فتنة المرء في ماله، وأهله، وولده

الفتنة هي الاختبار والامتحان والابتلاء يصيب بها ربنا سبحانه وتعالى من عباده من يشاء ويصرفها عمن يشاء، لا رادَّ لحكمه ولا معقب لأمره، والفتن تنقسم إلى قسمين من حيث أصلها ومصدرها:
1. فتن صادرة من الله عز وجل لحكمة يعلمها هو، وهي بعض المصائب والنكبات التي تقع على العبد، صالحاً كان أم طالحاً، الصالح لرفع درجته، والطالح لتطهيره وتزكيته، "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل"، كالقتل، والتعذيب، والفقر، والمرض، والحبس، ونحوها، في النفس، والأهل، والولد.
2. وفتن صادرة من الإنسان، كالمعاصي والآثام والمخالفات العظام المذمومة.
ومن حيث حجم الفتن وخطرها فإنها تنقسم إلى قسمين كبيرين كذلك:
1. صغرى.
2. وكبرى.
أوخاصة وعامة، فالصغرى الخاصة كفتنة الرجل في ماله، وأهله، وولده، وجاره، ورحمه، وحاسديه، والفتنة الخاصة قد يكون الدافع إليها والباعث عليها شدة أورخاء، أوفقر أوغناء، أوصحة وفتوة، أومرض وضعف، أوهوى.
إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمـرء أي مفسـدة


