بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعـالى:
﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ
[آل عمران]
عجبت للجنة نام طالبها وللنار نام هاربها.

المقدمة

الحمد لله منجي الصالحين ومهلك الكفرة والفاسقين، الحمد لله الذي هيأ لنا سبل النجاة، ووضح لنا طريقها، وهدانا الصراط المستقيم، ودلنا على الخير لندخل برحمته الجنة إن شاء الله تعالى من أوسع أبوابها.


وأشهد ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له، الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله إمام المتقين وسيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين. ثم أما بعد:


يجدر بكل مسلم أن يتعرف على أسباب النجاة في دينه ليتخذها، ويسلك طريقها وينتهج منهجها، ثم عليه أن يتعرف على عموم المنجيات، لينتهجها في حياته، وفي نفس الوقت يجدر به أن يتعرف على أصول المهلكات من الأعمال السيئة ليجتنبها وليحذر منها ومن شؤمها.

كل ذلك لينجو برحمة الله سبحانه وتعالى وبمشيئته عز وجل.


أولاً: المنجيات
وهي أربع:
1- الإيمان بالله تعالى.
2- العمل الصالح.
3- الاستغفار.
4- التوبة.
أسباب النجاة:

اعلم أخي أن رسول الله صلى الله عليه سلم لما ذكر أسباب النجاة ذكر لها سببًا واحدًا فقط ليس له ثان وهو رحمة الله تعالى، فبرحمته عز وجل كتب للعبد النجاة لا سبيل آخر لها إلا ذاك، وقد بين ذلك صلى الله عليه سلم في الحديث بقوله صلى الله عليه وسلم: «اعملوا وسددوا وقاربوا واعلموا أن أحدًا منكم لن يدخله عمله الجنة» قالوا، ولا أنت يا رسول الله قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» متفق عليه.


فما يستفاد من معنى ومضمون الحديث:

1- أن سبب دخول الجنة هو رحمة الله تعالى، وذلك يكون بالإيمان بالله عز وجل، ولكن كون الله سبحانه يأمرك بأمور، وينهاك عن أخرى - لا تعود عليه بنفع أصلاً، ثم هو سبحانه يثيبك عليها بالجنة، هذا في حد ذاته رحمة للعباد.
وهنا تتجلى رحمة الله سبحانه وتعالى فإذا كانت حقيقة التشريع أنه منفعة تعود على العباد، والله سبحانه لا ينتفع ولا يتضرر بشيء من ذلك إن أحسن العباد، أو أساؤوا وفوق ذلك وبعد ذلك، هو سبحانه وتعالى يجزي من التزم به بالجنة فهذا ولا شك رحمة فوق رحمة، الأولى رحمة أنه شرع لهم ما ينفعهم في دنياهم، والرحمة الأخرى أنه سبحانه أثابهم على تطبيق ما ينفعهم بما يسعدهم في الدنيا ومن ثم بالجنة في الآخرة.
إذًا التزام العبد بالمنهج الشرعي منفعة له ونجاة، في نفس الوقت.


2- أن سبب دخول الجنة هو رحمة الله تعالى. ولكن على المسلم ضرورة العمل الصالح الذي به يصل إلى رحمة الله تعالى: .. إذاً بالعمل الصالح يبلغ المؤمن رضا الله عز وجل فيدخل الجنة إن شاء الله تعالى، وإلا لمى قال صلى الله عليه وسلم : «اعملوا وسددوا وقاربوا...» وذلك لأن الإيمان عمل قلوب والعمل الصالح عمل جوارح.

والمحصلة النهائية هي أن أسباب النجاة من خلال استقراء الحديث هما سببان، ويلحق بهما سببان آخران لأنهما لا ينفكان عنهما، كل ذلك لنصل إلى رحمة الله سبحانه، وبالتالي الفوز بالجنة إن شاء الله تعالى.

أما سببا النجاة الرئيسيان فهما (الإيمان بالله تعالى، ثم طاعته من خلال العمل الصالح) وأما السببان اللذان يلحقان بهما فهما (الاستغفار وإن لم يكن هناك ذنب، ثم التوبة من الذنوب) هذه هي عموم المنجيات الأربع:

1- الإيمان بالله تعالى: ولا نجاة للعبد إلا بالإيمان به سبحانه وتعالى، وكل من كفر بالله عز وجل أو أشرك به فقد هلك نعوذ بالله تعالى من ذلك لقوله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء] ولقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [المائدة] ولقوله صلى الله عليه وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها منعوا – عصموا - مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله » رواه الجماعة.



والإيمان أخي الحبيب هو كمال العبودية لله تعالى ولذا فهو لا يتحقق إلا بعبادة الله تعالى العبادة الحقة وذلك يكون بإتباع دينه الحنيف وقبول كل ما جاء به محمد صلى الله عليه سلم مبلغًا عن ربه عز وجل شرعه القويم، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء].


