت أجرها كله". ولكن واصلاً كان مكتئبًا لأمر واحد، فهو يعلم أن الأميرَ بشيرًا الذي يُساقون إلى قصره كان مسلمًا ثم ارتدَّ، وأن ثمن ردَّته هذه الإمارة العريضة التي يتطاول فيها! واستعرض بشير الأسرى وكانوا ثلاثين، سألهم عن دينهم، وجادلهم في بعض عقائده، فلما جاء دور واصل أبى أن يرد عليه بشيء، فقال له: ما لك لا تجيبني؟


فقال: لستُ مجيبك اليوم بشيء.
فقال: إني سائلك غدًا فأَعِدَّ لي جوابًا. وجاء الغد، وأُدخل واصل على الأمير الذي بادره الحديث بعد حمد الله والثناء عليه قائلاً: عجبًا لكم معشر المسلمين، حيث تكفرون بألوهية عيسى وتقولون: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]، وما يستوي عبد ورب!


ورأى واصل أن يستأمن لنفسه قبل أن يُجيب، فاستوثق لحياته قدر ما يدافع عن عقيدته، فلما اطمأن قال لمحدثه: أما حمدك الله وثناؤك عليه فقد أحسنت الصفة، وهذا مبلغ علمك واستحكام رأيك، والله أعزُّ وأجلُّ مما وصفتَ، وأما ما ذكرتَ من صفة هذين الرجلين عيسى وآدم فقد أسأتَ وأخطأتَ! ألم يكونا يأكلان ويشربان، ويبولان ويتغوَّطان، وينامان ويستيقظان ويفرحان ويحزنان؟!


قال بشير: بلي.


قال واصل: فَلِمَ فَرَّقْتَ بينهما؟


وردَّ بشير: لأن لعيسى روحين اثنتين، روح يبرئ بها الأكمه والأبرص ويعلم الغيوب ويصنع بها المعجزات، وروح لما ذكرتَ من أحوال الناس!


قال واصل: روحان اثنتان في جسد واحد؟!


قال بشير: نعم.


قال واصل: فهل كانت القوية منهما تعرف مكان الضعيفة؟


قال بشير: قاتلك الله! تعلم أو لا تعلم.. ماذا تريد؟


قال واصل: أريد إنْ كانت تعلم، فلماذا لا تطرد عنها قاذورات الضعف البشري وآفاته؟! وإن كانت لا تعلم فكيف يطلع الغيب من يجهل مجاوره في جسد؟!


فسكت بشير محتارًا!!
واستطرد واصل: برضا عيسى أم بسخطه قدَّستم الصليب؟!


قال بشير: هذه من تلك.. ماذا تريد؟


وأجاب واصل: إن كان بسخطه فما أنتم بعبيد يعطون ربهم ما سأل، وإلا فبالله كيف تعبدون ما لا يدفع عن نفسه العدوان؟!


قال بشير: أراك رجلاً قد تعلَّمت الكلام فسآتيك بمن يخزيك الله على يديه.


وأمر باستدعاء رجل من علماء القسس ليجادل هذا "الشيطان".


فلما حضر القس قال له بشير: هذا العربي له رأي وعقل وأصل في قومه، وأحب أن يدخل ديننا.


فأقبل القس على واصل يحتفي به ويمتدحه، ثم قال: غدًا أغمسك في المعمودية غمسة تخرج منها كيوم ولدتك أمك!


قال واصل: فما هذه المعمودية؟!


- ماء مقدس.
- مَنْ قدَّسه؟!
- أنا والأساقفة من قبلي.
- فهل كانت لكم ذنوب وخطايا؟ أم أنت وهم مبرَّءُون من النقص؟
- كلنا فعلنا الخطايا، وليس هناك مبرأ إلا يسوع.
- فكيف يُقَدِّس الماء من لم يُقَدِّس نفسه؟!


وهنا اضطرب القس وحار ثم استدرك: إنها سُنَّة عيسى بن مريم غطسه يوحنا بالأردن، ثم مسح له رأسه ودعا له بالبركة!


فقال واصل: أو احتاج عيسى إلى تعميد يوحنا وأن يمسح له رأسه ويدعو له بالبركة؟! فاعبدوا إذن يوحنا فهو خير لكم من عيسى.


فسكت القس واغتاظ بشير، وامتلأ صدره على هذا القس، فصاح به كالمهووس: قم! دعوتك لتُنَصِّره (تجعله نصرانيًّا) فإذا أنت قد أسلمت!


وانتشر خبر الأسير الفقيه، ومحاوراته الطريفة بسرعة فائقة حتى بلغ الملك وكبير بطارقته، فطلبه إليه وسأله: ما الذي بلغني عنك من انتقاصك لديني ووقيعتك فيه؟


قال واصل: إني لم أجد بدًّا من الدفاع عن ديني.


