إن مطلب الألوهية مطلب توافرت عليه الفلسفات والنبوات، ودلائله البرهانية ماثلة في الأنفس وفي الآفاق، وبواعثه النفسية مركوزة في العقول وفي الوجدان:{فطرت الله التي فطر الناس عليها} (الروم:30).



لكن هذا المطلب الوجودي الذي لا ينفصل عن الإنسان، يؤرق الملحد ولا يجد له في فلسفته الماديّة تحليلاً أو تفسيرًا، فيفترض أن نشأة الدين كانت عبر نظرة الإنسان البدائي في صفحة الكون، وعدم معرفته سبب الظاهرة فيقوم بنسبتها إلى خالقٍ غيبي!(1)



وللإنسان أن يتسائل هنا: كيف يكون النظر في الكون أو ظواهره سببًا في إيقاظ الشعور الديني العميق عند جميع الأُمم ؟

ما علاقة حدوث ظاهرة كونية بظهور دين له مراسميه وطقوسه والتزاماته الأوليّة ؟

إن استمرار أية ظاهرة كونية على نسق واحد يجعلها أمرًا مألوفًا، لا يُلفت النظر ولا يحتاج معها إلى تعليل!

بل إننا لو استخدمنا هذا المقياس القاصر الاختزالي في تحليل الأمور، فإن العكس هو الحاصل دومًا؛ فباعث كل الديانات هو روح العظمة والقوّة وليس الإستسلام أو الجُبن أو الجهل أو الخوف البدائي!



ومن جهةٍ أُخرى لو كان مبعث العقيدة هو المشاهد الكونيّة، وكان هدف الطقوس هو استرحام الطبيعة؛ لما استمر الناس على التدين بعدما ظهر أنها محاولاتٌ عابثة، وبما أن الديانات لم تنقطع يومًا ما، ولم تنفصل عن الجماعة الإنسانية عبر النطاق الزمني والمكاني بأكمله، فلابد أن يكون لها منشأٌ مستقل عن هذا التحليل الاختزالي القاصر الذي يطرحه الملحد !



لكن، هل كان باعث الخوف عند الإنسان الأول مبررًا لنشأة الدين كما يقولون ؟

إذا افترضنا هذا التصور فكيف نُفسر عبادة الأحجار والحشرات وأتفه الأشياء التي لا توحي بمثل هذا الشعور؟

بل كيف نُفسر داخل هذا الإطار التحليلي للقضيّة الدينية، الفصل التام بين الأمور المقدسة والأمور العادية ؟

وكيف يؤسّس الخوف البدائي لكل الطقوس والديانات والعبادات؟

بل إن أصل علم النفس يقوم على أن استمرار المُحسَّات على نسق واحد يُضعف باعث التفكير والخوف(2)، لكن الملحد يضرب بهذا الأصل العلمي عرض الحائط، ويقرر أن الدين الذي هو ركن الوجود البشري قائم على هذه الأغلوطة الافتراضية غير المتّسقة حتى داخل إطارها الذاتي !



ونظرًا لقصور هذا التصّور في تحليل الظاهرة الدينية، فقد افترض دوركايم Émile Durkheim أن المجتمع والجماعة والعلاقات القبلية كانت مصدرًا أصيلاً لنشأة الدين، أضِف إلى ذلك تقديس الأجداد، واشتراك العشائر في لقبٍ واحد، فيما يُعرف بالطوطم Totem ، وهذا الطوطم في الغالب يكون أحد أنواع الحيوانات كانت تتخذه العائلات البدائية لقبًا لها، وتحوّل الطوطم مع الوقت إلى البذرة الأولى للدين (3)



على أنّ الدراسات الميدانية التي أجراها روبرت شميث Schmitt على القبائل البدائية، أثبتت أن هناك أُمم كاملة وحضارات بأكملها وقارات لا تعرف شيئًا عن الطوطم أو الطوطمية ولا يوجد عندهم نظام الألقاب الحيوانية، ومع ذلك توجد عند هؤلاء جميعًا عقيدة الإيمان بالله الأعلى بصورة واضحة .(4)



بل إن أبحاثًا أحدث قام بها لانج lang وفريزر Frazer أثبتت أن الطوطميّة منظومة اقتصاديةٌ مدنيّة، وليست دينيّة كما كان يتخيل دوركايم، وفكرة الدين نشأت بعيدًا تمامًا عن هذه التصورات الساذجة، والتحليلات الواهية!

