إلى من يرغب بفكر ينفع


ذكروا أن ملكا من حِميَر خرج متصيدا ومعه نديم له ، فاشرف على صخرة ملساء ووقف عليها فقال له النديم : لو أن إنسانا ذبح على هذه الصخرة إلى أين يبلغ دمه ؟ فقال الملك : اذبحوه عليها لُيرى : إلى أين كان يبلغ دمه ؟ فقال نديم الملك : رب كلمة قالت لصاحبها دعني ..

إن ما نقصده ونبتغيه في موضوعنا هذا يتجاوز عكس ما فعله ذلك النديم إلى أوسع وأعمق من مقولته الشهيرة التي أضحت مثلا توارثته الأجيال ... قد يمر بنا شخص أو عالم أو مثقف بمستوى علمي رفيع نعجب من عرضه لمادته العلمية ولمحاضرته وتسلسل أفكاره وتميز طرحه وعمقه ودقته .. وطالما أنه مصدر الكلمة وموجه الفكر يكون ملكا في عرضه رائعا في حديثه .. وسرعان ما يتلاشى ما كونته عنه عندما يعترضه عارض أو يوقفه سؤال من سائل أو عندما يحاوره محاور ..حينها تجد الاضطراب والتشتت وغياب التركيز أحيانا .. أو التعصب لما نادى به والمبالغة بأهمية أفكاره والتمسك بها ، والتنقيص من الآراء والأفكار الأخرى .. ووضع حاجز يحول دون الاستفادة منها أو إعطائها حق المناقشة والتفاعل الذي يسمح بالاستفادة منها واستثمارها إيجابيا في الموقف ...

أخي وأختي لن تتطور آليات تفكيرنا وبالتالي ذواتنا بعد توفيق الله سبحانه وتعالى إلا بتنمية وتعزيز مرونتنا الفكرية في التعامل مع الأفكار والمواقف والأحداث .. رائع أن نستعد ونعد العدة كاملة قبل أن نقوم بتولي زمام الحديث أو أداء محاضرة أو درس علمي أو تنفيذ دورة تدريبية في أي مجال ، نستحضر العناصر الأساسية والأفكار التي نريد نقلها وتعزيزها والقيم التي نريد غرسها أو تعزيزها في نفوس من سنتعامل معهم بأسلوب يتناسب مع خصائصهم ومواصفات شخصياتهم ..
والأروع من ذلك أن تكون لدينا الأدوات الفاعلة التي تزودنا بمدى عمقي جيد لإثبات مصداقية ونفعية وعلو تلك الأفكار بدواخلنا ..نحن أولا .. لنستطيع الدفاع عنها أمام الآخرين بقوة وثبات وتمكن ... سمتنا توازن فكري .. لسنا بالإمعة الذي تغيره توجهات الآخرين .. وبمجرد هبوب رياح أفكارهم تقتلع ما لديه من محصول فكري مهما كان نوعه وإيجابيته ... ولا صلدا جامدا كالصخر لا ينتفع بما يقدم من جميل القول والفكر ..

ولكن الأسمى من ذلك أن نوجد مساحة فكرية للحوار والمناقشة وتبادل الآراء .. نستثمرها في تعزيز تلك الأفكار وتنميتها أو تحسينها وتعديلها بما يسهم في تطويرها والذي يعود علينا وعلى الآخرين بإذن الله بالخير العظيم .. فالهدف ليس توصيل الأفكار التي لدينا كما هي باتجاه واحد فقط وجعل التركيز الكامل على كيفية إقناع الآخرين بها .. بقدر ما يكون الحرص على أن تكون بوابة تكسبنا وتكسب الآخرين سبل أفضل للتنمية والتطوير والعيش الرغد ..

ومما يساعد على ذلك فتح مجالات وآفاق للفكر وعدم تحجيره في زوايا ضيقة .. وتعزيز قدرات التخيل التوقعي لردود أفعال الآخرين وكيفية تفاعلهم مع ما نطرح ومعرفة رسائلهم اللفظية والجسدية والفكرية والتعامل معها بما يسهم في تحقيق ما نصبو إليه.. وتجنب الافتراضات والأحكام القطعية المسبقة .. وتعزيز الملاحظة والمقارنة والنقد البناء المعلي للإيجابيات المعزز لها والحريص على كشف السلبيات بهدف معالجتها والحد منها دون التعرض لشخص صاحبها..

أخي وأختي ..إن ما نسعى إليه في حروفنا السابقة ببساطة هو تنمية المرونة الفكرية لدي ولديك .. وحتى يكتمل الموضوع والفائدة من وجهة نظر كاتب هذه السطور لا بد أن نشير إلى أن المرونة الفكرية لا تعني تضييق المساحة الحوارية والنقاشية وتوجيه انسياب الأفكار باتجاه واحد من الداخل إلى الخارج فقط .. كما أنها لا تعني من جهة أخرى أن نفتح الآفاق والمساحات الفكرية الواسعة لتناول الموضوعات بلا قيد أو شرط ... بل يجب أن نعي ونتيقن أن هناك مناطق مرغوبة ومناطق جائز التعامل فيها ومد آفاق التواصل والنقاش في أرجائها.... وهناك حدود يجب ألا نقترب منها أو نتجاوزها في عالم الفكر والمنطق قد حددتها ووضحتها الشريعة الإسلامية الغراء ولنتذكر أن قدرات الإنسان مهما وصلت من سمو وعلو في عالم التعامل المعلوماتي والمهاري في كافة المجالات تبقى قدرات محدودة لها سقف تصل إليه لا تتجاوزه ولا يحق لها أن تتساءل عما بعده بل أن قدرات العقل –وهي المسيرة للقدرات الأخرى المتحكمة بها - لا تطيق ذلك مهما كانت عظيمة ومتميزة فهي قدرات إنسانية لا أكثر ..