إن مقاييس المسلمين المتعلقة بالتقدم والتأخر تختلف في جوانب عديدة عن مقاييس غيرهم، فنحن باعتبارنا "أمة رسالة" نعد مهمتنا الأولى في هذه الحياة ليس إعمار الأرض، ولا تحقيق الرفاهية، أو تحسين الحالة الصحية، أو تامين عبور القارات بأسرع وقت ممكن فحسب، وإنما محاولة التحقق والتلبس بالعبودية الكاملة لله تبارك وتعالى، ونشر تعاليمه وإعلاء كلمته في العالمين، وما ذكرناه قبل إنما نتقرب به تعبدا لله، واستجابة لأمره، وسعيا وراء توفير أجواء التدين والاستقامة وبقاء كوكب الأرض صالحا لحياة كريمة مطمئنة.



ومن هنا فإن علينا الآن ـ ونحن نتثاقف في أسباب انحدار أمتنا من القمة إلى القاع ـ أن نقف مليا عند رصد الآثار الحضارية لمجمل الانحرافات العقدية والمنهجية والسلوكية، وتفاعلاتها مع أسباب التخلف المادي الذي تعيشه المجتمعات الإسلامية على العديد من الصعد.



أسباب الانحدار

وإذا أجلنا النظر في حالة الأمة اليوم ومدى التزامها بدينها، أمكن أن نلحظ ما يلي:

1 ـ انحرافات في مفاهيم العقيدة الأساسية ـ سواء منها ما يتعلق بالذات الإلهية، وما يتعلق بالنبوة والرسالة، وما يتعلق منها بالقضاء والقدر...، وهذه الانحرافات تتفاوت بين بلد وآخر، لكن أكثر المسلمين ـ على مستوى العامة خصوصا ـ مشوش العقيدة.

فإذا انتقلنا إلى مستوى فاعلية العقيدة ومدى بعثها على الفعل والكف، وجدنا أن ضعفا مخيفا في استجابة المسلمين لنداءات العقيدة يخيم عليهم؛ فعلى الرغم من إيمان المسلم بمسئوليته عن الأعمال التي يقوم بها نجد نوعا من اللامبالاة وعدم الاهتمام بذلك.. كما نجد أن المسلم يعتقد أن الرزق مقسوم، ثم نجد كثيرا من المسلمين يأكل الربا، ويمارس الغش، ويأخذ الرشوة، ويذل نفسه، وينغمس في أمور دنياه مع التفريط بالفرائض والواجبات.

إن فاعلية العقيدة ـ في الحسابات الحضارية ـ لا تقل أهمية عن صفائها؛ فكلاهما شرط أساسي في إنجاز حضاري متميز ومتناسب مع الجهد والعصر.



2 ـ الجهل المطبق بأحكام هذا الدين؛ فنظرا لانتشار الأمية وتحجيم مادة التربية الإسلامية في السواد الأعظم من البلدان الإسلامية إلى درجة لا تبتعد عن العدم كثيرا، وتشويه الكثير من وسائل الإعلام والمنشورات والمطبوعات لحقائق هذا الدين وأركانه، وتسليط الضوء على جانب من الإسلام وإسدال الستار على الجوانب الأخرى، نظرا ذلك فقد اختلطت أمور الحلال والحرام على كثير من الناس، وكثر التهاون بالكبائر، كما ساد إهمال الفرائض.



والدليل الحي على عدم اهتمام المسلمين بقضية الالتزام أنه لا توجد أي إحصاءات لأعداد ونسب الذين يحافظون على الصلاة أو الذين يؤدون الزكاة!! مع أن دولا علمانية ـ مثل بريطانيا مثلا ـ أجرت إحصاءات للملتزمين بالمسيحية فيها. ونتيجة لفقد الإحصاءات بصورة تامة فإن أمر إقبال الإسلام صار ضبابيا في كثير من الأحيان، وصار التقويم لجوانب التقدم والتراجع في مسألة التدين أمرا شبه مستحيل. وهذا كله بالغ التأثير في إنجاز أي تخطيط دعوي مثمر.



3 ـ غلبة النزعة المادية، وسيطرتها على مشاعر المسلمين وهمومهم نتيجة التأثر بالحضارة الغربية المادية التي لا تقيم لأشواق الروح وصلاح الآخرة أي وزن؛ فالهم الأكبر ليس ما أنجزه على صعيد مرضاة الله، وإنما ما زاد في ثروته.. واضمحل لفظ (الصالح) و(التقي) على ألسنة الناس، وحل محله لفظ (الإنسان الناجح)، كما غابت عن ألسنة كثير من المسلمين لفظة (ابن حلال) وحلت محلها لفظة (جدع) و(وشاطر)، وكان ذلك دليلا واضحا على ولادة معايير اجتماعية جديدة في تحقيق القبول الاجتماعي.



ولا يجوز أن نغفل هنا الأحوال المعيشية السيئة للسواد الأعظم من المسلمين؛ حيث أذل الفقر والمرض والجهل المسلم، وضغط على قيمه الإسلامية، ودفعه إلى الوقوع في كثير من الدروب المظلمة، حيث صار الشعور بالضرورات قويا؛ مما عزز من الترخص في الوقوع في المحظورات؛ وصارت الكماليات ـ في عرف الشرع ـ ضروريات؛ فالأعراف الاجتماعية هي التي تتولى ذلك.