والعبادة أخي هي طاعة العابد للمعبود، الطاعة المطلقة بأركانها الثلاثة والتي بها تتم وتتحقق، وإلا صارت عبادة ناقصة وعلى غير المنهج الحق، وتلك الأركان الثلاثة هي (محبة الله تعالى، ورجاؤه عز وجل، والخوف منه سبحانه)
وقد جاءت هذه الأركان مجتمعة في أول سورة من القرآن الكريم بل هي أول ثلاث آيات من القرآن الكريم على الإطلاق، وهي قوله سبحانه وتعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة].


فقوله تعالى ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ يحقق المحبة، وقوله تعالى ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ يحقق الرجاء، وقوله تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ يحقق الخوف.


المحبة: وهي الركن الأول من أركان العبادة، والواجب على المسلم أن يحب الله تعالى الحب الحقيقي، وبالتالي يقدم محبته عز وجل على كل محبة لقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ [البقرة] ولقوله صلى الله عليه وسلم : «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه». مسلم .



وهذا يعني طاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر ومنه حذر، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ [التغابن]



أما ادعاء حب الله عز وجل من غير طاعته فتلك هي المحبة الزائفة، محبة الكذابين مصداقًا لقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران] وقوله صلى الله عليه سلم للأعرابي الذي جاءه يسأل عن الساعة فقال له صلى الله عليه سلم «ويحك إن الساعة آتية فما أعددت لها» قال: ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام، ولكني أحب الله ورسوله، فقال له: رسول الله صلى الله عليه سلم «المرء مع من أحب» فما فرح المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث البخاري وحقيقة المحبة هي طاعة الله تعالى في كل ما أمر.

الرجاء: وهو الركن الثاني من أركان العبادة، وكما هو حال المسلم في المحبة كذا هو حاله في الرجاء، إذ يجب عليه أن يتعبد إلى الله تعالى به، فكما تحبه سبحانه، فعليك أن ترجو رحمته وتطلب مغفرته، مصداقًا لقوله عز وجل: ﴿أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ [الزمر]



وأصل الرجاء أنه يعلق على العمل الصالح، أما الرجاء المجرد من ذلك فهو رجاء الكذابين مصداقًا لقوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا *﴾ [الكهف].


والرجاء حقيقة أن يعلم العبد أنه لن ينجيه إلا رحمة الله تعالى وأن طاعته لله تعالى مهما بلغت، فهي لن تنفع الله تعالى بشيء، وأن معصيته لله عز وجل لن تضر الله، ولن تعجزه بشيء، وأن عليه سلوك طريق الرجاء مصداقًا لقوله صلى الله عليه سلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئًا..» مسلم.


وحقيقة الرجاء أن تعمل صالحًا ثم تحسن الظن بالله تعالى وأنه رؤوف رحيم بعباده سبحانه.

الخوف: وهو الركن الثالث من أركان العبادة ويجب على المسلم أن يتعبد إلى الله تعالى بالخوف، بحيث يخاف الله تعالى ويخشى انتقامه ويتقي عذابه، وبالتالي فالخوف من أهم المنجيات، وكل من خاف الله تعالى تجده يعبد الله عز وجل، ويتقرب إليه بالعمل الصالح ويتقي عذابه، وبالتالي يترك العمل الفاسد؛ لأن له عاقبة وخيمة في الدنيا والآخرة، أما الخوف المجرد من العمل الصالح فهو خوف الكذابين الذين يخدعون أنفسهم ولا ريب، مصداقًا لقول عز وجل: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النازعات] ولقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [الملك:].


فكل من خاف من ربه تعالى خوفاً حقيقياً وجب عليه البعد عن أسباب الردي والهلاك ، لا أن يخاف بلسانه ويقترف صنوف المعاصي بأفعاله، فهذا ولا ريب ضلال مبين، ولذلك كانت التقوى أهم مظاهر الخوف من الله تعالى وهي أن تجعل بينك وبين عذاب الله تعالى وقاية: بترك وتجنب عموم الذنوب والمعاصي والآثام، وحقيقة الخوف أن يجتنب العبد كل ما نهى الله تعالى عنه.

إذًا الإيمان يتم بالعبادة الصحيحة الحقة، والعبادة الصحيحة تحقق ثلاث أمور مجتمعة وهي: محبة الله تعالى وهي وحدها لا تكفي، بل مع المحبه يجب تحقق مخافته عز وجل، والخوف منه سبحانه وحده لا يكفي بل برجائه تعالى مع المحبة، وبهذه الثلاثة الأركان تكمل العبادة فيتحقق الإيمان الحق.


