النتائج 1 إلى 1 من 1
  1. #1
    الصورة الرمزية احمد سامى
    احمد سامى غير متواجد حالياً عضو نشيط
    تاريخ التسجيل
    Aug 2010
    المشاركات
    7,986

    افتراضي قذف المحصنات في الكتاب والسنة

    بسم الله الرحمن الرحيم
    قذف المحصنات في الكتاب والسنة

    قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ الآية 4، 5 سورة النور.


    يعتبر القذف جريمة من الجرائم الشنيعة التي حاربها الإسلام حربًا لا هوادة فيها، فإن اتهام البريئين والوقوع في أعراض الناس والخوض في (المحصنات الحرائر) العفيفات يجعل المجال فسيحًا لكل من شاء أن يقذف بريئة أو بريئًا بتلك التهمة النكراء، فتصبح أعراض الأمة مجروحة وسمعتها ملوثة وإذا كل فرد منها متهم أو مهدد بالاتهام، وإذا كل زوج شاك في زوجته وأهله وولده.


    وجريمة القذف والاتهام للمحصنات تولد أخطارًا جسيمة في المجتمع، فكم من فتاة عفيفة شريفة لاقت حتفها لكلمة قالها قائل، فصدقها فاجر، فوصل خبرها إلى الناس، ولاكتها الألسن، فأقدم أقرباؤها وذووها على قتلها لغسل العار، ثم ظهرت حصانتها وعفتها عن طريق الكشف الطبي، ولكن بعد أن حصل ما حصل وفات الأوان.


    وصيانة للأعراض من التهجم وحماية لأهلها من إهدار للكرامة قطع الإسلام ألسنة السوء، وسد الباب على الذين يلتمسون للبرءاء العيب، فمنع ضعاف النفوس أن يجرحوا مشاعر الناس، وشدد في عقوبة القذف، فجعلها قريبة من عقوبة الزنى ﴿ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾ مع إسقاط الشهادة والوصف بالفسق.


    العقوبة الأولى: (جسدية) تنال الجسد والبدن، والثانية: (أدبية) تتعلق بالناحية المعنوية بإهدار كرامته وإسقاط اعتباره، فكأنه ليس بإنسان لأنه لا يوثق بكلامه، ولا يقبل قوله عند الناس، والثالثة: (دينية) حيث إنه فاسق خارج عن طاعة الله، وكفى الله عقوبة لذوي النفوس المريضة والضمائر الميتة.


    وقد اعتبر الإسلام (قذف المحصنات) من الكبائر الموجبة لسخط الله وعذابه، وأوعد المرتكبين لهذا المنكر بالعذاب الشديد في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم، وجعل الولوغ في أعراض الناس ضربًا من (إشاعة الفاحشة) يستحق فاعله العذاب الشديد كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ([1]).


    وقد عدها صلوات الله عليه من الكبائر المهلكات، فقال عليه الصلاة والسلام: «اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات»([2]).

    سبب نزول الآية:
    يرى بعض المفسرين أن هذه الآية نزلت بسبب حادثة الإفك التي اتهمت فيها أم المؤمنين العفيفة البريئة الطاهرة الصديقة (عائشة بنت أبي بكر الصديق) رضي الله عنها زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتي نزلت براءتها من السماء، فكان ذلك درسًا بليغًا للأمة وعبرة للأجيال في جميع العصور والأزمان.


    قال ابن جرير الطبري رحمه الله: وذكر أن هذه الآية إنما نزلت في الذين رموا عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم بما رموها به من الإفك.
    الأحكام الشرعية:
    الحكم الأول: ما هي معاني الإحصان؟

    أ- العفة: قال تعالى: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ([3]) بمعنى العفيفات من المؤمنات والعفيفات من الكتابيات.


    ب- الحرية: قال تعالى: ﴿فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ([4])، أي عقوبة الأمة المملوكة نصف عقوبة الحرة.


    ج- التزوج: قال تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ...إلى قوله ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ([5])، أي المتزوجات من النساء.


