"اللهم إني أعوذ بك من الهم والحَزَن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين وغلبة الرجال".

إنها وصية نبوية أخرى، جامعة في نصها، وفريدة في مضمونها؛ فقد سبق بها المصطفى صلى الله عليه وسلم علماء النفس في العصر الحديث.. وبهر بها خبراء مكافحة القلق والتوتر، والباحثين عن سبل السعادة.

هذا السبق وذلك الإبهار يبدو واضحاً جلياً في المقطع الأول من الحديث؛ فالرسول يتعوّذ من الهمّ والحَزَن؛ فما هو الهم؟ وكيف يكون الحَزَن؟

إن الهمّ هو التفكير السلبي في المستقبل، والاهتمام بما سيحمله الغد لنا من مصائب ومشكلات؛ أما الحَزَن فهو التركيز بأفكارنا على الماضي وتذكّر آلامه وأوجاعه.

إذن فهذه الدعوة النبوية تعلّمنا أن نرجو من الله أن يعيننا على أن لا نحزن على الماضي وأوجاعه، ولا ننشغل بحمل همّ المستقبل ومشاكله، ويدعونا باقي الحديث للاستعانة بالله أيضاً من العجز والكسل، والجبن والبخل، وقسوة الدين وبأن يصبح الرجل مغلوباً على أمره.. وهذه كلها مواقف صعبة لا يرجو أحد أن يوضع في أحدها.

ولكن لنرجع إلى المقطع الأول في الحديث؛ فقد يقول قائل عن المعنى الذي شرحناه عن هذا المقطع:

إذا كان هذا هو الهمّ، وذاك هو الحَزَن؛ فماذا بقي لنا؟

نقودك السائلة هي اليوم !!
هذا هو بيت القصيد، لقد بقي لنا اليوم بأكمله، وطالما نجحنا في تجنّب آثار الماضي، ولم ننشغل بهموم المستقبل؛ فإن اليوم بات مفتوحاً على مصراعيه لنعمل من خلاله ونُنتج.

وبالطبع ليس المقصود بتجاهل آلام الماضي ألا نتعلم منه ونستفيد من رصيد خبراتنا، ولا المنشود من عدم الانشغال بهموم الغد ألا نخطط للمستقبل؛ ولكن المطلوب ألا نفكر سلبياً أو طويلاً لا في الأمس ولا في الغد؛ فالأمس هو شيك فات ميعاد صرفه والغد هو شيك مؤجل الدفع، والسيولة المتاحة لك هو اليوم.

هذا الكلام عرفه علماء النفس مؤخراً، وتاهوا به فخراً، وراحوا ينظرون له وكأنهم اخترعوه من العدم، وأظنهم سيفاجئون عند معرفتهم بأن ما فعلوه ما هو إلا إزاحة الأتربة من حول كنز دفين تركه لنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم؛ ولكننا -وكعادتنا مع الكنوز النبوية- تركنا الأتربة تغطّيه.

ولْنرَ كيف أفاد هذا الحديث نبينا في حياته الحافلة بالأحداث والمواقف..

لم يوقفه الحَزَن ولا شتّته الهمّ
فقد وُلد يتيماً وتوفّيت والدته صغيراً، ولم يطُل بقاء جده الذي رعاه سوى أعوام معدودة.. ومن جرّب اليُتم المزدوج من الأب والأم، والعيش في منزل آخر به أولاد آخرون للأسرة صاحبة البيت، يعرف ما أقصد.

وهو لم يتوقف طويلاً ليحزن على عدم انصهاره مع أقرانه من شباب مكة عندما ينطلقون للهو واللعب، لم يَلُم نفسه على عدم قدرته على التوافق معهم في عبادة الأصنام، ولم يقُل: إذا كان الكل يفعل ذلك؛ فأنا المخطئ.

وعندما نزل عليه الوحي بغار حراء، وبشّره "ورقة بن نوفل" بأنه نبي هذه الأمة، ومزج البُشرى بتحذير من خطورة القادم، وأبلغه بأن قومه مخرجوه من دياره ووطنه.. ومع استعجابه المتمثل في قوله: "أَوَ مُخرجيَّ هُمْ؟" لم يترك نفسه للتفكير في توقيت هذا الإخراج وكيفيته، ولم يتوقف عن الدعوة في مكة طوال ثلاثة عشر عاماً، وكان من الممكن أن يتذرع بأنه سيُطرد منها؛ فلماذا يُجهد نفسه، وليوفر هذا المجهود لبلد آخر تقدر دعوته.

وهذه الحجة من الحجج المشهورة التي كثيراً ما نتّخذها ستراً لكسلنا، ونجعل من التفكير السلبي في الغد عائقاً لنا يمنعنا عن الحركة اليوم!

ومن التجليات النبوية التي قام بها صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر، عدم تفكيره في الغد بناء على التجارب الصعبة في الماضي، والتي كان من الممكن أن تتمثل في خوفه من ردّ فعل أهل المدن الأخرى التي يدعوها ليهاجر إليها بدعوته، بعد أن كذّبه أهلها وعشيرته؛ فالتفكير بهذة الطريقة السلبية يدفعنا أحياناً إلى أن نتوقف ونتراجع لنُعلن ونحن نتقمّص لهجة أهل الخبرة:

إذا كان الأصدقاء قد كذبونا وخذلونا؛ فكيف للغرباء أن يصدقونا وينصرونا؟!

لكن -والحمد لله- الرسول القدوة لم يفكّر على شاكلتنا، وقام بأصوب الأفعال، وضرب أعظم الأمثلة على التحرك بكل قوة في حدود اليوم، والاستفادة من كل ما نملك من صحة وعزيمة وأموال وأفكار؛ حتى لو تفاوت ما نملكه من رصيد في هذه النقطة أو تلك.

السير على خطاه
ونحن أيضاً نستطيع أن نسير على خطاه صلى الله عليه وسلم، ولا نجعل من أحزان الماضي مقبرة نحفرها بأيدينا لأنفسنا، ثم نهيل علينا التراب، ولا نصنع من هموم المستقبل حاجزاً فظيعاً، ولا سداً منيعاً يحول بيننا وبين التفاؤل في مستقبل أفضل نستعين بالله في صنعه بأيدينا.

وذلك عن طريق بعض الخطوات ومنها:
- التوقّف عن حمل تجارب الماضي الفاشلة، أو تذكّر غدر الأصحاب -أو من كنا نظنهم كذلك- لأن السير للأمام حاملين تلك الحمولة الثقيلة، سيجعل خطواتك بطيئة، وربما أجبرت على الرجوع إلى الخلف بدلاً من التقدّم.

- ضع مخططك بأهداف المستقبل، وتخيّل صورتك في الغد؛ ولكن لا تترك لنفسك العنان لتفكّر في احتمالات فشلك في تحقيقك تلك الأحلام؛ فبعد أن وضعت الأهداف ملتزماً بشروطها الصحيحة، فالأولى أن تهتمّ بالتنفيذ.

- احصر جُلّ جهدك، واستغلّ معظم إرادتك في إنجاز عمل اليوم على خير وجه؛ فهذا هو أفضل سبيل، وأقصر طريق لصنع المستقبل الذي تتمناه.

الله يعيننا على عمل اليوم، وألا نستسلم لأحزان الماضي، ولا ننشغل بهموم الغد.