2- العمل الصالح: يعتبر العمل الصالح أهم المنجيات على الإطلاق، وذلك لأن به يتحقق إيمان العبد، ولذلك فقد ربطه سبحانه وتعالى في عدة آيات من كتابه العزيز بالإيمان بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ فبين عز وجل أن العمل الصالح إنما هو ثمرة الإيمان، وإن الإيمان المجرد من العمل لا ينفع صاحبه، لأنه إيمان الكذابين، لأن الله تعالى يريد منا إيمانًا صادقًا يستقر في القلب، ثم ينضح على الجوارح عملاً.


ومن عظيم رحمة الله تعالى أنه عز وجل جعل جزاء السيئة بمثلها، وجزاء الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعين ضعفًا إلى سبعمائة ضعف بل إلى أضعاف كثيرة، وكل ذلك لتترجح كفة العمل الصالح يوم القيامة، هذا بالإضافة إلى أن العمل الصالح كفارة للسيئات يغفر الله تعالى به الذنوب والمعاصي والآثام.


وكل المأمورات الشرعية هي أعمال صالحات كالصلاة والصيام والصدقة والحج وتلاوة القرآن وقول الحق، وعموم أعمال البر وما إلى ذلك.



ولقبول العمل الصالح هناك شرطان وجب تحققهما فيه وإلا اختل وفسد، وهما:


كونه خالصًا لله تعالى لا شرك فيه ولا رياء ولا سمعة، لقوله تعالى في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه» [مسلم] إذًا صلاح النية والإخلاص فيها هو الشرط الأول لقبول العمل الصالح، وكل من فسدت نيته فسد عمله.


كونه موافقًا لما جاء به نبينا محمد صلى الله عليه سلم من عند الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم : «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» رواه مسلم أي مردود، إذًا الشرط الثاني هو الموافقة والمتابعة لما جاء به محمد صلى الله عليه سلم اتباعًا له ولما جاء به من عند ربه عز وجل لا ابتداعًا في الدين أو جهلًا بأموره، لأن ذلك يفسد العمل أيضًا.


ولكن العمل الصالح - أخي الحبيب - وحده لا يكفي للنجاة، إذ يجب تحقق الإيمان الصادق، ومن ثم التعبد إلى الله تعالى بأركان العبادة الثلاثة المذكورة مع العمل الصالح، ورغم ذلك فقد يطرأ تقصير أو خلل في العمل الصالح، فشرع الله تعالى لنا الاستغفار لتلافي ذلك التقصير.


3- الاستغفار عن التقصير الحاصل في العمل الصالح: إذ المسلم يستحيل أن يعبد الله تعالى العبادة الكاملة من غير أن يكون هناك نقص أو تقصير حاصل منه في كل العبادات، لذا كان الاستغفار كالمكمل للعمل الصالح الذي يجبر به الخطأ والتقصير والتفريط الحاصل، وكل ذلك رحمة من الله تعالى بعباده. والاستغفار، يكون من ذنب ومن غير ذنب، لأن التفريط كما قلت حاصل من المسلم لا محالة، والاستغفار في جميع حالاته يقربه إلى الله تعالى، ويحل رضاه، ويستجلب رزقه مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: «من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا ورزقه من حيث لا يحتسب» [أحمد] ولقوله صلى الله عليه وسلم: «طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارًا كثيرًا» [النسائي وابن ماجة].


والاستغفار يجبر الله تعالى به خلل العبد وتقصيره، وهو في الحقيقة اعتراف لله تعالى بعدم بلوغ المنتهى في العبادة الحقة، وبالتالي طلب الغفران عما حصل من تقصير وتفريط وخطأ وزلل، ولذا أمرنا صلى الله عليه سلم أن نكثر منه بقوله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب إلى الله واستغفره في كل يوم مائة مرة» [مسلم]([1]).

واعلم أخي أن للمعاصي والذنوب سببين اثنين (بقصد ومن غير قصد)([2]).


ما كان منها بقصد: وهي عموم الذنوب والمعاصي التي يتعمد المسلم ارتكابها، كالسب والشتم والسرقة والزنا والكذب وما إلى ذلك من سائر المعاصي والآثام والسيئات.


ما كان منها بغير قصد، وهي تتأتى من باب التفريط والتهاون والتقصير في العبادات، كالتكاسل عن أداء الصلاة أو تأخيرها عن وقتها أو إضاعة الواجبات والحقوق، أو التهاون في أدائها لمستحقيها، أو بدافع الجهل أو الخطأ أو الهزل وما إلى ذلك من غير قصد ارتكاب المعصية، والكثير من الناس واقعون في هذا الأمر بشكل أكبر من سابقه وهم لا يعلمون، ولا له يتفطنون.


