تكتظ ذاكرة هاتفي بآلاف الأرقام والأسماء التي تم تخزينها على مدى سنوات دون تمحيص ..

هممت البارحة بتخفيض عددها وحذف الأسماء التي لم يعد لوجودها مسوغ .. أحسست وكأنني أحاول شطب جزء من ذاكرتي أو أتخلى عن مرحلة من حياتي .. لكن لم لا أجرّب؟

هذا المستودع القديم يحوي عدداً من الأصدقاء الراحلين .. طووا هذه المرحلة إلى الضفة الأخرى وسيظلون أحياء في وجداننا نحبهم ونذكرهم ونترحم عليهم ونمتدح وفاءهم على أن أجهزتهم أصبحت ميراثاً لآخرين!

بإزائهم هذه قائمة صغيرة لـ (أصدقاء سابقين) ويا لمرارة هذه الكلمة .. منذ سنوات لم يعودوا يتجاوبون مع الرسالة أو الاتصال .. هل تراهم شغلوا ؟ أم غيروا هواتفهم ؟ أم نأت بهم مواقف اجتماعية أو سياسية أو اجتهادات جعلتهم يختارون بمحض إرادتهم أن يقيموا علاقة جديدة مع آخرين ويتخلوا عن علاقتهم السابقة ..

محوهم من قائمة الهاتف لا يعني محوهم من الذاكرة فلنحتفظ بذكراهم الجميلة، ولنشملهم بدعواتنا الصادقة كلما رفعنا أيدينا للسماء، وليكن لهم من جميل حديثنا عنهم ما يكافئ صداقة سابقة، و (الحر من راعى وداد لحظة، أو تمسك بمن أفاده لفظة) ، وإذا كنا نقول: (اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية) فنحن أيضاً نقول: (كلام الليل يمحوه النهار)!

مهما كنت موغلاً في الحماس لقضية ما .. حاول ألا تخسر أصدقاءك ، وتجنب الجدل الجاد الحاد معهم حفاظاً على الحب! إن كان يعنيك الحب!

لا تحاول مصادرة الآخرين ولا فرض الرأي عليهم تحت ستار النصيحة!

أسماء سجلت من أجل تجاهلها وعدم التشاغل بها .. مريض نفسي يراسلك آناء الليل وأطراف النهار بما لا طائل وراءه، وصاحب أوهام يتخيل نفسه مهديَّاً أو رسول عناية إلهية أو يطالبك بالإيمان به، وهو محتاج إلى أن يؤمن بنفسه !

شتَّام يرسل ليستفزك أو يغيظك فخير ما تكافؤه أن تعرف رقمه فتمسح ما كتب قبل أن يكدر خاطرك، وأنت تحتسب أن توفر الوقت الذي تستغرقه في قراءة ما يكتب.

صاحب مشكلة سجلت اسمه رمزيَّاً لتتذكر مشكلته الوقتية، وقد عفى عليها الزمن وصارت حديثاً عابراً ربما نسيه هو بعد أن كان يسد عليه منافذ الرؤية والحياة.

وربما أعطاك الرمز وطوى عنك الاسم؛ لأنه لا يريد أن تعرف حقيقته أو يخشى أن تبوح بسره!

طريف ظريف دمه خفيف أرسل وقد أعجبه الرقم يعرض أن يشتريه، أو يقول لك ملاطفاً : مميز حتى في الرقم!

أو يبعث بنكتة تجعلك تحبه من أول كلمة وتحتفظ بصداقته.

أحبة متوترون أو مفسبكون تشاطرت معهم التغريد واتفقنا واختلفنا يكفي أننا تعارفنا!

95% هي أسماء ثابتة وتزيد كما قال (جميل):

إِذا قُلتُ ما بي يا بُثَينَة قاتِلي مِنَ الحُبِّ قالَت ثابِتٌ وَيَزيدُ!

صرت أحفظها من تكرار المرور عليها، وكأنني أقرأ أسماء طلبتي في الفصل الدراسي الذين كنت أحضّرهم في كل حصة، وأعتز بصداقتها، وكلما لقيت وجهاً جديداً في الحياة فسمى لي نفسه عرفته بأنه من أصدقاء الهاتف والمراسلة، يكرمني بالرسالة والسؤال عن الحال وإشراكي في أفراحه وأحزانه وأعياده ومناسباته .. هم الذخر وعدة النوائب ..

من الممتع أن هذه القائمة تزيد وتتسع وتضم شباباً من أبناء الأصدقاء وأحفادهم في المراحل العمرية الفتية .. إنهم يشعرونني بحيوية الشباب وحماسته وطموحه، وأحياناً ببراءة الطفولة وعبثها وعفويتها.

أحسست أنني زرت مقبرة وتمثلت أمامي ملامح أصحاب قضوا من هذه الدار وطراً ..

وزرت مستشفى رأيت فيها مرضى لا يحسن أن تنسيناهم صروف الدهر.

وزرت متحفاً تاريخياً عامراً بالأحداث وانعكاساتها على البشر في تساؤلاتهم ومواقفهم .. ورأيت فيهم من ينهض خلال أزمة ما بكل قواه ويتحرك بنشاط وهمة، ثم يخلد ويخبو كأن لم يكن..

ومن يبني صداقته على الموقف المتغير فيقترب من هذا وينأى عن ذاك.. ويمعن في الاستجابة للظرف الوقتي .. وكأنه يصحح خطأ ارتكبه من قبل بالصلة أو البعد ، فتراه متنقلاً حسبما يملي عليه الموقف!

وزرت مدرسة بل مجمعاً معرفياً مستوعباً لأجيال عمرية يربيك على مواكبة الجديد واحترام القادم وتجسير الفجوة بينك وبين من سبقتهم أو سبقوك ..

تعليقك؟ ماذا عن ذاكرتك الهاتفية؟



د . سلمان العودة