فالطوطم شعارٌ قومي ورمز يُعرِّف القبائل بأنسابها لا أكثر، ويبعث على التعاون والقوميّة، لكن القبائل كانت أذكى بكثير من أن تعبد تلك الرسوم أو مدلولاتها، بل كان لهم معبود روحي آخر مستقلٌّ تمامًا يعتمدون عليه. (5)



ولا ننسى أن دوركايم كان له الدور الأكبر في تدليس المعرفة عند الأوربيين خلال عقود طويلة عندما كان يطرح حفلات القبائل البدائية بما فيها من عربدة وارتكاب للمحرمات كمظهر تديني عندهم، إذ ثبت أن هذه الحفلات كانت تمردًا على هيكل الحياة الإجتماعية والدينية للقبيلة وليس العكس، وأصبحت الآن هذه الحقيقة من أشهر تدليسات دوركايم!(6)





فالنظم القبلية في كل المجتمعات تقوم على الفصل التام بين الجنسين؛ إنه لمن السخرية أن يعرض علينا دوركايم ولعقود طويلة هذه الحفلات الماجنة وهذا المسرح البدائي المتهتك بإسم المحراب المُقدّس للأديان، بل إنه جعل التمرّد على الدين مظهرًا دينيًا، ومحاولات التمرد والصبيانيّة الشهوانيّة معيارًا للدين عند الأولين! (7)



لكن هل الدين بالفعل ظاهرةٌ اجتماعية؟ هل يمكن تحليل الظاهرة الدينية في هذا الإطار ؟

إن الذي يتفق عليه علماء الإجتماع أن الظاهرة الإجتماعية الحقيقية كما نشاهدها في القوانين والقواعد الاقتصادية ذات وجود خارجي مستقل عن أفراد الجماعة، في حين أن الدين ظاهرة فرديّةٌ في المقام الأول، ظاهرة داخليةٌ ذاتيّة مستقلة، فهي تأتي على العكس تمامًا من الظاهرة الإجتماعية، فلا يصحّ القياس مع هذه المفارقة.(8)



ثم كيف يُنشيء العقل الجمعي الدين ؟ هل سمع أحد بديانة ناشئة تحمل تعاليم جديدة، يكون موقف الجماعة منها موقف حمل الأفراد عليها، وإلزامهم بها، هل سمع بهذا أحد من قبل ؟



أم أن العكس هو الحاصل، ويكون الموقف المعتاد هو المناهضة لها والمقاومة العنيفة لداعيها، أليس هذا أصل تاريخي مُشاهد ومتكرر يا دعاة التاريخ والتجربة ؟



مِن أين جاءت فكرة الإله الأكبر فاطر السماوات والأرض يا دُعاة التحليل المادي، وعلى غرار أي جماعة طُبعت هذه الصورة، وكيف قامت الدعوات لها عبر كل التاريخ وكل الجغرافيا ؟

هل عندكم من تحليل واحد مادي لهذه الحقيقية الأولية في الوجود الإنساني؟





الحقيقة أن ما يقرره علماء تاريخ الأديان أمثال لانج Lange وباسكال Pascal وشميث Schmitt وبروس Bruce وكوبرز Coopers وغيرهم، هو أن التوحيد وعبادة الله الواحد كانت سابقةً على التعدد وصناعة الآلهة الوثنية. (9)



ويمكن القول: إن التحليل المادي للظاهرة الدينية هو تحليلٌ أجوف، قاصرٌ واختزالي، إلى أبعد حد!



ولا ريب أن الأديان هي التي سارت إلى الإنسان وهي التي نزلت إليه، ولم يصعد هو إليها، وأن الناس لم يعرفوا ربهم بافتراض العقل البدائي فحسب، وإنما بنور الوحي كذلك !



نعم إن الناس لم يكونوا كلهم أوفياء بالوصية المقدسة، لكن هذا التعليم الإلهي لم يُمح أثره محوًا تامًا من البشرية، ولذلك ظلّت فكرة الألوهية والعبادة والتوحيد واختلاط المقدس بالوثني سمةً ظاهرة في الحضارات والأُمم.



إن الدين تجربة وجدانية فطرية أوليّة خالصة؛ بل هو أسبق في العقل من كل الأوليّات، وهو جماع كل الحقائق الإيجابية، وأصل المعرفة وأصل الأخلاق والقيمة والحق والكمال، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله" إن كل خيرٍ في الأرض فمن آثار النبوة."(10)





وقال ابن القيم رحمه الله " لولا النبوات لم يكن في العالم علم نافع البتة."(11)





فالدين ضرورة عقلية فطرية وجدانية أولية روحية خالصة!

ولا يُعرف ما الإنسان ولا قيمته، ولا يتم التأسيس لأخلاقياته إلا تحت راية النبوات،

بل إن مَن جحد أن يكون الله تعالى قد أرسل رسله، وأنزل كتبه لم يُقدره حق قدره، ونَسبه إلى ما لا يليق به، فجعلَ خلقه عبثاً باطلاً، ، وهذا ينافي كماله المقدس، فمن أنكر النبوات فما قدر ربّه حق قدره، ولا عرِفه حق معرفته، ولا عظَّمه حق عظمته!(12)



{شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب} (الشورى :13)



وخلاصة القول: إن الدين حقيقة أولية في النفس الإنسانية لا تحللها حتميات دوركايم الإجتماعية، ولا الرؤية الإختزالية لمجموعة من القبائل البدائية، فالدين جوهر الوجود الإنساني!