4- التوبة من الذنوب والمعاصي: لأن المسلم لا يسلم من الذنوب والمعاصي والزلات والهفوات، ومن رحمة الله تعالى أنه شرع التوبة كالفرصة لمن أذنب، وحتى لا يشعر بأنه قد فقد فرص التوبة والإنابة والرجوع إليه سبحانه، وبالتالي يزداد في غيه وباطله وضلاله وإسرافه على نفسه، فمشروعية التوبة أخي المسلم في حد ذاتها هي رحمة من الله تعالى بالمذنب فيقلع ويتوب، ورحمة بالآخرين حتى لا يصطلوا بفساده ويتضرروا به.

وبالتوبة يغفر الله تعالى الذنب لصاحبه، وليس ذلك فحسب، بل ويبدل سيئاته إلى حسنات، وذلك من عظيم رحمته سبحانه مصداقًا لقوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا﴾ [الفرقان].


وباب التوبة مفتوح لا يغلق أبدًا، وذلك أيضًا من رحمة الله تعالى حتى يسع العباد أن يتوبوا في أي وقت كان، لا يمنعهم من التوبة شيء مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء، الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» [مسلم]


وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى لما لعن إبليس سأله النظرة، فقال: وعزتك وجلالك لا أخرج من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح، فقال الله عز وجل: وعزتي لا أمنعه التوبة ما دام فيه الروح» [أحمد]


وحقيقة التوبة عدم القنوط من رحمة الله تعالى والإنابة إليه.
والتوبة أخي عادة تكون - كما قلت - من ذنب، ولذا فلها شروط هي:


1- الإقلاع عن الذنب.
2- عدم العودة إليه.
3- الندم على ما فات.
4- أداء حقوق الآدميين إن كان في الإمكان.


إذًا إذا نظرنا أخي المسلم فيما ذكر نجد أن الإيمان بالله تعالى رحمة منه سبحانه، لأنك به تحيا الحياة الحقيقية السعيدة، ثم نجد أن العمل الصالح رحمة منه سبحانه، لأن فيه منفعتنا، ويحقق لنا مصالحنا، ويحفظنا من شرور وغوائل نفوسنا.
ثم نجد أن الاستغفار رحمة منه سبحانه لتلافي ما يقع في العبادة من خلل وزلل، ثم نجد أن التوبة هي أيضًا رحمة منه سبحانه؛ لأن المسلم لا يسلم ولا ينجو من الذنوب والمعاصي والهفوات والزلات، وبالتالي تحقق قوله صلى الله عليه وسلم: «إن أحدًا منكم لن يدخله عمله الجنة» لأن كل ما هيأ لنا وأمرنا به من تلك الأمور الأربع هو في مصلحتنا، ولمنفعتنا في الدنيا والآخرة، فهو من نفحات رحمة الله تعالى على عباده، فللّه الحمد والمنة والثناء الحسن دومًا وأبدًا.
اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم.


([1])نلاحظ الصلاة التي هي عماد الدين وأفضل الأعمال وأحبها إلى الله تعالى، كيف أنه صلى الله عليه وسلم علمنا بأن نقول بعدها مباشرة أذكار ما بعد الصلاة، وأولها (استغفر الله استغفر الله استغفر الله)، وذلك استدراكًا لما قد حصل في الصلاة من سهو أو تفريط. وكذلك سائر الأعمال الصالحات تجبر بالاستغفار، لأن العبد واقع في التفريط، والتقصير لا محالة، ولا ينجو من ذلك أحد.

([2])كل معصية تعمدها المسلم فهي بقصد، وهناك معاص تقع من غير قصد بدافع الجهل أو التفريط في العبادة أو الخطأ أو الهزل غير المقصود وهكذا، مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم كما في دعائه: (.. اللهم اغفر لي خطئي وعمدي وجدي وهزلي وكل ذلك عندي..) متفق عليه.

ثانيًا: المهلكات:
وهي تسع:
1- الشرك.
2- البدع.
3- الفتن.
4- الكبائر.
5- الظلم.
6- آفات اللسان.
7- شرة النفس.
8- الجهل والضلال.
9- الإصرار على الصغائر.
المهلكات:


المهلكات أخي المسلم هي كل عمل يغضب الله تعالى على العبد، وبالتالي يهلك صاحبه إن دوام عليه ولم يتدارك نفسه قبل الموت بالتوبة والإنابة لله تعالى، وهي كثيرة غير أن أصولها التي تجمعها تعد تسعًا، تندرج تحتها سائر الذنوب والمعاصي.


1- الشرك:


لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ [النساء] وقوله سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء:] وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ [المائدة] فكل من مات وهو مشرك بالله عز وجل أو كافر به، فقد حرم الله تعالى عليه الجنة.


والشرك هو جعل مع الله تعالى شريكًا في عبادته، بأن تصرف أي من أنواع العبادة لذلك الشريك، ولذلك كان الشرك ظلمًا عظيمًا؛ لأن العبد يعبد من لا يستحق، ويترك عبادة من يستحق، وهو الله تعالى رب العالمين.