    د- الإسلام: قال صلى الله عليه وسلم: «من أشرك بالله فليس بمحصن»([6]) فالإنسان يكون محصنًا بالعفاف وبالحرية وبالإسلام وبالتزوج، وأشهر معاني إطلاق لفظ الإحصان (العفة) وهو المراد بالآية الكريمة؛ فمن قذف شخصًا غير عفيف لا يحد باتفاق الفقهاء.
    الحكم الثاني: ما هي شروط القذف؟


    للقذف شروط لابد من توافرها حتى يكون جريمة تستحق عقوبة الجلد، وهذه الشروط عديدة: منها ما يجب توافره في القاذف، ومنها ما يجب توافره في المقذوف، ومنها ما يجب توافره في الشيء المقذوف به.


    شروط القاذف ثلاثة فهي:


    (1- العقل 2- البلوغ 3- الاختيار).


    الحكم الثالث: ما هي الشروط اللازم توافرها في المقذوف؟

    أولاً: الإسلام: فهو شرط لقوله صلى الله عليه وسلم: «من أشرك بالله فليس بمحصن» ومعنى الحديث على رأي جمهور العلماء: من أشرك بالله فلا حد على قاذفه لأن غير المسلم (المشرك) لا يتورع عن الزنى، فليس هناك ما يردعه عن ارتكاب الفاحشة، إذ إنه ليس بعد الكفر ذنب وكل جريمة تتصور في الكافر. قال ابن العربي: ولأن عرض الكافر لا حرمة له كالفاسق المعلن لا حرمة لعرضه، بل هو أولى لزيادة الكفر على الفاسق المعلن.


    ثانيًا: العقل: فلأن الحد إنما شرع للزجر عن الأذية بالضرر الواقع على المقذوف، ولا مضرة على من فقد عقله فلا يحد قاذفه.


    ثالثًا: البلوغ: إن الطفل الصغير لا يتصور منه الزنا كما لا يتصور النظر من الأعمى؛ فلا يحد قاذف الصغير أو الصغيرة عند الجمهور.


    وقال مالك رحمه الله: إذا رمى صبية يمكن وطؤها قبل البلوغ بالزنى كان قذفًا. وقال أحمد رحمه الله في الصبية بنت تسع: يحد قاذفها.


    قال ابن العربي: «والمسألة محتملة مشكلة، لكن مالك غلب عرض المقذوف وغيره، وراعى طهر القاذف، وحماية عرض المقذوف أولى؛ لأن القاذف كشف ستره بطرف لسانه فلزمه الحد، وصحح ابن المنذر الرأي الأول، فقال لا يحد من قذف ما لم يبلغ، لأن ذلك كذب، ويعزر على الأذى».


    رابعًا: الحرية: فالجمهور على اشتراطها، لأن مرتبة العبد تختلف عن مرتبة الحر فقذف العبد – وإن كان حرامًا – إلا أنه لا يحد القاذف وإنما يعزر لقوله صلى الله عليه وسلم: «من قذف مملوكه بالزنى أقيم عليه الحد يوم القيامة، إلا أن يكون كما قال»([7]) رواه البخاري ومسلم.


    ولأن العبد ناقص الدرجة فلا يعظم عليه التعيير بالزنى. قال العلماء: (وإنما كان ذلك بالآخرة لارتفاع الملك، واستواء الشريف والوضيع والحر والعبد ولم يكن لأحد فضل إلا بالتقوى ولما كان ذلك تكافأ الناس، وإنما لم يتكافؤوا في الدنيا لئلا تدخل الداخلة على المالكين، وتفسد العلاقة بين السادة والعبيد، فلا تصل لهم حرمة ولا فضل في منزلة، وتبطل فائدة التسخير، حكمة من الحكيم العليم لا إله إلا هو).



    وأما ابن حزم، فقد خالف جمهور الفقهاء، فرأى أن قذف العبد يوجب الحد، وأنه لا فرق بين الحر والعبد في هذه الناحية وقال: «وأما قولهم لا حرمة للعبد ولا للأمة فكلام سخيف والمؤمن له حرمة عظيمة، ورب عبد جلف خير من خليفة قرشي عند الله تعالى».


