بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلي على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

أبناؤنا بين البر والعقوق

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وحبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله.. أدَّى الأمانةَ، وبَلَّغَ الرسالةَ، ونَصَحَ الأمةَ، وكشف الله به الغمة، جاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، اللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبيا عن أمته ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصلى اللهم وسلم، وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
فحيَّا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وذكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور.
طبتم جميعا وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلا.
حياكم الله جميعاً وأسأل الله - سبحانه وتعالى - بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجمعني وإياكم في الدنيا دائما وأبداً على طاعته وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ودار كرامته.
إنه ولى ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير..
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
أحبتي في الله: أبناؤنا بين البر والعقوق، هذا هو عنوان لقاءنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، وكما تعودنا حتى لا ينسحب بساط الوقت من بين أيدينا سريعاً فسوف أركز الحديث مع حضراتكم تحت هذا العنوان المهم في العناصر الآتية:
أولاً: حقاً إنها مأساة.
ثانياً: خطر العقوق.
ثالثاً: فضل البر.
رابعاً: حقوق تقابلها واجبات.
خامساً: إنها مسئولية المجتمع.
فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب.

أولاً: حقاً إنها مأساة
لا شك أن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى حب ورعاية الأولاد، بل وإلى التضحية للأولاد بكل غالي ونفيس، فكما تمتص النبتة الخضراء كل غذاء في الحبة فإذا هي فتات، وكما يمتص الفرخ كل غذاء في البيضة فإذا هي قشرة هشة، فكذلك يمتص الأولاد كل رحيق وعافية واهتمام ومع ذلك فهما سعيدان، فإذا بالوالدين في شيخوخة فانية،. ولكن من الأولاد من ينسى سريعاً هذا الحب والعطاء والحنان والرعاية، ويندفع في جحود وعصيان ونكران ليسيء إلى الوالدين بلا أدنى شفقة أو رحمة أو إحسان، وتتوارى كل كلمات اللغة على خجل واستحياء بل وبكاء وعويل حينما تكتمل فصول المأساة، ويبلغ العقوق الأسود ذروته حينما يقتل الولد أمه، وحينما يقتل الولد أباه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وإليك قصة غاية في البشاعة والإجرام والجحود.
لقد وقعت في إحدى قرى دكرنس جريمة مروعة شنعاء هي التي دفعتني إلى الحديث اليوم عن هذا الموضوع.
في أسرة فقيرة تتكون من عشرة أبناء، يقضى الوالد المسكين ليله ونهاره ليوفر لأبنائه العيشة الطيبة الكريمة ويلحقهم بأرقى الكليات بالجامعة، ومن بين هؤلاء الأبناء ولد عاق، بدلاً من أن يساعد أباه في نفقات هذه الأسرة الكبيرة راح يلهب ظهر والده بالمصروفات ليضيعها على المخدرات والفتيات، فقال له والده المسكين: أي بني أنا لا أقدر على نفقاتك ومصروفاتك، دعني لأواصل المسيرة مع إخوانك وأخواتك، وأنت قد وصلت إلى كلية العلوم فاعمل وشق طريقك في الحياة، ولكن الولد تمرد على التقاليد والقيم وعلى سلطان البيت والأسرة، بل وعلى سلطان الدين، راح هذا الولد العاق يفكر كيف يقتل أباه؟! إي والله حدث ما تسمعون! إنه طالب في كلية العلوم راح يستغل دراسته استغلالاً شيطانياً خبيثاً حيث أعد مادة كيمائية بطريقة علمية معينة، وأخذ كمية كبيرة، وعاد إلى البيت، وانتظر حتى نام أبوه المسكين، فسكب المادة الكيميائية على أبيه وهو نائم، فأذابت المادة لحم أبيه وبدت العظام، الله أكبر! لا إله إلا الله! لا إله إلا الله!.