ويندرج تحت الشرك من مهالك: الشرك الأصغر، وهو العمل لغير وجه الله تعالى، أو الشرك الخفي وهو الرياء والسمعة، أو عبادة القبور والأضرحة، أو الاستغاثة بالأموات أو التعلق، بهم أو صرف أي من العبادات لغير الله تعالى كالذبح أو النذر أو الحلف أو الاستعانة أو الاستغاثة، أو الخوف أو الرغبة أو الرهبة أو الاستعاذة أو التعلق بأسباب غير مشروعة، أو التصديق بكلام الكهان والسحرة والمشعوذين أو إتيانهم.. وما إلى ذلك من شركيات قولية أو فعلية أو اعتقادية وهي أخطر..


2- البدع:


وهي كل أمر محدث في الدين ليس له أصل في الكتاب والسنة، والأصل في العبادات أنها توقيفية عما ورد عنه صلى الله عليه سلم بلا زيادة أو تغيير فيها، مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: «.. فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» مسلم.


ولقوله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا» ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ إلا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام، ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: كما قال العبد الصالح: ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ قال: فيقال لي: إنهم لم يزالوا مدبرين مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم [مسلم].



ففي الحديث الأول بين لنا صلى الله عليه سلم أن كل أمر محدث في الدين هو بدعة، وأن الأولى هو الاتباع وليس الابتداع، وبالتالي فكل محدث ضلالة، لأن من اتبع بدعة فهو ولا شك قد أمات محلها سنة كان الواجب عليه التمسك بها.



أما في الحديث الثاني فقد بين لنا صلى الله عليه سلم خطر البدع ومصير أهلها وكيف أن أناسًا من أمة محمد صلى الله عليه سلم يمنعون عن الحوض لما أحدثوا من بدع في الدين نعوذ بالله تعالى من ذلك، ولذا قال السلف (اقتصاد في سُنَّة، خير من اجتهاد في بدعة).


ويندرج تحت البدع من مهالك عموم البدع، القولية والبدع الفعلية والبدع الاعتقادية كعدم الاقتصار عما ورد عنه صلى الله عليه سلم أو الزيادة أو التغيير فيه، أو الاجتهاد في أمور منكرة أو غير واردة عنه صلى الله عليه سلم مع ترك الأولى كاستحسان الرأي أو الإعجاب به، أو اتباع الهوى أو ترك السنة المأثورة عنه صلى الله عليه سلم أو اعتقاد أن هدي أحدٍ من الناس هو خير من هدي محمد صلى الله عليه سلم، وما إلى ذلك من أمور محدثة وغير واردة..


3- الفتن:


لقوله صلى الله عليه وسلم: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مرباد كالكوز مجخيًا([1]) لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه» [أحمد والحاكم]
ولقوله صلى الله عليه وسلم: «يأتي على الناس زمان خيُر مال الرجل المسلم الغنُم يتبع بها شعف([2]) الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن» [البخاري]



ففي الحديث الأول، يبين لنا صلى الله عليه سلم خطر الفتن، وكيف أنها إن استحوذت على القلب غمرته وأهلكته، والعياذ بالله تعالى.



وفي الحديث الثاني يبين لنا صلى الله عليه سلم أنه سيأتي زمان يفر المؤمن بدينه هربًا من الفتن ونجاة منها.
والقلوب أخي إذا أشربت الفتن ضلت وتاهت وتخبّطت في دروب الضلال والضياع والعياذ بالله تعالى، حتى تصل لدرجة لا تستطيع عندها أن تفرق بين الحق والباطل، وهذا أمر خطير جدًا نعوذ بالله تعالى منه.



ويندرج تحت الفتن من مهالك عدم تحكيم شرع الله تعالى، أو الخروج عن طاعة ولي الأمر، أو تكفير أو تفسيق الناس ولا سيما العلماء والولاة، أو القدح في نزاهة أهل العلم والحكام، أو إثارة الفتن والضلالات، أو نشر الفوضى في صفوف الناس أو القتل أو الترويع لعموم العباد، أو تخريب الممتلكات، أو السعي في إظهار المنكر ونشره وترويجه، أو النهي عن المعروف وإقصائه، أو التشكيك في منهج الدين والتقول فيه، وما إلى ذلك من سائر الفتن والمضلات...


4- الكبائر:


لقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ﴾ [النجم] وقوله عز وجل: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾ [النساء] ولقوله صلى الله عليه وسلم : في عدة أمور كالصلاة والجمعة وغيرها أنها كفارات: «الجمعة إلى الجمعة كفارة ما بينهما ما لم تغش الكبائر» [مسلم]
والمعنى أن الله تعالى من رحمته جعل تلك الأعمال الصالحات كفارات للصغائر من الذنوب على الدوام، ولكنه عز وجل ترك الكبائر حتى يتوب صاحبها وينوب إليه سبحانه، ولا تكفرها إلا التوبة النصوح له تعالى.
والكبائر هي كل أمر مستبشع أو كل معصية وذنب توعد الله تعالى عليه بالنار في الآخرة، أو رتب عليها حدًا في الدنيا، وذلك يكون في حقوق الآدميين، وهي ذنوب عظام تهلك صاحبها ولا ريب، وكل من اجتنبها ينجو بأمر الله تعالى كما دلت عليه الآيتان الكريمتان.