    خامسًا: العفة: فهي شرط عند جميع الفقهاء، لم يخالف في ذلك أحد، وإنما اعتبرناها للنص القرآني الكريم ﴿يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ فشرطت الآية أن يكون المقذوف محصنًا أي عفيفًا، ولكن ليس معنى عدم إقامة الحد في هذه الصور الخمس أن قاذف (المجنون أو الصبي أو الكافر أو العبد أو غير العفيف) لا يستحق عقوبة، بل إنه يستحق التعزير، ويبلغ به غايته؛ لأنه أشاع الفاحشة، وقد حذر الله تعالى منها بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ﴾... الآية.


    الحكم الرابع: ما هي ألفاظ القذف الموجبة للحد؟

    تنقسم ألفاظ القذف إلى ثلاثة أقسام: «صريح، وكناية، وتعريض».


    «الصريح»: فهو أن يصرح القاذف في كلامه بلفظ الزنى مثل قوله: (يا زاني أو يا زانية أو يا ابن الزنى)، أو ينفي نسبه عنه كقوله: لست ابن أبيك، فهذا النوع قد اتفق العلماء على أنه يجب فيه الحد.


    «الكناية»: فمثل أن يقول: (يا فاسقة، يا فاجرة، يا خبيثة) أو هي: لا ترد يد لامس، فهذه لا تكون قذفًا إلا أن يريده وتحتاج إلى توضيح وبيان.


    «التعريض»: فمثل أن يقول: (لست بزان، وليست هي بزانية). وقد اختلف العلماء في التعريض، هل هو من القذف الموجب للحد أم لا؟ فذهب مالك رحمه الله إلى أنه قذف، وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يكون قذفًا إلا إذا قال أردت به القذف.


    دليل مالك:
    استدل مالك بما روى عن عمرة بنت عبد الرحمن «أن رجلين استبا في زمن عمر بن الخطاب فقال أحدهما للآخر: والله ما أبي بزان ولا أمي بزانية، فاستشار عمر في ذلك فقال: قائل مدح أباه وأمه، قال آخرون: قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا نرى أن تجلده الحد فجلده ثمانين جلدة.


    قال القرطبي:والدليل لما قاله مالك هو أن موضوع الحد في القذف إنما هو لإزالة المعرة التي أوقعها القاذف بالمقذوف. فإذا حصلت المعرة بالتعريض وجب أن يكون قذفًا. وقد قال تعالى حكاية عن مريم ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا([8]) فمدحوا أباها ونفوا عن أمها البغاء، وعرضوا لمريم بذلك، ولذلك قال تعالى: ﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا([9]) وكفرهم معروف والبهتان العظيم هو التعريض لها، أي ما كان أبوك امرأ سوء، وما كانت أمك بغيًا، أي وأنت خلافهما، وقد أتيت بهذا الولد.


    دليل الشافعية:
    استدل الشافعي وأبو حنيفة بأن التعريض بالقذف محتمل للقذف ولغيره، والاحتمال شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات كما ورد في الحديث «ادرؤوا الحدود بالشبهات»([10]) رواه الترمذي والحاكم والبيهقي.


    وقالوا: إن الله تعالى قد فرق بين (التصريح) و (التعريض) في عدة المتوفى عنها زوجها فحرم التصريح بالخطبة، وأباح التعريض بقوله تعالى: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ([11]) فدل على أنهما ليسا في الحكم سواء، وروى عن الإمام أحمد رحمه الله روايتان إحداهما: أن التعريض ليس بقذف ولا حد فيه، والثانية: أنه قذف في حال الغضب دون حال الرضا.



    ومما يدل على ما ذهب إليه الشافعية والأحناف ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «إن امرأتي ولدت غلامًا أسود فقال: هل لك إبل؟ قال: نعم، قال: ما ألوانها؟ قال: حمر، قال: فهل فيها أورق؟ قال: نعم، قال: فكيف ذاك؟ قال: لعله نزعه عرق؟ قال: فلعل هذا نزعه عرق»([12]) فلم يعتبر هذا قذفًا مع أنه تعريض بزنى الزوجة.


