لمَّا لم يسكن قلوبَنا من العلم والإيمان ما يُمتنع به من دعاة الباطل والغَواية،
فكُنَّا نَنعق خلف كل ناعق دون فحص ولا بحث ولا تحقيق ولا تمحيص في دعواه أحق أم باطل؟!


وكُنَّا كلما سَخِر ساخر أو اغتاب أو نمَّ سخرنا معه واغتبنا ونممْنا؛
هرَبًا من ظلمة الكآبة والشقاوة والحزن إلى وهم السعادة والانشراح والمسرَّة،
وإنَّها لسَكرة!


وكُنا كلما غَوى غاوٍ غوَينا معه رسمًا بالقلم للأراجيف والفواحش، وبثًّا باللسان للفضائح والشوائع؛
هربًا من الخمول إلى الشهرة، وحُبًّا في مجاراة القوم واكتساب ثنائهم.


وكُنَّا نَخوض في دين الله بغير علم، ونتقول على الله الأقاويل؛ استكبارًا عن طلب الحق وسؤال أهله،
وغرورًا بما لدينا من فتات علم مخلوط بظلمة البدع والشبهات،
لو نفعنا لألجَمَ ألسنتَنا،
ثم ماذا؟


لوثات قبيحة، ولطخات واضحة موحشة، وانتشار للأباطيل والأراجيف والفواحش،
وهدم الروابط والصلات الاجتماعية، وصَدٌّ عن سبيل الله، وعواقِبُ مُخزية.


فحطب كل فتنة:
الخائضون بغير نور وبرهان من الحق، بهم تُوقد ويشبُّ ضرامها؛

قال صلى الله عليه وسلم:

((وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى
ما يظنُّ أن تبلُغ ما بلغَت؛
فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة
)).


العمر قصير، والساعات طائرة، فالزم باب الصمت إلا عن قول حق ينفع؛
قال صلى الله عليه وسلم:
((مَن كان يُؤمن بالله واليوم الآخرفليقل خيرًا أو ليَصمُت))،
وكن إلى أن تسمع أحرصَ منك إلى أن تتكلَّم، ولا تتكلم في شيء لا يعنيك.


وتدبَّر فعلَه وقولَه صلَّى الله عليه وسلم
- وهو أفصح الناس وأعلمهم وأذكاهم،
يعلم الكلمة وظلالها وخَبْأها وما يتوارى وراءها -
فيما روته أمُّ المؤمنين عائشة رضى الله عنها
أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا:
السام عليك،
قال: ((وعليكم))
فقالت عائشة:
"السام عليكم، ولعنَكم الله، وغضب عليكم"،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((مهلاً يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف أو الفحش))
قالت: أوَلم تسمع ما قالوا؟
قال:
((أولم تسمعي ما قلت؟ رددتُ عليهم فيُستجاب لي فيهم ولا يُستَجاب لهم فيَّ))،
فإذا كان هذا هو منهج النبي في التعامل مع اليهود الذين قال الله فيهم:
﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا
[المائدة: 82]،

فما بالك لو طبَّقته في تعامُلك مع إخوانك من أهل الإيمان والإسلام،
فيمَن اختلف معك في أمر من أمور الدنيا أو الدين
أو فيمَن تلبَّس بمعصية أو ابتُلي ببليّة أو نقيصة.


واترك ناجم الشَّرِّ حصيدًا،
وباب الفتنة مُغلقًا،
واعلم أنَّ الباطل نَسوف عَصوف ولو بعد حين،
واعلم أنَّ مَن اتَّقى الله، وآثر رضاه، وطلب ما عنده،
أمسكَ لسانه، وأطبق فاه، وغَلَّبَ عقله،
ودينَه على هواه، وجعل سعْيَه للآخرة،
وتذكَّر قوله تعالى:
﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ
[ق: 18].