قال رجُل لعلي بن أبي طالب كرم الله وَجْهَه: يا أميرَ المؤمنين، صِفْ لنا الدّنيا.
قال: ما أصِف مِن دارٍ أولها عَناء، وآخرُها فَناء، حَلالُها حساب، وحَرامها عِقاب؟ مَن اْستغنى فيها فُتِن، ومن افتقر فيها حَزِن. قيل لأرسطاطاليس: صِف لنا الدنيا. فقال: ما أصِف من دار أولها فَوْت، وآخرها مَوْت. وقيل لحكيم: صف لنا الدنيا. قال: أمَل بين يديك، وأجَل مُطِل عليك، وشَيْطان فتّان، وأمانِيُّ جرّارة العِنَا؛ تدعوك فَتستجيب، وترجُوها فتَخيب. وقيل لعامر بن عبد القيس: صف لنا الدنيا. قال: الدنيا والدةٌ للموت، ناقضة للمُبْرَم، مُرْتجعة للعطية، وكلُّ مَن فيها يجري إلى ما لا يدري. وقيل لبَكر بن عبد الله المُزنيّ: صِف لنا الدنيا. فقال: ما مَضى منها فَحُلم، وما بَقي فأمانيّ، وقيل لعبد الله بن ثَعْلبة: صِف لنا الدنيا قال: أمسُكَ مَذْموم منك، ويومُك غير محمود لك، وغَدك غير مأمون عليك. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: الدنيا سِجْن المُؤمن وجنَّة الكافر. وقال: الدنيا عرَضٌ حاضرِ، يأْكُل منه البرّ والفاجر، والآخرة وَعْد صِدْق يحكم فيها ملك قادر، يفصل الحقّ من الباطل.

انها فانية فلماذا نجعل الدنيا أكبر همنا ومبلغ علمنا؟ هذه هي الدنيا الفانية التي لا يستقيم معها إلا العمل الصالح ولا ينفع معها إلا طريق الصلاح والفلاح إذا الدنيا دار ممر لا دار مقر، الكيس فيها من دان نفسه وعمل لما بعد الموت فعندما نأخذ أحكام ديننا كيفما تماشتْ مع أهوائنا ونتناساها متى تعارضت مع أهوائنا لنصبح على عكس ما أراد الله لنا، قال الشافعي (رحمه الله):
إذا شئت أن تحيـا سليماً من الأذى
وعرضك مصون وحظك طيب
لسانك لا تذكر بـهِ عورةَ امـرئ ٍ
فكلك عورات وللناسِ ألســنُ
وعينك إن أبدت لـَــك معايبـــاً
فصُنها وقل يا عينُ للناسِ أعينُ
وعاشر بمعروفٍ وسامح من إعتدى
وفارق ولكــن بالتي هيَ أحسنُ.

ذكر الإمام أحمد في كتاب الزهد :
أن أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - مر على مزبلة فاحتبس عندها ..

فكأنه شق على أصحابه و تأذوا بها ..
فقال لهم : هذه دنياكم التي تحرصون عليها !! ..

هكذا كان الفاروق يربي أتباعه ، و يذكرهم بحقيقة الدنيا التي يتهافت الناس عليها ، فما هي في نظره إلا مزبلة مملوءة بكل الألوان المختلفة ، ولا يوجد فيها شيء يصلح للإستعمال ، فكل ما فيها منتن و فاسد ، من خرق بالية و دواب و أطعمة متعفنة ، و معادن و أخشاب مكسورة و مطعجة و مخلفات للإنسان و الدواب ..

فما ينفع الحرص على الدنيا و هذا مثالها ..