    الحكم الخامس: ما هو حكم قاذف الجماعة؟

    اختلف الفقهاء في حكم من قذف جماعة على ثلاثة مذاهب:
    أ- المذهب الأول: مذهب القائلين بأنه يحد حدًا واحدًا وهم الجمهور (أبو حنيفة ومالك وأحمد).
    ب- المذهب الثاني:مذهب القائلين بأن عليه لكل واحد حدًا وهم (الشافعي والليث).
    ج- المذهب الثالث: مذهب الذين فرقوا بين أن يجمعهم في كلمة واحدة مثل أن يقول لهم: يا زناة، أو يقول لكل واحد: يا زاني، ففي الصورة الأولى: يحد حدًا، وفي الثانية: عليه لكل واحد منهم حد، وهو مذهب (ابن أبي ليلى والشعبي).


    دليل الجمهور:
    احتج أبو بكر الرازي على قول الجمهور بالكتاب والسنة والقياس.


    أما الكتاب: فقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ والمعنى أن كل من رمى المحصنات وجب عليه الجلد، وذلك يقتضي أن قاذف الجماعة من المحصنات لا يجلد أكثر من ثمانين، فمن أوجب على قاذف الجماعة من المحصنات أكثر من حد واحد فقد خالف السنة.


    أما السنة: فما روي عن ابن عباس أن (هلال بن أمية) قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم (بشريك بن سحماء) فقال النبي صلى الله عليه وسلم (البينة أو حد في ظهرك) فلم يوجب النبي على هلال إلا حدًا مع أنه قذف زوجته وقذف معها (شريك بن سحماء).


    أما القياس: فهو أن سائر ما يوجب الحد إذا تكرر منه مرارًا لم يجب إلا حدًا واحدًا كمن سرق مرارًا، أو شرب الخمر مرارًا، لم يحد إلا حدًا واحدًا، فكذا ههنا.


    أدلة الشافعية:
    وأجاب الشافعية عن الأول: بأن قوله ﴿وَالَّذِينَ صيغة جمع وقوله ﴿الْمُحْصَنَاتِ﴾ صيغة جمع، وإذا قوبل الجمع اقتضى القسمة على الآحاد فيصير المعنى: كل من رمى محصنًا واحدًا وجب عليه الحد. وأجابوا عن الثاني: بأنه قذفهما بلفظ واحد، وقد قال الشافعي – في القديم – لا يجب إلا حدًا واحدًا اعتبارًا باللفظ.


    وأجابوا عن القياس: بأنه قياس مع الفارق، فإن حد القذف حق الآدمي بخلاف حد الزنى والشرب، فإنه حق الله تعالى وحقوق الآدمي لا تتداخل.


    الترجيح: والصحيح الراجح هنا هو رأي الجمهور لقوة أدلتهم؛ لأنه لو قذف قبيلة، فأقمنا عليه لكل واحد حدًا هلك، والله أعلم.
    الحكم السادس: هل تشترط في الشهود العدالة؟

    لم تذكر الآية الكريمة في صفة الشهداء أكثر من أنهم أربعة رجال من أهل الشهادة، وللعلماء خلاف في أهل الشهادة من هم؟ فالشافعية يقولون: لا بد للشاهد أن يكون عدلاً. والحنفية يقولون: الفاسق من أهل الشهادة، وعلى هذا تظهر ثمرة الخلاف، فإذا شهد أربعة فساق على المقذوف بالزني، فهم قذفة عند الشافعية يحدون كما يحد القاذف الأول، والحنفية يقولون: لا حد على القاذف لأنه أتى بأربعة من أهل الشهادة، إلا أن الشرع لم يعتبر شهادتهم لقصور في (الفاسق)، فثبت بشهادتهم شبهة الزنى، فيسقط الحد عنهم وعن القاذف، فكما اعتبرنا التهمة في نفس الحد عن المشهود عليه، فكذلك وجب اعتبارها في نفس الحد عنه وعن الشهود.


    وجه قول الشافعي رحمه الله: أنهم غير موصوفين بالشرائط في قبول الشهادة، فخرجوا عن أن يكونوا شاهدين، وبقوا محض قاذفين فيحدون حد القذف.


    وقد رجح ابن تيمية رحمه الله رأي الأحناف، ودفع الحد عن الشهود لوجود الشبهة، والحدود تدرأ بالشبهات، كما وضحت ذلك السنة النبوية المطهرة.
    الحكم السابع: هل يشترط في الشهود أداؤهم للشهادة مجتمعين؟

    ظاهر الآية الكريمة أنه لا فرق بين أن يؤدي الشهود شهادتهم مجتمعين أو متفرقين، وهذا مذهب مالك والشافعي رحمهما الله أخذا بظاهر الآية.


    وقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا جاؤوا متفرقين فعليهم حد القذف ولا يسقط الحد عن القاذف.


    حجة مالك والشافعي: أن الآية لم تشترط إلا أن يكونوا أربعة، ولم تشترط أداؤهم للشهادة مجتمعين، فيكفي في الشهادة، كيفما اتفق مجتمعين، أو متفرقين، بل إن شهادتهم متفرقين أبعد عن التهمة، وعلى القاضي أن يفرقهم إذا ارتاب من أمرهم ليظهر له وجه الحق في أدائهم للشهادة، هل هم صادقون أم كاذبون؟


    حجة أبي حنيفة: أما حجة أبي حنيفة فهي أن الشاهد الواحد لما شهد بمفرده صار قاذفًا فيجب عليه الحد، وكذلك الثاني والثالث، ولا خلاص من هذا الإشكال إلا باشتراط الاجتماع.. واستدل بحادثة (المغيرة بن شعبة لما شهد عليه أربعة وخالف أحدهم في الشهادة جلدهم عمر).
    الحكم الثامن: هل عقوبة العبد مثل عقوبة الحر؟

    اتفق الفقهاء على أن العبد إذا قذف الحر المحصن وجب عليه الحد، ولكن هل حده مثل حد الحر، أو على النصف منه؟ لم يثبت حكم ذلك في السنة المطهرة ولهذا اختلف الفقهاء فيه، فالجمهور وهو مذهب الأئمة الأربعة على أن العبد إذا ثبت عليه القذف، فعقوبته (40) أربعون جلدة، لأنه حد يتنصف بالرق مثل حد الزنى، واستدلوا بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ وذهب الأوزاعي وابن حزم وهو مذهب الشيعة إلى أنه يجلد ثمانين جلدة، لأنه حد وجب صيانة لحق الآدميين، إذ أن الجناية وقعت على عرض المقذوف، والجناية لا تختلف بالرق والحرية.


    ومن أدلة الجمهور ما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: «أدركت أبا بكر وعمر وعثمان ومن بعدهم من الخلفاء، وكلهم يضربون المملوك أربعين جلدة» وعن علي كرم الله وجهه أنه قال: «يجلد العبد في القذف أربعين».,


    قال ابن المنذر: والذي عليه الأمصار القول الأول (أي رأي الجمهور) وبه أقول.


    ورد الجمهور بأن آية القذف خاصة بالأحرار، فالحر إذا قذف محصنًا حد ثمانين جلدة، وأما العبد فحده أربعون فقاسوا القذف على حد الزنى، والله تعالى أعلم.
    الحكم التاسع: هل الحد حق من حقوق الله أو من حقوق الآدميين؟

    ذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن الحد حق من حقوق الله، ويترتب على كونه حقًا من حقوق الله تعالى ما يلي:
    أ- أنه إذا بلغ الحاكم وجب عليه إقامة الحد، وإن لم يطلب المقذوف.
    ب- لا يسقط بعفو المقذوف عن القاذف، وتنفع القاذف التوبة فيما بينه وبين الله تعالى.
    ج- يتنصف فيه الحد بالرق مثل الزنى.
    وذهب الإمامان الشافعي ومالك إلى أنه حق من حقوق الآدميين ويترتب عليه ما يلي:
    1- أن الإمام لا يقيمه إلا بطلب المقذوف.
    ب- يسقط بعفو المقذوف عن القاذف.
    ج- إذا مات المقذوف قبل إقامة الحد فإنه يورث عنه، ويسقط بعفو الوارث.
    ويرى بعض الفقهاء أن (حد القذف) فيه شائبة من حق الله تعالى، وشائبة من حق العبد، ومما لا شك فيه أن في القذف تعديًا على حقوق الله تعالى، وانتهاكًا لحرمة المقذوف، فكان في شرع الحد صيانة لحق الله، ولحق العبد فيكون الحد مزيجًا منهما، ولعل هذا هو الأرجح، والله تعالى أعلم.


