السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

في هدأة الليل قام "أنس" الصغيرمن سريره ليتسلل إلى سرير أبيه يريد أن يطوقه بذراعيه وينام في أحضانه، ولكنه فوجئ بخلو السرير من أبيه، فطاف بغرف المنزل، وفي أقصى غرفة سمع صوت أبيه شجي حزين ودون أن يشعر اقترب "أنس" ليرى أباه واقفًا يصلي، وهنا تسمّرت عينا الصغير على ما لم ينسه أبدًا، لقد رأى خطّان من الدموع يسيلان من عيني أبيه الذي استغرق في التلاوة والبكاء.. ولم يشعر بقدوم صغيره، ولا حينما انسل إلى عائدًا إلى فراشه وقد حُفِرَ في فؤاده معنىً لا يمحى ونزلت به حلاوة العبادة, عبادة القيام التي لازمها طوال حياته) [أحمد معاذ الخطيب الحسني، قضايا كبرى في بناء أطفالنا]



تُرى لو سمع "أنس" من والده كل يوم محاضرة نظرية في فضل قيام الليل، من دون تطبيق في الواقع، هل كانت ستفلح في غرس هذه العبادة في نفسه بهذه القوة والثبات ؟



أعزائي المربين..



إن التقليد هو أحد خصائص الطفولة الأساسية, حيث أن الطفل يكتسب الكثير من السلوكيات والقيم والمباديء من خلال محاولة تقليده للآخرين، ولا نبالغ إذا قلنا إن الطفل كالإسفنج يمتص ما حوله وتفاعل مع المحيطين به من خلال تقليد سلوكهم وحركاتهم.



ففي مرحلة الطفولة يعتمد الطفل إلى تقليد أبويه وأخوته ومعلميه والمحيطين به بشكل عام, فتتقمص البنت شخصية أمها, ويتقمص الابنشخصية أبيه يقلدونهم في طريقة الكلام والمشي وأسلوبهم وأساليب تعاملهم مع الغير فهم يقلدون كل شيء يلاحظونه، فكل يوم يقلد الطفل فكرة جديدة على حسب ما يسمعأو يشاهد, وكلما كان على علاقة كبيرة بالناس وبالأخص من يحبهم، كلما كان عدد الأفكار التي يقلدها أكثر.



وتعتبر قُدرة الطفل الطبيعية علىالمحاكاة والتقليد إلى جانب درجة ذكائه وذاكرته من العوامل المهمة في اكتسابه للعادات، فالأطفال الأكثر ذكاء من حيثالاستجابة للتعليم والإدراك؛ أسرع في اكتساب العادات على وجه العموم سواء الطيبةمنها أو السيئة.



وهو حاجة نفسية لدى الطفل:



كل طفل يحتاج لينمو ويتعلم إلى القدوة ويأخذها من أحد والديه أو كليهما، والأطفال عموما لديهم حاجة نفسية أن يتشبهوا بشخصيات من يحبون، ويتقمصونها.



كما أنّ عملية التقليد والمحاكاة تكسب الطفل شعورًا إيجابيًا عن ذاته، فهو شديد التقليد لمن هم أكبر منه، وذلك يشعره بأنه في مصاف الكبار.



(وإذا علمنا أن الطفل يبرمج سلوكه ويبني اتجاهاته بنسبة 70% عندما يصل على السنة السابعة من عمره أدركنا إلى أي مدى يأخذ من محيطه, ويمتص من المحتكين به، فالأبناء يرون أن تصرفات آبائهم من أعمال وأقوال دائمًا صحيحة، فيتقيدون بهم ويسيرون على نهجهم وخصالهم.



وهذا ما أثبته النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الفطرة: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) [متفق عليه]) [د.مصطفى أبو سعد, التربية الإيجابية من خلال إشباع الحاجات النفسية للطفل]



وقد رأيناه متجسدًا في تمثل من كانوا في مراحل الطفولة من الصحابة للقدوة في شخصه، وتقليدهم لسلوكه وعبادته، بمجرد فعله لها..



عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (بتُّ عند خالتي ميمونة ليلة فقام النبي صلى الله عليه وسلم فلما كان في بعض الليل قام الرسول صلى الله عليه وسلم فتوضأ من شنِّ معلقة وضوءًا خفيفًا، ثم قام يصلى، فقمت فتوضأت نحوًا مما توضأ، ثم جئت فقمت عن يساره فحوّلني فجعلني عن يمينه ثم صلى ما شاء الله) [متفق عليه].



أعطهِ درهمًا خيرٌ من قنطار:



درهم أفعال خيرٌ من قنطار أقوال ..



إنّ القدوة تنصبُّ باستمرار حول ما يفعله الوالدان وما يصدر عنهما من سلوكيات، والأطفال يراقبون آباءهم وأمهاتهم باستمرار, حال فرحهم وحال غضبهم وحينما يختلفون وكيف يتصرفون مع الآخرين؟ ومن ثم يقلدونهم في كل ذلك.