والله إن الحلق ليجف، وإن القلب لينخلع، وإن العقل ليشط، وإن الكلمات لتتوارى في خجل وحياء، بل وبكاء وعويل، أمام هذه المأساة المروعة الشنعاء بكل المقاييس.
قد يرد الآن عليَّ أب كريم من آبائنا أو أخ عزيز يجلس معنا ويقول إنه الفقر، قاتل الله الفقر!.
والجواب: مع تقديري لكل آبائي وأحبائي، ما كان الفقر سبباً ليقتل الولد أباه، وإذا أردت الدليل فخذ الحادثة الثانية المروعة التي طالعتنا بها جريدة الأهرام منذ أسبوعين اثنين فقط.
أسرة ثرية وصل الوالدان فيها إلى مرتبة اجتماعية مرموقة، فالأم تحمل شهادة الدكتوراه في الهندسة جلست هذه الأم المثقفة لتناقش ابنها فلذة كبدها الذي أنهى دراسته الجامعية في أمر خطيبته التي أراد أن يتزوجها، فالأم تعارض هذا الزواج لاعتبارات وأسباب ترى أنها وجيهة من واقع خبرتها ومسؤليتها تجاه ولدها، فاحتج الولد على أمه وما كان من هذا المجرم العاق إلا أن أسرع بسكين، ثم انقض بالسكين على أمه بطعنات قاتلة حتى فارقت الحياة، ما هذا؟!
والله إن الحلق ليجف، وإن القلب لينخلع، من هول هذه الصورة البشعة من صور العقوق للآباء والأمهات الذي حذر الله - جل وعلا - منه في أدنى صوره، وأقل أشكاله وألوانه، فقال - جل وعلا -: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء: 23-24].
أيها المسلمون: أيها الأبناء: اعلموا علم اليقين أن العقوق كبيرةٌ تلي كبيرة الشرك بالله وهذا هو عنصرنا الثاني.

ثانيا: خطر العقوق.
العقوق من أكبر الكبائر ففي الصحيحين من حديث أبى بكرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: ((ألا أُنَبِّئُكم بأكبر الكبائر (ثلاثاً))) قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، ألا وشهادة الزور، أو قول الزور)) وكان متكئاً فجلس فمازال يكررها حتى قلنا: ليته سكت([1]).
وفى الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه)) فقال الصحابة: وهل يشتم الرجل والديه؟ فقال المصطفى: ((نعم يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه، فيسب أمه))([2]).
انظر إلى هذا السؤال الإنكاري من الصحابة -رضوان الله عليهم-، وهل يشتم الرجل والديه لا أن يقتل والديه؟ لا يتصور الصحابة في مجتمع الطهر مجرد أن يشتم الرجل والديه، فقال الحبيب المحبوب: أن يشتم رجل بأبيه فيرد هذا الرجل على الشاتم بأن يشتم أباه، وبهذا يكون الرجل سب أباه بطريق غير مباشر، وهذا الفعل من أكبر الكبائر -والعياذ بالله-.
أيها الأبناء: العقوق سبب من أسباب الحرمان من الجنة والطرد من رحمة الله التي وسعت كل شيء، ففي الحديث الذي رواه النسائي والبزار بسند جيد وحسنه الألباني، ورواه الحاكم في المستدرك، وصححه على شرط الشيخين البخاري ومسلم من حديث عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال:
((ثلاثة لا ينظر الله - عز وجل - إليهم يوم القيامة))
قيل: من هم يا رسول الله؟! قال:
((العاق لوالديه، والمرأة المترجلة([3])، والديوث([4])))([5]).
أيها الأبناء: أيها الآباء: تدبروا قول الرسول:
((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة))
خابوا وخسروا ورب الكعبة هؤلاء هم الذين طردوا من رحمة الرحمن، التي وسعت كل شيء، وأول المطرودين: العاق لوالديه.