فتدخَّل كبير البطارقة محاولاً بوقاره وهيمنته الروحية أن يُنهي هذا الأمر، ونظر واصل فرأى تحت أردية الكهنوت جسدًا متين البناء، عارم القوة، فسأل الملك بغتة: هل للحبْر الأعظم من زوجة وولد؟


وعرف الملك على الفور مثار التساؤل فقال له: صه.. هذا أزكي وأطهر من أن يتصل بامرأة! أو يستمتع بجسد!


فقال واصل برباطة جأش ويقين فيَّاض: تأخذكم الغيرة من نسبة المرأة إلى هذا، وتزعمون أن رب العالمين سكن جوف امرأة وعاني ضيق الرحم وظلمة البطن.. عجبًا! تعبدون عيسى لأنه لا أب له، فلِمَ لا تضمون إليه آدم فيكون لكم إلهان، أو عبدتموه لأنه أحيا الموتى؟


فعندكم في الإنجيل أن "حزقيل" مرَّ بميت فأحياه وتكلم معه، فضمُّوه كذلك إلى شركة الآلهة! أو أنكم عبدتموه لأنه أراكم المعجزات؟


فهذا "يوشع" رد الشمس إلى فلكها إذ كادت تغرب، أو عبدتموه لأنه عرج في السموات؟ فهؤلاء ملائكة الله مع كل شخص أعداد يتناوبون بالليل والنهار، أو أنكم.. فقاطعه البطريق: اخسأ يا شيطان.. هذا التجديف أحلَّ بك القتل!


فقال واصل: إني أسير.. وثم ورائي مَنْ إذا بلغه خبري لم يمنعه مسلككم معي من أن يثأر لي.


أيها الملك: سل هؤلاء الأساقفة عن الأصنام التي في كنائسكم هل تجدون لها في الإنجيل مبررًا؟ فإن كانت في الإنجيل فلا كلام لنا، وإلا فما أشبهكم بالوثنيين.


قال الملك: وقد أخذته دهشة وانجلت عن بصره غشاوة: صدقت، قد يعقل ما تقول!


وفي هذه الأثناء استشاط القس وامتلأ غضبًا، فقال في حالة هستيرية: هذا شيطان من شياطين العرب، أخرجوه من حيث جاء، لا تقطر من دمه قطرة في بلادنا فتفسد علينا ديننا!


وعاد "واصل" ومن معه من الأسرى، وقد بدَّلوا انكسارهم بانتصار.


دين الحجة والتسامح
ومن الأمارات الدالة على أن الإسلام وحده دين الحق والبرهان والخلود، جمعه البين بين فضيلتي قوة الحجة والمنطق، واحترام العقل والنظر، وبين خُلق التسامح والحفاوة بالرأي الآخر، ووجهة النظر المغايرة، ويكفي الإسلام فخرًا وسموًّا في هذا الخصوص أنه خلَّد الرأي الآخر في محاورات أنبياء الله الكرام مع بعض أقوامهم من المشركين والكافرين والزائغين، وجعل ذلك الرأي قرآنًا، وذكرًا يتلي عبر كل العصور والدهور إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.


ومما لا شكَّ فيه أن التسامح عند المسلمين لم يقتصر على الجدال العقائدي والفكري والفلسفي، لما يؤمن به الآخرون من أهل الأديان، والمذاهب واتساع الصدر لمناقشة هؤلاء الأتباع في رؤية متزنة، وخلق عالٍ ومنهجية نادرة فحسب، وإنما نجد أن الأمر تجاوز هذه الحدود إلى واقع المجتمع الإسلامي ذاته، وإلى نطاق مختلف الآفاق التي يسمح بها التشريع الإسلامي في التعامل مع أهل الذمة، وتقرير حقوقهم وإنسانيتهم.


فمن مظاهر التسامح الإسلامي أن العرب والمسلمين كانوا إزاء نصارى الأندلس يسمحون لأساقفتهم بعقد مؤتمراتهم الدينية كمؤتمر أشبيلية النصراني الذي عُقد سنة 782م (أي بعد واحد وسبعين عامًا من الفتح الإسلامي)، ومؤتمر قرطبة النصراني الذي عُقد سنة 852م.


ومن الكنائس القبطية المشهورة التي بُنِيَتْ في العصر الإسلامي كنيسة "مارجرجس" بحلوان وكنيسة "أبي مينا" وغيرهما كثير.


وفي هذا السياق دائمًا يروي التاريخ أيضًا أنه لما غزا التتار بلاد الإسلام، ووقع كثير من المسلمين والنصارى في أسرهم، ثم عادت الغلبة للمسلمين ودان ملوكهم (التتار) بالإسلام خاطب شيخ الإسلام ابن تيمية أمير التتار بإطلاق الأسرى فاستجاب الأمير التتري؛ ففك أسرى المسلمين وأبى أن يسمح بفك أسرى النصارى، فقال له شيخ الإسلام: لا بُدَّ من فكِّ الأسرى من اليهود والنصارى لأنهم أهل ذمتنا. فأطلقهم له.