حكم الانحراف عن القبلة الحمد لله
أولا :
استقبال القبلة شرط لصحة الصلاة ؛ لقوله تعالى : ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) البقرة/144 .
وفرض القريب من الكعبة أن يستقبل عينها ، وأما البعيد عنها ففرضه أن يستقبل جهتها ، عند جمهور العلماء .
قال ابن قدامة رحمه الله في "المغني" : " استقبال القبلة شرط لصحة الصلاة , ولا فرق بين الفريضة والنافلة . . .
والواجب على من بَعُد من مكة طلب جهة الكعبة , دون إصابة العين .
قال أحمد : ما بين المشرق والمغرب قبلة , فإن انحرف عن القبلة قليلا لم يُعِدْ , ولكن يتحرى الوسط . وبهذا قال أبو حنيفة . . . لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما بين المشرق والمغرب قبلة ) رواه الترمذي " انتهى باختصار .
وفي كلام الإمام أحمد رحمه الله المتقدم فائدتان :
الأولى : تتعلق بصلاتكم الماضية ، فهي صحيحة ولا يلزمكم إعادتها .
الثانية : تتعلق بصلاتكم في المستقبل ، فعليكم تعديل الصفوف ، ولا ينبغي لكم تعمد الانحراف عن القبلة .
وهذا هو قول جمهور العلماء ، أما الإمام الشافعي رحمه الله فقد ذهب إلى أنه يجب إصابة عين الكعبة حتى على البعيد ، وتبطل الصلاة عنده بمثل هذا الانحراف عن القبلة .
وانظر : "المجموع" (3/208) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " استقبال القبلة يكون إما إلى عين القبلة وهي الكعبة ، وإما إلى جهتها. فإن كان الإنسان قريبا من الكعبة يمكنه مشاهدتها ففرضه أن يستقبل عين الكعبة لأنها هي الأصل. وأما إذا كان بعيدا لا يمكنه مشاهدة الكعبة فإن الواجب عليه أن يستقبل الجهة ، وكلما بعد الإنسان عن مكة كانت الجهة في حقه أوسع ، لأن الدائرة كلما تباعدت اتسعت ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما بين المشرق والمغرب قبلة ) هذا بالنسبة لأهل المدينة ، وذكر أهل العلم رحمهم الله أن الانحراف اليسير في الجهة لا يضر.
والجهات معروف أنها أربع : الشمال والجنوب والشرق والغرب ، فإذا كان الإنسان عن الكعبة شرقا أو غربا كانت القبلة في حقه ما بين الشمال والجنوب ، وإذا كان عن الكعبة شمالا أو جنوبا صارت القبلة في حقه ما بين المشرق والمغرب لأن الواجب استقبال الجهة... " انتهى من "فقه العبادات" ص (154).
ثانياً :
لا حرج في وضع خيط ونحوه ليستقيم الصف على اتجاه القبلة ، وهذا أولى من الصلاة مع الانحراف .
ثالثاً :
الأفضل أن يصلي الإنسان في مسجد حيه أو المسجد القريب من بيته ، ولا يتخطاه إلى غيره من المساجد إلا لسبب شرعي ، والمرجو من القائمين على المسجد أن يقوموا بتعديل الصفوف وعدم الانحراف عن القبلة يميناً أو شمالاً ، احتياطاً للصلاة ، فإن بعض الأئمة كما سبق يبطل الصلاة بمثل هذا الانحراف .
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى ، وجمع كلمتهم على البر والتقوى .
والله أعلم .

الإسلام سؤال وجواب.

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فأعلم أن مذهب جمهور العلماء من الصحابة فمن بعدهم هو أن الواجب استقبال جهة الكعبة، وأنه لا يجب إصابة عينها، وهذا المذهب هو الراجح الموافق للأدلة، فالانحراف اليسير عن القبلة لا يضر بصحة الصلاة ما لم يخرج المصلي عن كونه مستقبلا للجهة، قالابن رشد في بداية المجتهد مرجحا هذا القول: واتفاق المسلمين على الصف الطويل خارج الكعبة، يدل على أن الفرض ليس هو العين، أعني إذا لم تكن الكعبة مبصرة، والذي أقوله: إنه لو كان واجبا قصد العين، لكان حرجا، وقد قال تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.