فأنت- عزيزي المربي- تمثل أهم القدوات، وسلوكك هو أكثر ما يقلده الطفل، فسلوك الوالدين هو الجانب التطبيقي الذي يقلده الطفل تلقائيًا، ولذلك فمهما كان استعداده للخير عظيمًا، ومهما كانت فطرته نقية سليمة فإنه لا يستجيب لمبادئ الخير ما لم ير المربي في ذروة الأخلاق وعلى قمة الفضائل، وليس يفيد شيئًا أن يعطي الآباء أبناءهم عشرات التوجيهات والنصائح والأوامر كل يوم عما يليق وما لا يليق، بقدر أن يتمثلوا هذه التوجيهات في سلوكهم باستمرار.



لذلك ترحم التابعي على صغارٍ ابتلوا بأبٍ يسيء صلاته، لأنهم بالضرورة سيشبّوا وهم لا يعرفون إلا هذه الصلاة العارية من الخشوع والاطمئنانوالتي يقلدون فيها أباهم!



عن الفضيل بن عياض قال: رأى مالك بن دينار رجلًا يسيء صلاته، فقال: ما أرحمني بعياله،فقيلله: يا أبا يحيى يسيء هذا صلاته وترحم عياله؟ قال: إنه كبيرهم ومنهيتعلمون.



فلا يجب أن يتهاون المربي بملاحظة الصغير له وهو يرتكب الأخطاء أو يتصرف بطريقة منفلتة أمامه، ويقول في نفسه "إنه صغير لا يدرك، أو لا يعرف عقله" وما درى أن عين الصغير كعدسة الكاميرا التي تسجل لحظة بلحظة وبدقة متناهية كل ما يُفعل ويُقال لتحاكيه وتقلده. [محمد سعيد مرسي:كيف تكون احسن مربي في العالم؟ بتصرف]



كيف نستثمر خاصية التقليد عند الأطفال؟



الطفل كثير التقليد وسريعه، وسواء أكان الأمر حسنًا أم سيئًا فإنه سيقلده؛ فهو يقلد أباه حين يصلّي، كما يقلده حين يدخن !



وحتى نستفيد من هذه الخاصية الموجودة فطريًا لدى الطفل، علينا أن نركز في توجيهه بالصورة التالية:



- تربية الأبناء على أنّ رأس الإقتداء إنّما يكون برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الأسوة التي سمّاها الله وعيّنها لنا نحن المسلمون، وأمرنا بالاقتداء به في أمرنا كله، قال تعالى :{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21], فيتعرض الأب لولده بأفعال السنة وأقوالها، مستثيرًا ومحفزًا له كي يسأل ويستعلم عن سبب قيام والده بذلك، فيجيب: لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعلها وهو قدوتنا وحبيبنا.



إن تعلق الطفل بشخصية النبي صلى الله عليه وسلم يجعل منه إنسانًا سويًا صالحًا متدينًا، فإذا أحب نبيه صلى الله عليه وسلم أحب دينه، وعظمت عنده سنة نبيه، فيمثّل له هذا الإقتداء حصنًا حصينًا ضد المؤثرات السلبية والقدوات السيئة. [هداية الله أحمد شاش, موسوعة التربية العملية للأبناء]



- تعليمهم السيرة النبوية والمغازي المباركة، وقصص العظماء، وأخبار كفاحهم لصنع النجاح والاحتفاظ به، فعن سعد بن أبى وقّاص أنه قال (كنا نعلم أولادنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلمكما نعلمهم السورة من القرآن)



وعن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبى وقّاص رضى الله عنهم قال: (كان أبى يعلمنا المغازى والسرايا ويقول : يا بُني, إنها شرف آبائكم فلا تضيعوا ذكرها) فتلقين الأبناء هذه السيرة المباركة هو من أحسن الطرق لتشكيل شخصياتهم على هدى المصطفىصلى الله عليه وسلم.



- ومن الوسائل التي تعين المربي على برمجة التقليد لدى أبنائه، توفير الوسائط التي تقرّب لهم هذه القدوات وتصورها لهم بشكل حيّ وجذّاب ومناسب لهم، وقد باتت كثيرة ومتوفرة بحمد الله تعالى مثل: شرائط الفيديو والأقراص المدمجة والقصص المطبوعة للأطفال ذات الألوان الجذابة.



- ضرورة الحيلولة بين الأطفال والقدوات السيئة، وذلك بأن يتعمد الوالدين اختيار الرفقة الصالحة لأبنائهم فيتحرى إنشاء علاقات طيبة مع الصالحين من الأقارب والجيران الذين عندهم أبناء في مثل عمر ولده، ممن تكون آدابهم وأقوالهم وأفعالهم حسنة ومرضية، لأنّ الطفل يقلد أترابه الذين هم في سنه أو أكبر منه، وكذلك والرفاق الذين يشاركونه لعبه، فيقتدي بهم في جميع تصرفاتهم ولا يرضى عن نفسهأن يكون أقل منهم, فدائما يكون عنده المنافسة على مساواتهم, أو أن يكون أفضلمنهم.



وأخيرًا..



لنتذكر أن ما أودعه الله تعالى في نفوس الأطفال من خاصية التقليد وقابلية الإقتداء، يجعل مسئوليتنا كبيرة في التزام القدوة الحسنة لأبنائنا، فلو افتقد الطفل القدوة الصالحة فيمن يربيه أبًا كان أو أمًا أو مربيًا أو معلمًا، لن يفلح بعده وعظ ولا عقاب.



ولنربيهم على أن يكونوا منارات هدى يقلدهم الناس في صلاحهم، ولا يقلدون هم إلا الصالحين.