إن الأخذ بمعالي الأخلاق ومكارمها يستلزم ضرورةً التخلي عن مذمومها من حيث كونهما ضدان لا يجتمعان، ولذا كان لا بد للفرد المسلم أن يعرف الأخلاق الحميدة كما ينبغي له أن يتعرف أيضًا على الأخلاق المذمومة التي نهى عنها الشارع الحكيم، وبذلك تتوفر له قاعدة علمية شاملة تضم الأمرين جميعا: المأمور به والمنهي عنه في القرآن والسنة، وهنا يتحقق شرط الإلزام الخلقي الأساسي، ألا وهو المعرفة النافية للجهالة.

وبهذه المعرفة تتحدد المعايير الضرورية التي تضبط حركة السلوك الإنساني في هذه الحياة، بيد أن هذه المعرفة وحدها غير كافية، إذ ينبغي على المؤمن أن يربط القول بالعمل، والمعرفة بالسلوك، بحيث لا يكون القول مجرد كلام لا جدوى منه، وتكون المعرفة مجرد إطار نظري لا فائدة منها، ذلك أن اقتران القول بالعمل والمعرفة بالممارسة قاعدة إسلامية أقرها القرآن الكريم في قول اللّه سبحانه: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2، 3].
وقد كانت حياة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم تجسيدا عمليا لكل ما كان يدعو الناس إليه من مكارم الأخلاق وحميد الصفات فكان صلّى اللّه عليه وسلّم مثالا يحتذى في عدله ورحمته وبره، وكانت بعثته صلّى اللّه عليه وسلّم في جوهرها لإتمام هذا الجانب التطبيقي المتمثل في تتميم مكارم الأخلاق، قولا وفعلا، دعوة وممارسة، يقول عليه الصلاة والسلام: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» (صحيح الجامع: 2349).

تكليف الإنسان وابتلاؤه:
لقد كرم اللّه الإنسان، فخلقه بيديه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وفضله على كثير ممن خلق، وأعطاه نعمة العقل، وزوده بنور الفطرة، وجعل خلقته قابلة للتكليف، إن فعل الخير أثيب، وإن فعل الشر عوقب، وهذا هو مقتضى حمل الأمانة التي قبلها الإنسان وأبت السماوات والأرض أن يحملنها، يقول اللّه تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا} [الأحزاب:72].
لقد جعل اللّه للإنسان هذه الحياة الدنيا دارًا أولى يحيا فيها ويعمرها، ليستعين بذلك على عبادة ربه طاعة ومحبة وإخلاصًا، ثم ابتلاه بالتكاليف (بالأوامر والنواهي) ليمحصه رحمةً منه وفضلًا، يقول ابن القيم رحمه اللّه تعالى في (إغاثة اللهفان): "ابتلاء الخلق بالأوامر والنواهي، رحمة لهم وحمية، لا حاجة منه إليهم بما أمرهم به، ومن رحمته: أن نغص عليهم الدنيا وكدرها لئلا يسكنوا إليها ولا يطمئنوا بها ويرغبوا عن النعيم المقيم في داره وجواره، فساقهم إليها بسياط الابتلاء والامتحان، فمنعهم ليعطيهم، وابتلاهم ليعافيهم، وأماتهم ليحييهم" ا.هـ.
قد يظن بعض الناس أن ابتلاء الإنسان بالسراء هو إكرام له لا اختبار طاعة، ويرى الابتلاء بالضراء هو انتقام هوان أو إهانة، وقد نعى القرآن الكريم على هذا الصنف من الناس ذلك الاعتقاد الباطل ونفاه نفيا حاسما، يقول اللّه تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ} [الفجر:15، 16]. والحقيقة هي أن اللّه عز وجل يبتلي العباد تارة بالمضار ليشكروا وتارة بالمضار ليصبروا فتصير المنحة والمحنة جميعا ابتلاء، فالمنحة تقتضي الشكر والمحنة تقتضي الصبر، يقول اللّه تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35].

العلاقة بين الإنسان والحياة:
إذا كانت علاقة الإنسان بخالقه هي العبادة مصداقا لقوله تعالى: {وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وعلاقة الإنسان بالكون علاقة تسخير كما في قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ. وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ} [إبراهيم:32، 33]، فإن علاقة الإنسان بالحياة هي علاقة ابتلاء وتمحيص، مصداقا لقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:2]. أما موضوع هذا الابتلاء فهو حسن العمل الذي لخصه الرسول الكريم صلّى اللّه عليه وسلّم، في تفسيره للآية بأنه: الورع عن محارم اللّه والإسراع في طاعته. وتدخل فيه مكارم الأخلاق بأوسع معانيها.

بين الابتلاء وحسن الخلق:
إن هذا الابتلاء الذي يعني الاختبار والتمحيص هو المحك الأساسي الذي يجسد الصراع الأزلي بين قوى الخير والشر في النفس الإنسانية، فالنفس المطمئنة ألهمت التقوى والطاعة، والنفس الأمارة بالسوء ألهمت الشر والفجور، وبين الاثنين توجد النفس اللوامة التي تشكل صمام الوقاية وتقوم بعملية الموازنة والتصحيح، إذ تلوم على فعل المعاصي من ناحية، وعلى عدم الاستكثار من فعل الخيرات من ناحية ثانية.