الفتن التي تصيب المرء في ماله، وأهله، وولده

الفتن التي يتعرض لها الإنسان من الأهل، والولد، والمال، والجيران، والأرحام، وغيرهم، كثيرة جداً، ولا يمكن حصرها ولا الإحاطة بها، ولكن يمكن التنبيه والتذكير بأكثرها شيوعاً وأعظمها ضرراً ليُقاس عليها.
لقد بين الله عز وجل أن الأموال والأولاد فتنة، وإن تفاوتت في قدرها وخطرها، وقرر كذلك عداوة بعض الأزواج، والأصدقاء، والخلطاء لبعض، ذكوراً كانوا أم إناثاً، فقال: "إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم" وقال: "يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم"، وقال: "الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين"، وقال: "إن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض"، وقال: "وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم"
من تلكم الصور ما يأتي:
أولاً: النهي والتثبيط عن الغزو، والجهاد، والهجرة، والصدقة، وغيرها من سبل الخير
جاء في سبب نزول قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم"، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: "نزلت هذه الآية في المدينة في عوف بن مالك الأشجعي، شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده، فنزلت؛ وفي رواية أنه كان ذا أهل وعيال، وكان إذا أراد الغزو بكوا عليه، ورققوه فقالوا: إلى من تدعنا؟ فيرق فيقيم.
قال ابن العربي المالكي رحمه الله: (هذا يبين وجه العداوة، فإن العدو لم يكن عدواً لذاته، وإنما كان عدواً بفعله، فإذا فعل الزوج والولد فعل العدو كان عدواً، ولا فعل أقبح من الحيلولة بين العبد وبين الطاعة.
كان الأنبياء وأتباعهم يخافون من فتنة الزوج والولد، لذلك عندما جاء الخليل متفقداً ولده إسماعيل بمكة ولم يجده، ووجد زوجه، وشعر أن عندها ميلاً إلى الدنيا وقلة قناعة، قال لها: أقري زوجك مني السلام وقولي له: غيِّر عتبة بابك؛ كناية عن طلاقها.
ولذات السبب طلب عمر رضي الله عنه من عبد الله ابنه أن يطلق زوجة له خشي أن تشغله عن الغزو والجهاد، فأبى، فشكاه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأمره بطلاقها فطلقها.
هذه العداوة ليست قاصرة على الزوجة والأولاد، بل ربما تكون عداوة الزوج لزوجته وأولاده وفتنته لهم أشد وأنكى.
فتنة الأهل والولد درجات، فقد تصل الفتنة إلى درجة الكفر، وقد تقصر عن ذلك: "فأما الغلام فكان أبواه مؤمِنَيْن فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً".
روى الترمذي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران، يمشيان ويعثران، فنزل صلى الله عليه وسلم فحملهما ووضعهما بين يديه، ثم قال: صدق الله عز وجل: "إنما أموالكم وأولادكم فتنة"، نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما"، ثم أخذ في خطبته.
وجاء في حكمة عيسى عليه السلام: "من اتخذ أهلاً ومالاً وولداً كان للدنيا عبداً".
ثانياً: أن يضطروه ويجبروه على المكاسب المحرمة والمشبوهة
من صور الفتنة التي قد تحدث لبعض الناس من أهليهم وأولادهم أن يدفعوهم إلى بعض المكاسب الخبيثة المشبوهة، وهذه من أخطر الصور وأضرها على المرء وعلى أهله وأولاده، فالواجب على المرء أن يقي نفسه وأهله أكل الحرام المؤدي إلى دخول النار: "كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به"، ولهذا عندما رأى رسولنا الحسن يرفع تمرة من تمر الصدقة المحرمة على رسول الله وآله إلى فيه، قال له: "كخ كخ" حتى رماها؛ وعندما علم أبوبكر أن غلامه تكهن وأتاه بطعام تقيأه بعد ما أدخله في فيه، وقال: لو لم يخرج إلا مع نفسي لأخرجته.
ثالثاً: أن يحابي بعض أزواجه وأولاده دون بعض
هذه كذلك من صور الفتن الخطيرة التي ابتلي بها البعض، حيث يمنح بعض أزواجه أوولده دون الآخرين، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا المسلك وحذر منه، وقال لبشير بن سعيد عندما أراد أن يمنح ابنه النعمان حديقة: "أكل بنيك منحت هكذا؟ قال: لا؛ فقال: "لا تشهدني على جور، أشهد على ذلك غيري" الحديث.
سواء كانت هذه المنحة عن طريق الهبة أوالوصية أوبأي طريق من طرق الاحتيال.
رابعاً: عدم الصبر والثبات إذا أصيب في شيء من ماله، أوأهله، أوولده
من الفتن العظيمة والمخاطر الجسيمة التي يقع فيها البعض بسبب مصيبة تحل بماله أوولده، فلا يصبر ويحتسب، وإنما يصيح ويجزع، فيخسر الدنيا والآخرة.
عندما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرأة التي أصيبت في ولدها: "اصبري واحتسبي"، قالت له ولم تكن تعرفه: إليكَ عني، فلو أصابك ما أصابني..، فتركها، وعندما علمت أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت إليه نادمة معتذرة، فقال له: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى"، ولهذا عظم ثواب وأجر المحتسبين، فقد صح عنه أنه قال: "يقول المولى عز وجل للملائكة الموكلين بقبض الأرواح: قبضتم ولد عبدي، قبضتم ثمرة فؤاده؟ يقولون: نعم، يقول لهم: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد".
فعلى المسلمين أن يتأسوا بسلفهم الصالح، ويقتدوا بهم، وأن يتذكروا عند المصائب مصابهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث لم يصب مسلم مصاباً أشد ولا أكبر منه.
خامساً: غلبة العواطف، فيلبي جميع الكماليات، ويقصِّر في أوجب الواجبات
من الواجب على المرء الإنفاق على الزوجة والأولاد، ولكن نجد بعض الأزواج والآباء يبالغون في تلبية جميع الكماليات، التي في كثير من الأحيان يكون فيها إفساد لهم، بجانب الإرهاق المادي لمن يتكلفون لذلك، بينما نجد تقصيرهم كبير فيما أوجبه الله عليهم من تعليمهم، وإرشادهم، وتوجيههم، ومراقبة تصرفاتهم، والاطمئنان على صلاح من يرافقون ويصادقون.
ينبغي أن يكون حرص الوالدين والأولياء على الأدب والسلوك أكبر من حرصهم على مصالح أبنائهم الدنيوية، متمثلة باهتمامهم بالتعليم المدني مقابل إغفالهم وإهمالهم لتقويم وتوجيه سلوك الأبناء.
من أجل النعم على العباد بعد الإيمان والاستقامة الأبناء الصالحين والأولاد الخيرين الفالحين، الذين يستمر نفعهم ويستفيد الآباء والأمهات بهم أحياء وأمواتاً: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث" الحديث، وذكر منهم: "ابن صالح يدعو له".
احذروا أيها الآباء هذه الفتنة التي سببها المبالغة في حب الأبناء والتجاوز فيه، فقد جعل الله لكل شيء قدراً، وليكن لكم القدوة الحسنة في ابن عمر الذي هجر ولده بلالاً لرده لحديث لشدة غيرته، وقال له: "والله لا أحدثك أبداً"، وفي سعد بن أبي وقاص عندما قالت له أمه: لا أستظل حتى ترجع عن دين محمد؛ فقال لها: والله يا أماه لو كانت لك مائة نفس خرجت كل واحدة تلو الأخرى ما تركت دين محمد صلى الله عليه وسلم.
سادساً: أن يكونوا سبباً في جبنه وبخله
من فتنة الأهل والأولاد المشاهدة العِدَة بالجبن والبخل، تصديقاً لقوله عز وجل: "الشيطان يعدكم الفقر"، وعِدَة الشيطان بالفقر قد تحدث نتيجة وسوسته، أوبتحريك من ينوبون عنه، زوجة كانت، أم أبناء، أم أصدقاء، أم أقرباء، ونحوهم من جنوده الكثر، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "الأبناء مجبنة مبخلة"، وفي ذلك تحذير أيما تحذير من طاعتهم في تثبيطهم عن الغزو والإنفاق في سبل الخير المختلفة، لأن الجبن والبخل من الأدواء المذلة، ولهذا أمرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة منهما"، اللهم إني أعوذ بك من الجبن والبخل".
تذكر أخي المسلم صنيع أبي طلحة الأنصاري وزوجه أم سُليم مع ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، حينما نوَّمُوا صغارهم وأطفأوا سراجهم، وخصوا الضيف بجميع طعامهم، مما جعل الله ورسوله يسرَّان لحسن صنيعهما هذا.
وجاء في الحكم: "احرص على الموت توهب لك الحياة"، ولله در القائل:
من لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد
ورضي الله عن عمرو بن الجموح الأعرج الذي عذره ربه وناب عنه بنوه في غزوة أحُد، ولكن همته العالية أبت إلا أن يخرج في أحد ليطأ بعرجته تلك الجنة.
أيها الآباء احذروا أن تفتنوا أبنائكم بمنعهم عن الغزو والجهاد، الذي هو ذروة سنام الإسلام، سبيل رفع الضيم والظلم والعدوان عن هذه الأمة.
سابعاً: أن يكونوا سبباً في عقوق والديك وتشاغلك عنهم
من فتن الأبناء والأهل الخطيرة على الرجل أن يحولوا بينه وبين بره لوالديه أويحملوه على عقوقهم، بدلاً من أن يعينوه على ذلك ويذكروه.
كثير من الآباء والأمهات يشكون من أبنائهم ومن تقصيرهم نحوهم بعد الزواج، وتشاغلهم عنهم، وهذا لا يحل، وتذكر أخي أنك كما تدين تدان .
واعلموا أيها الأبناء أنكم ستصيرون آباء عجزة ضعفاء تحتاجون إلى بر وإحسان أبنائكم، وأنت أيتها الزوجة تذكري حاجتك إلى بر أبنائك في الكبر وأعيني زوجك على بر أبويه والإحسان إلى أقاربه وأرحامه.
فأولى الناس بحسن الصحبة الأم ثم الأب، ثم الأدنى فالأدنى.
وأنتم أيها الوالدان أعينوا أبناءكم على بركم ولا تضيقوا عليهم، واحذروا الغيرة من الزوجة والأبناء فإنها من الأدواء.