فإن إصابة العين شيء لا يدرك إلا بتقريب وتسامح بطريق الهندسة، واستعمال الأرصاد في ذلك، فكيف بغير ذلك من طرق الاجتهاد؟ ونحن لم نكلف الاجتهاد فيه بطريق الهندسة المبني على الإرصاد المستنبط منها طول البلاد وعرضها، وفي الروض مع حاشيته: وفرض من بعد عن الكعبة استقبال جهتها، فلا يضر التيامن ولا التياسر اليسيران عرفا، لحديث: ما بين المشرق والمغرب قبلة ـ وغيره وتقدم، ولأن الإجماع انعقد على صحة صلاة الاثنين المتباعدين يستقبلان قبلة واحدة والصف الطويل مستويا، ولأن التكليف بحسب الوسع، قال في الإنصاف والمبدع وغيرهما: البعد هنا هو بحيث لا يقدر على المعاينة، ولا عن من يخبره بعلم، وقال غير واحد من الأصحاب: ليس المراد بالبعد مسافة القصر، ولا بالقرب دونها، والجهة الناحية كالوجة وأصلها وجهة، قال الواحدي: الوجهة اسم للمتوجه إليه، والوجهة مستقبل كل شيء. انتهى.
وقال في تحفة الأحوذي في شرح هذا الحديث: وقال الشوكاني: وقد اختلف في معنى هذا الحديث: فقال العراقي: ليس هذا عاما في سائر البلاد، وإنما هو بالنسبة إلى المدينة المشرفة وما وافق قبلتها، وهكذا قال البيهقي في الخلافيات، وهكذا قال أحمد بن خالويه الرهبي، قال: ولسائر البلدان من السعة في القبلة مثل ذلك بين الجنوب والشمال ونحو ذلك، قال بن عبد البر: وهذا صحيح لا مدفع له ولا خلاف بين أهل العلم فيه.
وقال الأثرم: سألت أحمد بن حنبل عن معنى الحديث؟ فقال: هذا في كل البلدان إلا بمكة عند البيت، فإنه إن زال عنه شيئا ـ وإن قل ـ فقد ترك القبلة، ثم قال: هذا المشرق وأشار بيده، وهذا المغرب وأشار بيده، وما بينهما قبلة، قلت له: فصلاة من صلى بينهما جائزة؟ قال نعم، وينبغي أن يتحرى الوسط.
قال ابن عبد البر: تفسير قول أحمد: هذا في كل البلدان يريد أن البلدان كلها لأهلها في قبلتهم مثل ما كانت قبلتهم بالمدينة الجنوب التي يقع لهم فيها الكعبة فيستقبلون جهتها ويتسعون يمينا وشمالا فيها مابين المشرق والمغرب يجعلون المغرب عن أيمانهم والمشرق عن يسارهم، وكذلك لأهل اليمن من السعة في قبلتهم مثل ما لأهل المدينة ما بين المشرق والمغرب إذا توجهوا أيضا قبل القبلة، إلا أنهم يجعلون المشرق عن أيمانهم والمغرب عن يسارهم، وكذلك أهل العراق وخراسان لهم من السعة في استقبال القبلة ما بين الجنوب والشمال مثل ما كان لأهل المدينة فيما بين المشرق والمغرب، وكذلك ضد العراق على ضد ذلك أيضا، وإنما تضيق القبلة كل الضيق على أهل المسجد الحرام، وهي لأهل مكة أوسع قليلا، ثم هي لأهل الحرم أوسع قليلا، ثم هي لأهل الآفاق من السعة على حسب ما ذكرنا. انتهى.
ومما يدل لذلك أيضا قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ {البقرة:144}.
فإن شطر المسجد أي نحوه وجهته، قال القاسمي ـ رحمه الله: فول وجهك شطر المسجد الحرام ـ أي نحوه وجهته ـ والتعبير عن الكعبة بالمسجد الحرام إشارة إلى أن الواجب مراعاة الجهة دون العين. انتهى.
والخلاصة: أنه لا حرج في الصلاة في هذا المسجد مع وجود هذا الانحراف اليسير في القبلة، ولكن الذي ننصح به هو الاجتهاد في تعديل القبلة ما أمكن حرصا على تأليف القلوب وإن أدى ذلك إلى نقص المساحة المعدة للصلاة ما دامت المساحة المتبقية تكفي لجميع المصلين، فإن كان تعديل القبلة بخيط، أو نحوه لا يؤدي إلى حرمان بعض المصلين من الصلاة في المسجد فهو أولى، لما فيه من الجمع بين المصالح والخروج من خلاف العلماء وحصول وحدة الصف واجتماع الكلمة، وأما إن كان يؤدي إلى حرمان بعض المصلين من الصلاة في المسجد فالذي نرى أن الأمر يسير ـ إن شاء الله ـ وأدلة جواز استقبال الجهة وعدم وجوب إصابة العين كما رأيت في القوة والوضوح، ومن كان يرى عدم جواز الاقتصار على استقبال جهة القبلة فلا عليه أن لا يصلي في هذا المسجد ولكن لا ينبغي له أن ينكر على غيره في مسألة وقع فيها الخلاف بين العلماء وقول الجمهور فيها هو ما مر ذكره.
والله أعلم.