أيها الأبناء: أخاطبكم بكل قلبي وكياني، يا من منَّ الله عليكم الآن بنعمة الآباء والأمهات، وأنتم لا تدركون قدر هذه النعمة، ولن تشعروا بها إلا إذا فقدتم الوالدين، أسأل الله أن يبارك في أعمار أبائنا وأمهاتنا، وأن يختم لنا ولهم بصالح الأعمال إنه على كل شيء قدير.
أيها الأبناء: العقوق لا ينفع معه أي عمل، سواء صلاة أو زكاة أو حجاً أو صياماً، ففي الحديث الذي رواه الإمام الطبراني وابن أبى عاصم في كتاب السنة بسند حسن، وحَسَّنَ الحديث الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة من حديث أبى أمامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال:
((ثلاثة لا يقبل الله منهم صرفاً([6])
ولا عدلاً: العاق لوالديه والمنان والمكذب بالقدر))([7]).
ولكي أختم هذا العنصر لأعرج على بقية عناصر الموضوع أقول: إن العقوق دين لا بد من قضائه في الدنيا قبل الآخرة، فكما تدين تدان، فإن بذلت البر لوالديك سَخَّرَ الله أبناءك لبرك، وإن عققت والديك سَلَّط الله أبناءك لعقوقك، ستجنى ثمرة العقوق في الدنيا قبل الآخرة، ففي الحديث الذي رواه الطبراني والبخاري في التاريخ وصححه الألباني من حديث أبي بكرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال:
((اثنان يعجلهما الله فى الدنيا: البغي وعقوق الوالدين))([8]).
تدبر معي والدي الكريم وأخي الحبيب: هذا ابن عاق يعيش معه والده فى بيته فكبر الوالد، و انحنى ظهره، وسال لعابه، واختلت أعصابه، فاشمأزت منه زوجة الابن، - وكم من الأبناء يرضون الزوجات على حساب طاعة الأمهات والآباء - فطرد الولد أباه من البيت، فَرَقَّ طفلٌ صغير من أبنائه لجده فقال له: لماذا تطرد جدنا من بيتنا يا أبى، فقال: حتى لا تتأففون منه، فبكى الطفل لجده وقال: حسناً يا أبتي، وسوف نصنع بك هذا غداً إن شاء الله!! العقوق دَين لابد من قضائه.
وهذا ابن آخر يصفع والده على وجهه، فيبكى الوالد ويرتفع بكاءه، فيتألم الناس لبكاء هذا الشيخ الكبير، وينقض مجموعة من الناس على هذا الابن العاق ليضربوه، فيشير إليهم الوالد ويقول لهم: دعوه. ثم بكى وقال: والله منذ عشرين سنة، وفى نفس هذا المكان صفعت أبى على وجهه!! العقوق دَين لابد من قضائه.
وهذا ابن ثالث عاق يجر أباه من رجليه ليطرده خارج بيته، وما إن وصل الولد بأبيه وهو يجره حتى الباب، وإذا بالوالد يبكى ويقول لولده: كفى يا بني، كفى يا بني إلى الباب فقط، فقال: لا بل إلى الشارع، قال: والله ما جررت أبى من رجليه إلا إلى الباب فقط!! كما تدين تدان.
أيها الأخ الحبيب اذهب اليوم إلى أبيك فقبل يديه وقدميه، وارجع اليوم إلى أمك فقبل يديها وقدميها فثم الجنة، ما أشقاها والله من حياة: حياة العقوق، وما أطيبها وأروحها وأسعدها وألذها من حياة، آلا وهى حياة البر وهذا عنصرنا الثالث.

ثالثا: فضل البر.
أيها الحبيب الكريم.. يكفى أن تعلم أن الله - جل وعلا - قد قرن بر الوالدين والإحسان إليهما بتوحيده قال - تعالى -: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء: 23].
وقال - تعالى -: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، وقال - تعالى -: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [البقرة: 83].
قال ابن عباس ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاثة، لا يقبل الله واحدة بدون قرينتها.