والكبائر ذنوب عظام تجمع بين تجاوز حدود الشرع، وبين البشاعة وكونها منكرة، رذيلة لذا توعد الله تعالى عليها بالعذاب لمن مات على شيء منها وهو لم يتب، وما كان منها في حقوق الآدميين فقد رتَّب الله تعالى على فاعلها حدًا في الدنيا، وهي كثيرة ومعروفة، وللذهبي كتاب عظيم النفع اسمه الكبائر أوضح فيه عددها وخطرها.


5- الظلم:


لقوله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة» متفق عليه، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الفحش فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش، وإياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالفجور ففجروا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا» [أبو داود والنسائي وأحمد]



ولقوله صلى الله عليه سلم في الحديث العظيم النفع المعروف بحديث المفلس: «أتدرون من المفلس؟» قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال: «إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياه فطرحت عليه، ثم طرح في النار» [مسلم] ففي الحديث الأول بين لنا صلى الله عليه سلم عاقبة الظلم الوخيمة يوم القيامة.



وفي الحديث الآخر بين لنا صلى الله عليه سلم حقيقة المفلس الذين يعمل الكثير من الصالحات، ولكنه يضيع أجره في ظلم العباد والتعدي عليهم حتى تفنى حسناته، فيلقى في النار من كثرة مظالمه وتعديه، وهذا أمر خطير نعوذ بالله سبحانه وتعالى منه.


والظلم هو انتهاك المحرمات والتعدي على حدود الغير؛ لذا فهو ظلم للنفس قبل أن يكون ظلمًا للآخرين، ولذا كانت عاقبته وخيمة في الدنيا والآخرة.



ويندرج تحت الظلم من مهالك التعدي على الناس أو استباحة محارمهم أو أخذ أموالهم أو التشنيع بهم أو غصبهم حقوقهم، أو ظلم العمال كالأجراء والخدم، أو السرقة أو النصب أو النهب والغصب أو التحايل على الغير في تزييف الأمور كشهادة الزور أو قلب الحقائق، أو معونة أهل الباطل أو البطش بالضعفاء والتجبر عليهم، وما إلى ذلك من عموم المظالم..


6- آفات اللسان:


وهي عموم المعاصي القولية. للحديث العظيم حديث معاذ وهو قوله: كنت مع النبي صلى الله عليه سلم في سفر فأصبحت يومًا قريبًا منه ونحن نسير، فقلت يا نبي الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، قال: «لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت» ثم قال: «ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جُنة، والصدقة تطفئ الخطيئة، وصلاة الرجل في جوف الليل» ثم قرأ ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾ حتى بلغ ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه، فقلت: بلى يا رسول الله، فقال: «رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله» ثم قال «ألا أخبرك بملاك ذلك كله» فقلت بلى يا نبي الله فأخذ بلسانه ثم قال: «كف عليك هذا» فقلت: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به، فقال: «ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم» أو قال: «على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم» [الترمذي والنسائي وابن ماجة]



فانظر أخي كيف أنه صلى الله عليه سلم بعدما بين لنا عدة أمور مهمة جدًا تعد هي أساس هذا الدين - ذكر لنا بعدها أن جماع الأمر كله يمكن تحقيقه في صيانة اللسان الذي يستهين الناس به؛ لأن الفرد به يقع في عموم المعاصي والآثام القولية، هذا بالإضافة إلى أنه يجره إلى المعاصي والآثام الفعلية تباعًا، لذا كان خطره كبيرًا وشره مستطيرًا، ويندرج تحت آفات اللسان من مهالك: السب والشتم والكذب والغيبة والنميمة والبهتان وشهادة الزور والكلام، الكثير وقول الباطل ونقل الكلام والتخوض في أعراض الناس، والسعي في الإفساد بينهم، ونشر الباطل والضلالات وترويجها، والسكوت عن الحق، والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، وتسقط عورات الناس، ودعوة العباد إلى الباطل والمنكر والضلالات والبدع ونشر الأكاذيب والشائعات وإشاعة المنكرات وترويجها، وما إلى ذلك من سائر الآفات والمنكرات.




7- شرة النفس:
وهي عموم المعاصي التي تدل على سوء الطوية وخبث النفس وفجورها وانحرافها، مصداقًا لقوله سبحانه: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [الشمس] ولقوله صلى الله عليه وسلم: «الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والفاجر العاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله» [الترمذي]. ولقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تناجشوا، وكونوا عباد الله إخوانًا» متفق عليه، وفي رواية (.. وكونوا عباد الله إخوانًا , المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره التقوى ههنا)، ويشير إلى صدره ثلاث مرات: بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه).