4 ـ من أنواع الخلل في حياتنا التعبدية اختلال الترتيب الشرعي بين أنواع المطلوبات والمنهيات؛ ففي بعض البلدان الإسلامية يحرص المسلمون على (الأضحية) وغسل الجمعة أكثر من حرصهم على الصلاة، وفي أكثر بلدان العالم الإسلامي يحرص كثير من المسلمين على الصيام أكثر من حرصهم على الصلاة مع أنها أهم وآكد في نظر الشرع!

كما أننا نجد من المسلمين من يهتم ببعض المندوبات أو السنن مع غض الطرف عما يصاحب ذلك من أعمال محرمة، على نحوا ما يجري في بعض البلدان الإسلامية من خروج النساء إلى صلاة العيد أو صلاة التراويح في رمضان وهن متعطرات، وفي أبهى حلة.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تجاوزه إلى خلل عظيم في تقويم الأشخاص والمواقف والأفكار، فكم من رجل أحسن الظن به لأنه قال كلمة فهم منها حبه للإسلام أو الرسول صلى الله عليه وسلم!! مع أن واقع حياته وأعماله هو الصد الكامل عن سبيل الله و الاستهانة بأمره!!



5 ـ التقصير الكبير في نشر الدعوة الإسلامية خارج المجتمعات الإسلامية والتقصير في التوعية الإسلامية داخلها.

أما على الصعيد الأول.. فإن أكثر المراكز والهيئات القنصلية التابعة للدول الإسلامية لا تهتم بأمر الدعوة، فليس فيها ملحقون دينيون، وليس لها أنشطة ذات بال في إظهار شعائر الإسلام أو التعريف به، مع أن أمتنا تملك الرسالة التي تحتاجها البشرية لإنقاذها ونجاتها؛ كما أن الإسلام يمثل الامتداد الثقافي والحضاري للدول الإسلامية خارج حدوده لو كانت راغبة في بناء خطوط دفاع متقدمة، أو بناء علاقات ومصالح تخدم أمة الإسلام.

ولو لم يكن في شرح الإسلام للعالم سوى تحسين صورة المسلمين، التي شوهها الإعلام الصهيوني أمام الآخرين، لكان ذاك كبيرا.



وأما على الصعيد الداخلي.. فما يبذل من جهد في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام يكاد يكون معدوما أو ضئيلا، مع أن مشكلة الأقليات غير المسلمة قد سببت الكثير من المتاعب، وبذل من الأموال لاحتوائها الكثير، ولو أن دعوة نشطة قامت بينهم لهدأت مشاعر كثير منهم، ولحيدت آخرين، كما أدخلت كثيرين منهم في الإسلام.



ولا أريد أن أستعرض حال الأمر المعروف والنهي عن المنكر وتوعية المسلمين داخل بلدانه فذاك أمر لا يحتاج على شرح!

هذه الأنواع من التخلف عن المستوى الذي يريده لنا المنهج الرباني اشتبكت مع عوامل مادية من فقر ومرض وأمية وقهر...، ودخلت معها في علاقة جدلية، وصار كل منها يمد في سلطان الآخر حتى وصلنا إلى ما نحن فيه!



إن أهمية سلامة العقيدة والارتقاء إلى مستوى الالتزام المطلوب ذات أثر مهم في توفير الشروط الموضوعية والنفسية والاجتماعية التي كانت سائدة أيام انطلاقتنا الحضارية الأولى، ولن نستطيع أن نفعل شيئا مما هو مطلوب اليوم ما لم نوفر الحد الأدنى من تلك الشروط.



وذلك يعود إلى أن تكوين النفس الأولية للحضارة الإسلامية تم في أجواء هداية المنهج الرباني وإشعاعاته، وترتب على ذلك تكوين (حساسيات) في بنانا النفسية العميقة تساعد على إفراز العطالة الفكرية والنفسية كلما ابتعدنا من أجواء التكوين الأولى؛ ويترتب على ذلك العطالة على مستوى الحركة، والاستسلام بالتالي إلى معطيات البيئة والتربية الاجتماعية والظروف غير المواتية من داخلية وخارجية.



ويبدو أن هذه السنة ماضية في أمم الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ كافة؛ وذلك واضح من حديث القرآن الكريم عن أسباب هلاك الأمم السابقة وسوء أحوالها؛ حيث وضح لنا أن أيام الله تعالى لم تدر عليهم بسبب تقصيرهم في إعمار الأرض والسيطرة على الطبيعة، وإنما بسبب استدبارهم لرسالات السماء، وبعدهم عن المنهج الذي سنته لهم.



ومن هنا فإن كثيرا من العلل الأولى للواقع الذي نقاسيه ربما عاد في وجوده إلى أكثر من ألف سنة!

والذي جعل الأمة تقاوم أسباب الفناء كل تلك الحقب الطويلة هو ما بقي فيها من التدين، وما تركته قوة الانطلاقة الأولى من اندفاع، وما تتروحه هذه الأمة من حركات التجديد والتصحيح بين الفينة والفينة.. والله غالب على أمره.