أما الأولى فهي قوله - تعالى -: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [محمد: 33].
فمن أطاع الله ولم يطع الرسول فلن يقبل منه.
وأما الثانية فهي قول الله: وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ[البقرة: 43].
فمن أقام الصلاة وضيع الزكاة لن يقبل منه.
أما الثالثة فهي قول الله - تعالى -: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان: 14]. فمن شكر الله ولم يشكر لوالديه لن يقبل منه.
حياة البر ما أروعها من حياة، إنها حياة السعادة والطمأنينة، إنها حياة الأمن والأمان، يالها من لذة! فيها ستشعر بانشراح الصدر، ستشعر بالسعادة فى كل الخطا، بل سيوسع الله عليك رزقك، بل سيبارك الله لك فى عمرك، فى حياة بر الوالدين.
البِرُّ سبب دخول الجنة:
تدبر معي كلام النبي - صلى الله عليه وسلم- كما فى الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبى هريرة، قال الحبيب:
((رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه))
قيل من يا رسول الله؟ قال المصطفى:
((من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كلاهما ثم لم يدخل الجنة))([9]).
الرسول يقول: رغم أنفه ثلاثاً: أى ذل وهان وتعرض للخيبة و الخذلان من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما، ثم لم يكونا سبباً فى دخوله الجنة.
إياك أن تضيع هذا الخير، يا من منَّ الله عليك به الآن.
بر الوالدين من أعظم القربات إلى رب الأرض والسماوات.
اسمع كلام سيد المرسلين، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم- فقلت يا رسول الله: أي العمل أحب إلى الله -تعالى-؟ قال: ((الصلاة على وقتها))
قال: ثم أي؟ قال: ((ثم بر الوالدين)) قال: ثم أي؟ قال: ((الجهاد فى سبيل الله))([10]).
وفى الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم- : أُجاهد؟ قال: ((لك أبوان؟)) قال: نعم. قال:
((ففيهما فجاهد))([11]).
وفى رواية مسلم أن رجلاً جاء للنبي - صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله جئت أبايعك على الهجرة والجهاد، فقال له المصطفى: ((هل من والديك أحدٌ حي؟)) قال: نعم، بل كلاهما. قال: ((فتبتغى الأجر من الله؟)) قال: نعم. قال: ((فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما))([12]).
بر الوالدين سبب تفريج الكربات:
ففي الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبى - صلى الله عليه وسلم- قال:
((بينما ثلاثة نفر يمشون أخذهم المطر، فمالوا إلى غارٍ فى الجبل، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل، فأطبقت عليهم فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها لله صالحة، فادعوا الله بها لعله يفرجها: فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولى صبية صغار كنت أرعى عليهم، فإذا رُحتُ عليهم فحلبت، بدأت بوالداي أسقيهما قبل ولدي، وإنه نأى بي الشجر فما أتيت حتى أمسيت، فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب فجئت بالحلاب فقمت عند رؤسهما، أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، والصبية يتضاغون عند قدمي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أنى فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء، ففرج الله لهم فرجة حتى يرون منها السماء... ))
([13])
إلى آخر الحديث.
انظر جيداً في معنى هذا الحديث لما تقرب الرجل إلى الله - عز وجل - ببر والديه استجاب الله دعاءه، فعليك ببر الوالدين بإخلاص تكن مستجاب الدعوة.
أيها الأحبة الكرام: معلوم أن بر الأم مقدم على بر الأب ففي الصحيحين من حديث أبى هريرة جاء رجل إلى رسول الله فقال: ((مَنْ أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: ((أمك)) قال: ثم من؟ قال: ((أمك)) قال: ثم من؟ قال: ((أمك)). قال: ثم من؟ قال: ((أبوك))([14]).