ففي الحديث الأول بين لنا صلى الله عليه سلم أن العاقل من عمل الصالحات التي تنفعه بعد الموت أما العاجز فهو من فَرَّط وتقاعس، ثم طلب الرحمة والمغفرة في غير مظانها، فهو جمع بين أمرين (العمل الفاسد، والأمن من خوف الله تعالى)



أما الحديث الثاني فقد نهانا صلى الله عليه سلم عن كل تلك الأمور المنكرة المشينة، ثم أمرنا صلى الله عليه سلم بوجوب تحقيق مبدأ الأخوة فيما ببيننا وأوضح أيضًا أن كل المسلم حرام على أخيه: الدم والمال والعرض، فيجب صيانة ذلك.


وشرة النفس تطلب كل شهوة، وترغب في كل لذة، ولا تقف عند حد، بل كلما أدركت شيئًا تمنت ما بعدها، وهكذا نعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ويندرج تحت شرة النفس من مهالك حب المال وحب الشهرة والظهور، وحب المنصب والرئاسة، وحب المدح والإطراء، وطول الأمل ونسيان الموت، وحب الجاه والمكانة والفخر والكبر والحسد والغل والحقد والبخل والشح والجدل والمراء والأنانية، والتشوف على الآخرين والتطاول عليهم، وعدم قبول الحق، وما إلى ذلك من شرور وغوائل وبوائق.


8- الجهل والضلال:


لقوله صلى الله عليه وسلم: «فقيه أشد على الشيطان من ألف عابد» [الترمذي وابن ماجة] فالجهل بأمور الدين يحمل المسلم عادة على أن يعبد الله سبحانه وتعالى على غير بصيرة، وعلى غير علم وعلى غير هدى، يتبعه ويسير عليه، فربما وقع بذلك في مخالفات شرعية كوقوعه في شرك أو في بدعة أو في كبيرة من الكبائر أو في فتن، فيدخل في الضلالة وهو لا يعلم، لكونه جاهلًا، وإن كان من غير قصد سيئ منه.


لذا يجب على المسلم أن يتفقه في أمور دينه لزومًا وقد قال العلماء إن أمور الدين المهمة التي هي منه بالضرورة يجب على الجميع أن يتعلمها ككيفية الصلاة والوضوء والطهارة، وما إلى ذلك يجب على الجميع أن يعلمها، ويعرف كيفية أدائها بحسب منهج الشرع، أما ما لم يكن من الدين بالضرورة، فلا يلزم كل مسلم أن يتعلم ذلك. ثم اعلم أخي أن الجهل نوعان هما:


جهل بسيط: يعلم الإنسان أنه جاهل ويريد أن يتعلم.
جهل مركب: لا يعلم صاحبه أنه جاهل، بل يحسب أنه عالم بالشيء، وهذا هو الخطر الذي قد يوقع المسلم في عنت وحرج، إن لم يتفطن له ويستدرك نفسه.


فكم من مسلم ظلَّ يعبد الله تعالى سنين طويلة على خطأ أو على شرك أو على بدعة أو على مخالفة شرعية ويتقرب به إلى الله سبحانه وهو يظن أنه حق بسبب جهله نعوذ بالله تعالى من ذلك.
ويندرج تحت هذا الأمر من مهالك أداء المسلم العبادات بشكل خاطئ غير وارد عنه صلى الله عليه سلم أو وقوعه في أمور شركية أو في بدع وضلالات، أو في مخالفات شرعية، أو أن يعبد الله تعالى بغير ما شرع أو بعكس ما شرع سبحانه، وهذا من أخطر الجهل أو التعصب لرأي أو لمذهب، أو التشدد في الأمور أو الفهم الخاطئ للنصوص.


9- الإصرار والمداومة على الصغائر:


لقوله صلى الله عليه وسلم: «إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه» قال ابن مسعود الراوي، إن رسول الله صلى الله عليه سلم ضرب لهم مثلاً: كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود حتى جمعوا سوادًا، وأججوا نارًا، فأنضجوا ما قذفوا فيها [أبو داود وأحمد]



وكما في الأثر عنه صلى الله عليه وسلم: «لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار» والإصرار على الصغائر يهلك العبد؛ لأنه يستهين بها، ولا يظن أنها تبلغ به ما بلغت، كما قال صلى الله عليه سلم في الحديث السابق.