    الحكم العاشر: هل تقبل شهادة القاذف إذا تاب؟

    حكم القرآن على القاذف بثلاثة أحكام:
    1- أن يجلد ثمانين جلدة.
    2- أن لا تقبل له شهادة أبدًا.
    3- وصفه بالفسق والخروج عن طاعة الله تعالى.
    ثم عقب الباري جل وعلا بعد هذه الأحكام الثلاثة بما يدل على الاستثناء فقال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ([1])، وقد اختلف الفقهاء في هذا الاستثناء هل يعود إلى الجملة الأخيرة، فيرفع عنه وصف الفسق ويظل مردود الشهادة، أم إن شهادته تقبل كذلك بالتوبة؟ على مذهبين:


    أ- مذهب أبي حنيفة: إن الاستثناء راجع إلى الجملة الأخيرة ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ فيرفع عنه وصف الفسق إذا تاب ولكن لا تقبل شهادته، ولو أصبح أصلح الصالحين، وهذا المذهب مروي عن الحسن البصري والنخعي وسعيد بن جبير وغيرهم من فقهاء التابعين.


    ب- مذهب الجمهور: (مالك والشافعي وأحمد) أن الاستثناء راجع إلى الجملتين الأخيرتين ﴿وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ([2]) فإذا تاب قبلت شهادته، ورفع عنه وصف الفسق، وهذا المذهب مروي عن عطاء وطاوس ومجاهد والشعبي وعكرمة وغيرهم من علماء التابعين.


    وهذا الاختلاف بين الفقهاء مرده إلى قاعدة أصولية وهي: هل الاستثناء الوارد بعد الجمل المتعاطفة بالواو يرجع إلى الكل أو إلى الأخير؟ فالشافعية والمالكية يرجعونه إلى الجميع، والأحناف يرجعونه إلى الأخير فقط.


    أدلة الأحناف:
    استدل الأحناف على عدم قبول شهادة القاذف مطلقًا بما يلي:


    أولاً: إن الاستثناء لو رجع إلى جميع الجمل المتقدمة لوجب أن يسقط عنه الحد وهو الجلد ثمانين جلدة، وهذا باطل بالإجماع فتعين أن يرجع إلى الجملة الأخيرة فقط.


    ثانيًا: إن الله تعالى قد حكم بعدم قبول شهادته على التأييد ﴿وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا﴾ فلفظ (الأبد) يدل على الدوام والاستمرار، حتى ولو تاب وأناب وأصبح من الصالحين، وقبول شهادته يناقض هذه الأبدية التي حكم بها القرآن.


    ثالثًا: ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودًا في قذف»([3]) رواه أصحاب السنن، فإنه يدل على أن القاذف لا تقبل شهادته إذا حد في القذف.
    الجمهور:

    وأما الجمهور فقد استدلوا على قبول شهادته بما يلي:


    أولاً: قالوا إن التوبة تمحو الذنب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، فوجب أن يكون القاذف بعد التوبة مقبول الشهادة.


    ثانيًا: أن الكفر أعظم جرمًا من القذف، والكافر إذا تاب تقبل شهادته، فكيف لا تقبل شهادة المسلم إذا قذف ثم تاب؟ وقد قال الشافعي رحمه الله: عجبًا يقبل الله من القاذف توبته وتردون شهادته.


    ثالثًا: ما روى في حادثة (المغيرة بن شعبة) أن عمر بن الخطاب t ضرب الحد على الذين شهدوا على المغيرة وهم (أبو بكر، ونافع، ونفيع) حين قذفوه ثم قال لهم: من أكذب نفسه قبلت شهادته ومن لم يفعل لم أجز شهادته، فأكذب (نافع ونفيع) أنفسهما وكان عمر يقبل شهادتهما، وأما أبو بكرة فكان لا يقبل شهادته ولم ينكر عليه أحد من الصحابة.


    رابعًا: وقالوا إن الاستثناء في الآية الكريمة كان ينبغي أن يرجع إلى الكل، ولكن ما كان (الجلد ثمانين) من أجل حق المقذوف، وكان هذا الحق من حقوق العباد لم يسقط بالتوبة، فبقى رد الشهادة والحكم بالفسق وهما من حق الله فيسقطان بالتوبة.

    آخر تعديل بواسطة احمد سامى ، 26-04-2015 الساعة 07:10 AM


1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17