بل وتدبر معي هذا الحديث الرقيق الرقراق الذي رواه البيهقي ورواه ابن ماجة وحسنه شيخنا الألباني في السلسلة الصحيحة من حديث معاوية بن جاهمة، أن جاهمة عندما جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله أردت أن أغزو أي فى سبيل الله وقد جئت أستشيرك، فقال: ((هل لك أم؟)) قال: نعم. قال: ((فالزمها، فإن الجنة عند رجلها))([15]).
وقد يتحسر الآن آباؤنا وأحبابنا ممن حرموا من نعمة الوالدين لذا أسوق إليهم حديثاً ربما وجدوا فيه العزاء: وللأمانة العلمية التي عاهدنا الله عليها ففي سنده على بن عبيد الساعدي، لم يوثقه إلا ابن حبان وبقية رجال السند ثقات عن أبى أسيد مالك بن ربيعة الساعدى قال: بينا نحن جلوس عند رسول الله إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله هل بقى علىَّ من بر أبوي شيء أبرهما بعد موتهما؟ فقال:
((نعم الصلاة عليهما- أي الدعاء لهما والترحم عليهما، والاستغفار لهما- وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما))
([16]).
فيجب علينا أن ندعو لآبائنا ونستغفر لهما ونحج عنهما ونتضرع إلى الله بالدعاء لهما فنقول: ربى ارحمهما كما ربياني صغيرا.
فلقد كان السلف -رضوان الله عليهم- إذا ماتت أم أحدهم بكى وقال: ولم لا أبكي وقد أغلق اليوم علىَّ باب من أبواب الجنة.

رابعاً: حقوق تقابلها واجبات..
كما أن للوالدين حقوقاً على الأبناء فإن للأبناء حقوقاً على الآباء، كم من آباء، وكم من أمهات قد ضيعوا الأبناء؟! إن التربية منذ أول اللحظات مسئولية كاملة للوالدين بل وقبل أن يأتي الولد للحياة، فالوالد مسئول عن هذا الابن الذي لم يأتي بعد، كيف ذلك؟! أن يحسن اختيار أمه التي يجب أن تربيه بعد ذلك على الصلاح والفضائل.
أحبتي في الله: أسألكم بالله أن تتدبروا معي هذه الكلمات التي سأطرحها على حضراتكم، ماذا تقولون لو قلت لحضراتكم الآن: بأن أباً قد عاد اليوم إلى بيته فأخرج ورقة وكتب عليها استقالة لزوجته من تربية أبنائه؟!! حتماً سيتهم هذا الوالد بالجنون.
أقول وماذا تقولون لو أن أمّاً قد عادت اليوم من عملها إلى بيتها فسحبت ورقة وكتبت عليها استقالة لزوجها من تربية الأبناء؟! حتماً ستتهم هذه المرأة بالجنون، بل وقد يفكر هذا الوالد المسكين فى طلاقها.
فماذا تقولون لو قلت لحضراتكم بأن نظرة صادقة إلى الواقع الذي نحياه تقول بأن استقالة جماعية قد حدثت فى بيوت المسلمين؟ نعم لقد استقال كثير من الآباء تربوياً، واستقالت كثير من الأمهات تربوياً، الوالد المسكين يظن أن دوره يتمثل فى أن يكون وزيراً للمالية والنفقات، طوال النهار فى التجارات والسفريات والأعمال أو على المقاهي والمنتديات فإذا ما حَلَّ الليل رجع لينام أو ليسهر أمام التلفاز، ما فَكَّر مرة أن يخلوا بأولاده يطمئن على أحوالهم.
أنا لا أقول فَرِّغ كل وقتك لولدك لأنني أعلم ظروف الحياة وأعلم الحالة الاقتصادية الطاحنة التي ترهق ظهور الآباء.
لكن أقول: والله إن جلوس الأب بين أبنائه وهو صامت لا يتكلم فيه من عمق التربية ما فيه، فما بالكم إذا تكلم فَذَكَّر بجنةٍ، وحَذَّرَ من نارٍ، وحل مشكلة، ووجه نصيحة، وأشعر أولاده أنه يشعر بهم و بأحاسيسهم، وسأل عن صديق الولد، وسأل عن صاحبة البنت، بكل حنان ورحمة وأُبوَّة حانية.
