تمام الشريعة وكمال الإسلام:

أرسل الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - برسالة الإسلام الخاتمة، وكانت رسالته ليست خاصة بأمة دون أمة ولا بزمان دون آخر، بل كانت رسالة عامة للثقلين: الإنس والجن لمن أدركه - صلى الله عليه وسلم - ولمن جاء بعده حتى تقوم الساعة. قال - سبحانه -: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).
ولما كانت هذه الشريعة هي خاتمة رسالات الله للناس جعلها الله خير الشرائع وأرسل بها خير البشر وأزكاهم صلوات الله وسلامه عليه. فكانت شريعة كاملة مكمّلة صالحة لكل زمان ومكان.
قال عزوجل: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا).
روى الإمام أحمد عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: يا أمير المؤمنين إنكم تقرأون آية في كتابكم لو علينا - معشر اليهود - نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. قال: وأي آية؟ قال: قوله: ( اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)؛ فقال عمر: والله إنى لأعلم اليوم الذين نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والساعة التي نزلت فيها عشية عرفة فييوم الجمعة).
وروى ابن ماجة عن أبي الدرداء قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((وايم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك))
وقال أنس بن مالك: " ما مات رسول الله وطائر يطير بجناحيه في السماء إلا وأعطانا منه خبرا".
وجوب التزام الكتاب والسنة
ما ضلت الأمة إلا حين انحرفت عن هذا النهج القويم. ولقد أوصى النبي الكريم أمته بالتمسك بسنته إذ إن الاختلاف سيكثر والأهواء سوف تظهر. فعَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا بَعْدَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (( أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلَالَةٌ فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ))
وكان إنكار النبي - عليه السلام - على من حاد عن سنته شديدا ولو كانت نيته حسنة، فالنية الحسنة لا تشفع لصاحبها أن يبتدع في دين الله ما شاء فقد روى البخاري عن أنس أنّه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فلما أُخبروا، كأنّهم استقلّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟، قال أحدهم: أما أنا فإني أُصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إنّي لأ خشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم، وأفطر، وأُصلي، وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني )).
"والبدع مظهر نشاز في مجتمع المسلمين، وجرح غائر يستشري في أقطار كثيرة، ويظهر في صور متعددة؛ وما يزال غِلاّ كئيباً على عقول المسلمين بالتقليد والتعصب والجهل، وتشكل البدع ظلاماً على الأبصار، يحجب نور السنة وفرقان الاتباع، وكل بدعة في ديـن الله ـ قديمة كانت أو حديثة ـ لها ما يضادها في شرع الله، مما سطر العلماء فيه جهوداً مكتوبة ومواقف مشهودة. "
تحذير السلف من مخالفة السنة والابتداع في الدين
ولقد كان حرص السلف رحمة الله عليهم على لزوم السنة ومحاربة البدعة كبيرا فقد روى الدارمي في سننه عن عَمْرُو بْنُ يَحْيَى قَالَ سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا نَجْلِسُ عَلَى بَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَبْلَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ فَإِذَا خَرَجَ مَشَيْنَا مَعَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَجَاءَنَا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، فَقَالَ: أَخَرَجَ إِلَيْكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بَعْدُ؟ قُلْنَا: لَا، فَجَلَسَ مَعَنَا حَتَّى خَرَجَ، فَلَمَّا خَرَجَ قُمْنَا إِلَيْهِ جَمِيعًا، فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ آنِفًا أَمْرًا أَنْكَرْتُهُ وَلَمْ أَرَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ إِلَّا خَيْرًا، قَالَ: فَمَا هُوَ؟ فَقَالَ: إِنْ عِشْتَ فَسَتَرَاهُ، قَالَ: رَأَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ قَوْمًا حِلَقًا جُلُوسًا يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاةَ فِي كُلِّ حَلْقَةٍ رَجُلٌ وَفِي أَيْدِيهِمْ حَصًى فَيَقُولُ كَبِّرُوا مِائَةً فَيُكَبِّرُونَ مِائَةً فَيَقُولُ هَلِّلُوا مِائَةً فَيُهَلِّلُونَ مِائَةً وَيَقُولُ سَبِّحُوا مِائَةً فَيُسَبِّحُونَ مِائَةً، قَالَ: فَمَاذَا قُلْتَ لَهُمْ؟ قَالَ: مَا قُلْتُ لَهُمْ شَيْئًا انْتِظَارَ رَأْيِكَ وَانْتِظَارَ أَمْرِكَ، قَالَ: أَفَلَا أَمَرْتَهُمْ أَنْ يَعُدُّوا سَيِّئَاتِهِمْ وَضَمِنْتَ لَهُمْ أَنْ لَا يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ ثُمَّ مَضَى وَمَضَيْنَا مَعَهُ حَتَّى أَتَى حَلْقَةً مِنْ تِلْكَ الْحِلَقِ فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَ؟ قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَصًى نَعُدُّ بِهِ التَّكْبِيرَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّسْبِيحَ، قَالَ: فَعُدُّوا سَيِّئَاتِكُمْ فَأَنَا ضَامِنٌ أَنْ لَا يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِكُمْ شَيْءٌ وَيْحَكُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ مَا أَسْرَعَ هَلَكَتَكُمْ هَؤُلَاءِ صَحَابَةُ نَبِيِّكُمْ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُتَوَافِرُونَ وَهَذِهِ ثِيَابُهُ لَمْ تَبْلَ وَآنِيَتُهُ لَمْ تُكْسَرْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّكُمْ لَعَلَى مِلَّةٍ هِيَ أَهْدَى مِنْ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ أَوْ مُفْتَتِحُو بَابِ ضَلَالَةٍ، قَالُوا: وَاللَّهِ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا أَرَدْنَا إِلَّا الْخَيْرَ، قَالَ: وَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ لِلْخَيْرِ لَنْ يُصِيبَهُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَدَّثَنَا أَنَّ: (( قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ)) وَايْمُ اللَّهِ مَا أَدْرِي لَعَلَّ أَكْثَرَهُمْ مِنْكُمْ ثُمَّ تَوَلَّى عَنْهُمْ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ سَلَمَةَ: رَأَيْنَا عَامَّةَ أُولَئِكَ الْحِلَقِ يُطَاعِنُونَا يَوْمَ النَّهْرَوَانِ مَعَ الْخَوَارِجِ".
يقول الإمام مالك - رحمه الله -: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة؛ لأن الله يقول: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)، فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً".
وفي الجامع لأبي بكر الخلال أن رجلاً جاء إلى مالك بن أنس فقال: من أين أحرم؟ قال: من الميقات الذي وقت رسول الله- صلى الله عليه وسلم -وأحرم منه. فقال الـرجل: فـإن أحرمت مـن أبعد منه؟ فقال مالك: لا أرى ذلك. فقال الرجل: ما تكره مـن ذلك؟ قـال: أكـره عليـك الفتنة. قال: وأي فتنة من ازديـاد الخير؟ فقـال مـالك: فإن الله - تعالى -يقول: (فَلْيَحْذَرِ الَذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)؟ وأي فتنة أكبر من أنك خُصِصت بفضل لم يخص به رسول الله- صلى الله عليه وسلم -وفي رواية: وأي فتنة أعظم من أن ترى أن اختيارك لنفسك خيرٌ من اختيار الله واختيار رسوله؟!
وكتب عدي بن أرطأة إلى عمر بن عبد العزيز: " أوصيك بترك ما أحدث المحدثون، وعليك بلزوم السنة؛ فإن السنة إنما سنّها من قد عرف ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق"، ويقول ابن القيم: "واشتد نكير السلف والأئمة للبدع، وحذروا منها أشد التحذير؛ إذ مضرة البدع وهدمها للدين ومنافاتها له أشد من عامة الفواحش والظلم والعدوان ".
إنه لمن أعظم الخسارة والبوار أن يكدح المرء وينصَب في حياته الدنيا ولكن على غير هدى من الله وبصيرة فيكونَ عمله عليه وبالا وخسرانا مبينا (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا لَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا).
يا الله كم هي الخسارة العظيمة حين يبعثر العمل ويضيع الكدح والتعب (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا). (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً).
يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن الخوارج الذين لم يكونوا على جادة السنة مع عظم عبادتهم وصلاتهم: (( قوم يحقر أحدُكم صلاته مع صلاتهم وقراءته مع قراءتهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)).
فاللهم دلنا على الحق، وأعنا على اتباعه، وثبتنا عليه حتى نلقاك.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وسلم.