يكثر الكلام عن الزهد فما مفهومه وما علاقته بالحكمة ؟



والجواب :



أن المسلمين المخلصين ضربوا بحظ وافر فى هذا المضمار ، وعطرت الدنيا بما ورد عنهم من مواقف الزهد التى نتجت عنها الحكمة ، { وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (البقرة 269



ويشير أرباب السلوك إلى العلاقة الوثيقة بين الزهد والحكمة ، مستندين إلى ما ورد عن أبي خلاد الصحابى رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((إذا رأيتم الرجل قد أعطي زهدا في الدنيا وقلة منطق فاقتربوا منه فإنه يلقن الحكمة)) أخرجه ابن ماجه (ح 4101) بإسناد ضعيف .



ويكون معنى الحكمة هنا ما يلهمه الله تعالى للمؤمن من استقامة الفكر والقول والعمل .



وليس الزهد مقصورا على معنى واحد يعم جميع الناس ، فهناك من يراه زهدا عن الحرام ، لأن الحلال مباح من قبل الله تعالى ، فإذا أنعم الله سبحانه على عبده بمال من حلال وتعبده بالشكر عليه فتركه له باختياره لا يقدم على إمساكه بحقه .



ويرى بعضهم أن الزهد في الحرام واجب ، وفي الحلال فضيلة ، فإن إقلال المال والعبد صابر على حاله ، راضٍ بما قسم الله تعالى له ، قانع بما يعطيه أتم من توسعه وتبسطه فى الدنيا ، وأن الله تعالى قد زَهَّد الناس في أمور الدنيا ، بقوله تعالى { قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء :77] ، وغير ذلك من الآيات الواردة في ذم الدنيا والتزهيد فيها .



وقد فسر الزهد أيضًا بأن الإنسان إذا أنفق ماله في الطاعة ، وعلم من حاله الصبر ، وترك التعرض لما نهاه الشرع عنه في حال العسر ، فحينئذ يكون زهده في المال الحلال أتم .



وذهب بعضهم إلى أن الزهد ألا يختار العبد ترك الحلال بتكلفه ، ولا طلب الفضول مما لا يحتاج إليه ، فإن رزقه الله سبحانه وتعالى مالا من حلال شكره ، وإن وقفه الله تعالى على حد الكفاية صبر ، ولم يتكلم في طلب ما هو فضول المال ، فالصبر أحسن بصاحب الفقر ، والشكر أليف بصاحب المال الحلال .



ونرى أن الاختلاف في معنى الزهد يرجع لاتساع معنى الزهد واختلاف ظواهره، من ثم تعددت الآراء في معناه ، فكل نطق عن وقته وأشار إلى حده ، لكن الجمع بين هذه المعاني لا تناقض فيه ، بل فيه الخير الكثير للإنسان .



فهذا هو الإمام الكبير سفيان الثوري يرى أن الزهد في الدنيا معناه قصر الأمل ، وليس بأكل الغليظ ولا بلبس العباء .
ويرى آخرون أن الزهد الحق هو الذي نصت عليه الآية الكريمة { لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد :23] . فالزاهد لا يفرح بموجود من الدنيا ، ولا يتأسف على مفقود منها .



ويعطينا الإمام عبد الله بن المبارك مفهومًا آخر للزهد يزيد المعنى ضياء ، حيث يرى أن الزهد هو الثقة بالله تعالى مع حب الفقر ، فإنه لا يقوى العبد على الزهد إلا بالثقة بالله تعالى .



ومن معالم الزهد الإسلامي : وجود الراحة في الخروج عن الملك ، وسلو القلب عن الأسباب ، ولكس يسهل على المرء الإعراض عن الدنيا يجب عليه أن ينظر إليها بعين الزوال لكى تصغر فى عينه .



ومن هنا يذهب يحيى بن معاذ إلى أنه لا يبلغ أحد حقيقة الزهد حتى يكون فيه ثلاث خصال : "عمل بلا علاقة ، وقول بلا طمع ، وعز بلا رئاسة" . وسأله رجل : متى أدخل فى مضمار التوكل ، وألبس رداء الزهد ، وأقعد مع الزاهدين ؟ فقال له يحيى بن معاذ : "إذا صرت من رياضتك لنفسك فى السر إلى حد لو قطع الله عنك الرزق ثلاثة أيام لم تضعف نفسك ، فأما ما لم تبلغ هذه الدرجة فجلوسك على بساط الزاهدين جهل ، ثم لا آمن عليك أن تفتض" .



ويجب على المرء أن يبدأ بنفسه، وقد قال رجل لذي النون المصري : متى أزهد في الدنيا ؟ قال: إذا زهدت في نفسك .



والزهد مراتب أولها : ترك الحرام، والمرتبة الوسطى من الزهد : ترك الفضول من الحلال، والمرتبة العليا: ترك ما يشغل العبد عن الله تعالى .



فينبغي على المسلم ألا يقرب الحرام، وأن يحاول الفكاك من أسر المادة فيما هو حلال، وأن يدرب نفسه على ذلك .



وللزهد أثر بالغ فى سلوك المسلم وفي حياته، فالزهد مع الصبر هما من أسلحة المؤمن لمواجهة كل ما يمس كرامته، فيستطيع المسلم عن طريق زهده وصبره أن يصبر عن كل سبب يؤدي إلى المساس بكرامته .



وبتحلى المسلم بالزهد يمكن له أن يتصف بالعديد من الصفات التي حث عليه الشرع الشريف ، فبغير الزهد لا يستطيع المسلم أن يتحلى مثلا بصفة الإيثار ، فإن الإنسان متى تعلق قلبه بالشىء فمن أين له أن يؤثر به غيره .



إن العُباَّد والزُّهَّاد المسلمين – والذين عرفوا بعد ذلك باسم الصوفية – لم يتخلوا عن تعاليم الدين ما صغر منها وما كبر، بل إننا لنجد خير تطبيق لتعاليم الدين عند هؤلاء، بما فيه من تسام وترفع عن إذلال المادة ، التي يؤدي الانغماس فيها إلا ما نسميه الآن بأمراض العصر .