والله يا أخوة لقد جاءني في الأسبوع الماضي شاب تزين اللحية وجهه وهو يكاد يبكى، قلت له: لماذا؟ قال: إن أبى يقسم علىَّ بالله إن ذهبت إلى المسجد فسوف يطردني من البيت! أيها الوالد أنت مسئول أن تربى ابنك من أول لحظة.
مشى الطاووس يوماً *** باختيالٍ فقلد مشيته بنوه
فقال: علام تختالون؟ *** قالوا لقد بدأت ونحن مقلدوه
يشب ناشئ الفتيان منا *** على ما كان عَوَّده أبوه
أيها الوالد الكريم: إذا ربيت ولدك على الفضائل، والأخلاق الكريمة والصلاح منذ نعومة أظفاره، شب حتماً على هذه الفضائل والأخلاق، نعم قد يقول لي والد: إنني أربى ولدي في البيت وسيخرج إلى الشارع ليعود وقد طُمِس بناؤه الجميل الذي اجتهدت في تزينه وتجميله، سأقول لك أبشر واطمئن فما دام الأصل سليماً وما دام الجوهر نقياً، فسرعان ما يزول هذا الغبش الذي تأثر به ظاهره، وسرعان ما يعود إلى أخلاقه وجوهره النقي، الذي اجتهدت في تأصله في بيتك على كتاب الله وسنة رسول الله.
أيها الوالد الكريم: ابنك أمانة، اجتهد لا تضيع ولدك فسوف تسأل عنه.
قال - تعالى -: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6].
وفى الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال:
((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل فى أهل بيته راع ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية فى بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع فى مال سيده ومسئول عن رعيته، وكلكم راع ومسئول عن رعيته))
([17]).
وتزداد المأساة يا مسلمون إذا انضم إلى استقالة الآباء استقالة الأمهات، فالأم هي الحضن التربوي الطاهر، الأم هي المدرسة الأولى للتربية، ماذا تقولون لو أغلقت المدرسة الأولى للتربية؟! ألا وهى مدرسة الأم.
ليس اليتيم من انتهى أبواه *** وخلفاه في هم الحياة ذليلاً
إن اليتيم هو الذي ترى له أماً *** تخلت أو أبا مشغولاً
ماذا تقولون لو علمتم كما ذكرت لحضراتكم أن من الآباء من يمنع ولده من الذهاب إلى المسجد أو يمنع ولده من الذهاب إلى مجالس العلم؟ نعم أسأل الله أن يجعلني من المنصفين، أنا لا أريد أن أقلل الآن بعد ما أصلّت ما لوالدين من حقوق من شأنهما عند أبنائنا وإخواننا، وإنما أود أن أقول لإخواني وأبنائي قد يأمرك الوالد بذلك من منطلق الخوف عليك، وهذا هو الواقع، فالولد قرة عين أبيه، وثمرة فؤاده، فإن أمر الوالد ولده بذلك فليعلم الوالد الكريم أن المعصية أكبر، وبأنه سيزداد خوفه بصورة أكبر إذا منع الولد من معرفة طريق المساجد، وإذا حال بين الولد وطريق السنة، وسوف يبكى الوالد دماً بدل الدموع إذا رأى ولده يحقن نفسه بحقنة مخدرات أو يتعاطى المخدرات أو يمشى مع فتاة فى الحرام ولا حول ولا قوة إلا بالله، لذا أذكر آبائي الكرام بأن يفتحوا الباب على مصراعيه لأبنائهم، وليسلكوا طريق سنة النبي.
أيها الأحباب الكرام: إن للوالدين حقوقاً على الأبناء، وإن للأبناء حقوقاً على الوالدين وهناك من الوالدين من يقع فى عقوق ولده قبل أن يقع ولده فى عقوقه.
جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين أشكو إليك عقوق ولدي، فقال: ائتنى به، فجاء الولد إلى عمر، فقال عمر: لم تعق أباك؟ فقال الولد: يا أمير المؤمنين ما هو حقي على والدي؟ فقال عمر: حقك عليه أن يحسن اختيار أمك، وأن يحسن اختيار اسمك وأن يعلمك القرآن. فقال الولد: والله ما فعل أبي شيء من ذلك، فالتفت عمر إلى الوالد وقال: انطلق لقد عققت ولدك قبل أن يعقك.
وأخيراً حتى لا أطيل عليكم إنها مسئولية الجميع، أرجىء الحديث عن هذا العنصر إلى ما بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأحبابه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الأحباب الكرام..
خامساً: إنها مسئولية الجميع.
نعم يجب أن نعلم أن المسئولية تقع على كواهلنا جميعاً، فعلى البيت مسئولية، وعلى مناهج التعليم مسئولية، وعلى المدرسة مسئولية، وعلى الإعلام مسئولية، وعلى الشارع مسئولية، فالمسئولية تقع على كواهل الجميع، تبدأ من البيت ومن الأسرة، ولكن قد يتألم الآن بعض الأحبة ويقول إذا كان الوالد من الصالحين فاجتهد فى تربية أبنائه تربية ترضى الرب - سبحانه - واجتهدت الأم كذلك، لكن خرج من بين هؤلاء الأبناء ابن عاق انحرف عن الطريق.
نقول: إن هذا لا يقدح فى أصل القاعدة فإنني أرى بيتاً من بيوت المسلمين يشرف على التربية فيه نبي كريم من أنبياء الله وهو نبي الله نوح - عليه السلام -، ومع ذلك لا يخرج الولد من هذا البيت عاقاً وإنما يخرج كافراً والعياذ بالله، وألمح بيتاً آخر يقوم على أمر التربية فيه فرعون مصر طاغوت الدنيا بأسرها، ويكون هو المشرف على تربية طفل، هذا الطفل هو نبي الله موسى - عليه السلام - كليم الله.
فابذل ما استطعت واجتهد، وضع النتائج بعد ذلك إلى الله الذي يعلم كل شيء، والذي يعلم الحكمة إنه عليم حكيم.
أيها الوالد الكريم، أيتها الأم الفاضلة: تبدأ المسئولية فى التربية للأبناء من البيت فهو المدرسة الأولى لكل نَشْء، وهو المكان التربوي الأكبر الذي يؤثر في شخصية وتكوين الأبناء، فاجتهدوا واتقوا الله فى التربية ولا تهنوا ولا تحزنوا، فمن زرع حصد، واعلموا يقيناً أن من زرع خيراً سيجد خيراً بإذن الله، ومن زرع شراً فسوف يجنيه بإذن الله.
أولادكم أمانة في أعناقكم، فهذه مسئولية، ويالها من مسئولية! عندها تتوارى كل المسئوليات، فالأبوة بمعناها الحقيقي هي العطاء بلا حدود، هي العطف، هي الحنان، هي الرحمة، هي الشفقة، هي البذل والتضحية بكل غالى وثمين، هي النصيحة هي الاهتمام، هي الشعور بمشاعر الأولاد ومعايشة أحزانهم وأفراحهم وحوائجهم، فالأبوة فى خصالها السامية لم ولن تعادلها مسئولية قط، ولم لا؟! وأنت تبنى جيلا الآن يصبح صرح أمة التوحيد الشامخ غداً، يصبح صاحب الكلمة غداً، يصبح رافع راية لا إله إلا الله غداً، ما أسماها من مسئولية! وما أرفعها من مكانة!.
فكن لابنك كما كان محمد لأولاده، يا له من أب جمع كل حسنات فى التربية، وكوني أيتها الأم كما كانت أمهات المؤمنين.