مصداقاً لما ذكره الله تعالى في كتابه : { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً * و إنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزا }
شكا رجل إلى يُونس بن عُبيد وَجَعاَ يَجده؛ فقال له: يا عبد الله، هذه دار لا توافقك، فالتمس لك داراً تُوافقك. لقي رجلٌ راَهِباً، فقال: يا راهب، صِف لنا الدنيا؛ فقال: الدنيا تُخْلِق الأبدان، وتُجَدِّد الآمال، وِتباعد الأمْنِيّة، وتُقَرِّب المنيَّة، قال: فما حالُ أهلها؟ قال مَنْ ظَفِرَ بها تَعِب، ومن فاتْته نصِب؟ قال: فما الغِنى عنها؟ قال: قَطْعُ الرَّجاءِ منها، قالت: فأين المَخْرَج؟ قال: في سُلوك المَنْهَج؟ قال: وما ذاك؟ قال بَذْل المجهود، والرِّضا بالمَوْجود. قال الشاعر:
ما الناسُ إلا مع الدنيا وصاحبها ... فحيثما انقلبت يوماً به انقلبوا
يُعظِّمون أخا الدنيا وإن وَثَبت ... يوماً عليه بما لا يَشْتَهي وَثبوا
وقال آخر:
يا خاطبَ الدنيا إلى نفسه ... تَنَحَ عن خطبتهْا تَسْلَم
إنً التيَ تَخْطُبُ غَزَارَةٌ ... قريبةُ العُرْس من المَأْتَم
وقال بعضُ الشعراء يصف الدنيا:
لقد غرت الدنيا رجالاً فأصبحوا ... بمنزلةٍ ما بعدها متحوَّلُ
فساخِطُ أَمْر لا يًبَدَّلُ غيرَه ... ورَاضٍ بأمر غيرَه سيبدلُ
وبالغُ أمر كان يأمًل دونه ... ومخْتَرَم من دون ما كان يأمُل
وقال هارون الرشيد: لو قيل للدنيا صِفي لنا نفسك، وكانت ممّن يَنْطق، ما وَصفت نفسها بأكثر من قول أبي نُواس:
إذا امتحن الدنيا لبيبٌ تكَشَّفت ... له عن عدوٍّ في ثِياب صديقِ
وما الناسُ إلا هالكٌ وابن هالكٍ ... وذو نسَبٍ في الهالكين عَريق
وقال آخر في صفة الدنيا:
فَرُحْنا وراح الشَامِتون عَشِيَّةً ... كأَنَّ عَلَى أكتافنا فِلَق الصًخْرِ
لحا الله دُنيا يَدْخل النارَ أَهْلُها ... وتَهْتك ما بين الأقارب من سِتر
وفي المسند أن النبي صلى اله عليه وسلم قال للضحاك بن سفيان (ألست تؤتي بطعامك وقد ملح وقزح ثم تشرب عليه الماء واللبن ، قال بلى ، قال فالى من يصير ، قال الى ما قد علمت ، قال فأنه الله عز وجل ضرب مثل الدنيا لما يصير اليه طعام ابن آدم ) كان بعض السلف يقول لأصحابه : انطلقوا حتى اريكم الدنيا ، فيذهب بهم الى مزبلة فيقول :انظروا الى ثمارهم ودجاجهم وعسلهم وسمنهم .
المثال الثاني : للدنيا وأهلها ما مثلها به النبي صلى الله عليه وسلم كظل شجرة والمرء مسافر فيها الى الله فاستظل في ظل تلك الشجرة في يوم صائف ثم راح وتركها فتأمل حسن هذا المثال ومطابقته للواقع سواء . فأنهما في خضرتها كشجرة وفي سرعة انقضائها وقبضها شيئا فشيئا كالظل والعبد مسافر الى ربه والمسافر اذا رأى شجرة في يوم صائف لا يحسن به أن يبني تحتها دارا ولا يتخذها قرارا ، بل يستظل بها بقدر الحاجة ، ومتى زاد على ذلك انقطع عن الرفاق .
ولأبي العتاهية:
كُلَّنَا يُكثر الملامةَ للدن ... يا وكل بِحُبِّها مَفْتُون
والمقاديرُ لا تناوَلُها الأوْ ... هام لُطْفاَ ولا تراها العُيون
ولركب الفَناء في كلِّ يومٍ ... حَرَكات كَأنَّهنَّ سُكون