ثامناً: أن يشغلوه عن طاعة ربه وتقصيره فيها
من جملة فتنة المال والأهل أن يشغلوا الإنسان عن طاعة ربه، فيعرضوا له في صلاته وعبادته، فيحولوا بينه وبين مناجاة ربه، إذ الطمأنينة والخشوع في العبادة خاصة الصلاة لبها ومقصودها، فإذا كان رسولنا صلى الله عليه وسلم إمام الخاشعين قطع خطبته لما رأى حسناً وحسيناً وحملهما ثم واصل خطبته، فكيف بغيره؟!
روى مالك في موطئه عن عبد الله بن أبي بكر: "أن أبا طلحة الأنصاري كان يصلي في حائط له، فطار دبسي، فطفق يتردد يلتمس مخرجاً، فأعجبه ذلك، فجعل يتبعه ببصره ساعة، ثم رجع إلى صلاته، فإذا هو لا يدري كم صلى، فقال: لقد أصابني في مالي هذا فتنة؛ فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له الذي أصابه في حائطه من الفتنة، وقال: يا رسول الله هو صدقة لله، فضعه حيث شئت"


كفارة فتنة الرجل بماله، وأهله، وولده، وغيرهم

الفتن التي تعرض للإنسان بسبب ماله، وأهله، وجيرانه، وغير ذلك كثيرة ومتنوعة، منها ما هو:
1. صغائر تكفرها الأعمال الصالحة من صلاة، وصيام، وحج، وصدقة، وأمر بمعروف، ونهي عن المنكر، وما شابهها.
2. كبائر يفعلها الإنسان ويقلع عنها، وهذه تحتاج إلى توبة واستغفار.
3. ومنها ذنوب يصر عليها صاحبها ويعاودها كلما تاب وندم منها يضعف عن ذلك، مع علمه بقبحها، ويتمنى الخلاص منها، فهو في رجاء الله وإن كان يُخشى عليه.
4. ومنها بدع وحوادث، وهي من أخطرها.
5. ومنها الكفر والشرك الأعظم الذي لا يفيد معه عمل صالح.
قال تعالى: "إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين".
وقال: "والذين إذا فعلوا فاحشة أوظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم".
وكل من فتن بشيء من المعاصي والشهوات المحظورة، فهو مفتون، إلا أنه إن ترك وأناب، واستغفر وتاب، غفر له مع أدائه لصلاته وزكاته وصومه، وهذه صفات المذنبين، وقد فتِنَ الصالحون وابتلوا بالذنوب، قال الله تعالى: "وإذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون"، وقال: "والذين إذا فعلوا فاحشة أوظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم" الآية.


اللهم اعصمنا من الفتن، وأحينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، غير خزايا ولا مفتونين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه الطاهرين الطيبين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.