ولن يقع عاتق المسئولية جمعاء على البيت فقط، فالمدرسة لها دور فى صناعة جيل الأمة حامل الراية غداً، والإعلام له دور خطير فى توجيه النشء، فليتق الله كل مسئول فى الإعلام فى فلذات أكبادنا فإن الإعلام سلاح خطير ومهم فى تعليم أبنائنا الأخلاق العالية والمثل السامية إذا أحسن استغلاله. وسلاح مدمر للفرد والأسرة والمجتمع إذا أسيء استغلاله فإن الكثير من وسائل الإعلام المختلفة المسموعة والمرئية والمقروءة تعزف على وتر الجنس وعلى وتر أخلاق الغرب التي تصطدم بديننا الحنيف وتقاليدنا العريقة وبعض هذه الوسائل تعزف على وتر التحرر.
ولذا أصبح الولد ينظر إلى أبيه المحافظ صاحب الأخلاق والفضائل نظرة احتقار، نظرة ازدراء، نظرة سخرية.
هكذا أُشرب في قلبه أن كل من يتمسك بالأخلاق الفاضلة فهو رجل رجعى. فلا غرابة أن تجد ولداً يقول لأبيه: أنت رجل رجعى لا تعيش عصرك، أنت لا تعيش زمانك، إنكم مازلتم تعيشون فى مجاهل القرون الماضية.
العزف بصورة واضحة على نغمة التحرر، جعل الأبناء يتمردون على كل شيء، على سلطة الأسرة، على سلطة الوالدين، بل وتمرد الأولاد أخيراً على سلطة الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فعلى القائمين على الإعلام أن يتقوا الله، وأيضاً على المدارس ومناهج التعليم وكل المسئولين عن دفة التعليم مسئولية كبيرة، فهم يبنون عقول نشء، وانظر إلى من يبنى عقلاً، هذا العقل سوف يكون مستقبلاً قائداً للأمة أو أميراً أو طبيباً أو مهندساً أو معلماً أو …. فانظر كيف يُبنى هذا العقل؟! إن لم يُبنَ على أُسس وقواعد وأخلاق وغايات وقيم ومبادئ قرآنية محمدية، فكيف يكون هذا العقل مستقبلاً؟ والله إن لم نربى أولادنا على مناهج ربانية محمدية فسوف نجنى أسوأ الثمار، بل سوف نجنى أشواك تجرحنا قبل الآخرين، وتؤذينا قبل الآخرين، فاعلموا أيها المسئولون عن التعليم أن جزءً كبيراً جداً من دفة المسئولية موضوع فى أيديكم فاتقوا الله فيه.
فالمدرسة أب ثاني وأم ثانية لنشء هو قرة أعيننا وقرة أعينكم قبلنا، فإن ما نسمع الآن من تطاول الطالب على مدرسه ليدمع العين دماً، لذا يجب أن تعود المدرسة من جديد إلى دورها الريادي في التربية قبل أن تعلم أبناءنا العلم، وإن ما نسمع من أخلاق البنات فى مدارس البنات ليستحى اللسان أن يتلفظ به، فمن أجمل ما قال محمد إقبال - رحمه الله -: إن العلوم الحديثة تحسن أن تعلم أبناءنا المعاني والمعارف، ولكنها لا تحسن أن تعلم عيونهم الدموع، وقلوبهم الخشوع.
وعلى الشارع أيضاً دور، فلو خرج الأبناء إلى الشوارع بأخلاق البيوت الطيبة لتغير الحال، إذاً المسئولية مشتركة وعلى الجميع، فكل مسئول يجب عليه أن يؤدي ما عليه بأمانة واقتدار حتى نجني قرة عين لا شيطان، لا أريد أن أطيل عليكم أكثر من ذلك.
أسأل الله أن يقر أعيننا وإياكم بصلاح أبنائنا وستر بناتنا، إنه ولى ذلك والقادر عليه...