ويندرج تحت هذا الأمر من المهالك الاستهانة بعموم الذنوب والمعاصي واستصغارها، ومن ثم التجرؤ عليها، وتعود ارتكاب الذنب من غير زاجر، وفقدان تأنيب الضمير مع الوقت، والانخراط في الفسوق والعصيان، وكل ذلك وغيره يجره إلى كبائر الذنوب ولا ريب، فرويدًا رويدًا يقع العبد في الكبائر والمظالم والفتن والشركيات، وما إلى ذلك من ذنوب وآثام.


([1])والكوز مجخيًا أي مقلوبًا على فمه، وبالتالي لن يمسك شيئًا فيه.

([2])
وشعف الجبال رؤوس الجبال.
الخاتمـة

هذه هي أصول المنجيات التي يندرج تحتها كل فعل منج في شريعتنا السمحة، وهذه هي أصول المهلكات التي تندرج تحتها عموم المهلكات من أعمال سيئة رذيلة.


والأعمال السيئات أخي الكريم تصنف بحسب ما يغلب عليها حسب نوع المخالفة، وهي ولا شك تتداخل في بعضها البعض، فمثلاً القتل يعد من الكبائر ومن الظلم ومن الفتن، ولكن يغلب عليه أنه يصنف ضمن الكبائر.



وكذلك السحر هو من الكبائر ومن الشرك ومن الفتن ومن الظلم، ولكن يغلب عليه أن يصنف ضمن أعمال الشرك.



وكذلك شهادة الزور تعد من الكبائر ومن الفتن ومن آفات اللسان، ومن الظلم، ولكن يغلب عليها أنها تصنف ضمن آفات اللسان. وهكذا سائر المهلكات.


فالزم أخي طريق المنجيات، واجتنب طرق المهلكات تنجو بأمر الله تعالى وبرحمته التي كتب سبحانه وتعالى على نفسه مصداقًا لقوله عز وجل: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام ] ولقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب كتابًا فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي» وفي رواية «لما قضى الله على الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي» [متفق عليه].
ورحمة الله تعالى واسعة لا يحدها حد مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن لله عز وجل مائة رحمة، فمنها رحمة يتراحم بها الخلق، وبها تعطف الوحوش على أولادها، وأخَّر تسعة وتسعين إلى يوم القيامة» [مسلم]، ليرحم بها العباد في يوم عصيب يحتاجون فيه لتلك الرحمات.



اللهم لا تحرمنا رحمتك في الدنيا والآخرة، يا رحمن يا رحيم.


وكل ذلك يحقق لنا ما بدأنا به هذه المذكرة من أن رحمة الله سبحانه وتعالى هي السبب الوحيد والأوحد لدخول المسلم الجنة إن شاء الله تعالى.


ولكن لا سبيل لذلك إلا بالإيمان بالله عز وجل، ومن ثم بالعمل الصالح الذي به يبلغ العبد رحمة الله سبحانه وتعالى، أما الاتكال على الرحمة من غير عمل صالح فهو كطالب النجاة ولم يسلك سبيلها، أنى تتأتى له، فذلك ولا ريب من تلبيس الشيطان وخذلانه، والعياذ بالله تعالى، يمني الإنسان ويمنيه ويغويه ويوهمه، ويهون عليه ارتكاب المعاصي واقتراف الذنوب والآثام، وفي نفس الوقت يزهده في الطاعة والعمل الصالح والتقوى وفعل الخيرات، حتى يفجأه الأجل وهو على تفريطه ذلك وغوايته تلك، وقد ضيع كل فرص التوبة والنجاة، فيهلك حينها نعوذ بالله تعالى من ذلك المصير.


فاحذر أخي من ذلك، واعلم أن الله سبحانه وتعالى لو شاء لأدخل العباد كلهم الجنة برحمته من أول الأمر، لا مانع له سبحانه وتعالى من ذلك، ولكنه عز وجل جعلنا في هذه الدنيا ليرى أينا أخير عملاً فيتمايز أهل الخير والبر والطاعة من أهل الشر والفجور والمعصية، ولكل منهما نهاية ومصير يستحقه مصداقًا لقوله سبحانه ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك] إذًا علة الدنيا العمل، والدنيا هي مزرعة الآخرة، فمن زرع خيرًا وعملاً صالحًا حصد جنة ونعيمًا مقيمًا.


ومن زرع شرًا وتفريطًا وذنوبًا حصد نارًا تلظى.
فاختر لنفسك أخي أي السبيلين في الدنيا، لتعرف أي المصيرين ينتظرك في الآخرة عند الله سبحانه وتعالى.





بشرى منجية:

اعلم أخي أن من أهم المنجيات التي هي خارج نطاق العمل الصالح، والتي هيأها الله تعالى لعباده هي دعاء الملائكة المقربين من الله تعالى من حملة العرش لك يا مسلم وأنت لا تعلم فهل بعد هذا من رحمة واسعة.



اقرأ قول الله تعالى في محكم كتابه ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [غافر].
والحمد لله رب العالمين غافر الذنب وقابل التوب