الشباب والانحراف الفكري


لا شك ولا ريب عند كل مسلم أنّ المستقبل للإسلام ولهذا الدين، رغم أنف كل عدو وجاحد ومتربص، ورغم أنّ المسلمين اليوم في أحوال يرثى لها، وأنهم بأشد الحاجة لتضافر الجهود وجمع الكلمة ولمّ الشمل للنهوض مما هم فيه.


والشباب هم عمدة كل أمة وخاصة أمة الإسلام، ولكن لا ينهض بهذا العبء شباب جاهل أو كسول أو متواكل، فالنهضة لا تقوم إلا على علم ومعرفة يتحلّى بها أناس متحرقون لخدمة الأمة، وتواقون للمجد والعلياء.


وأنتم أيها الشباب أملنا الذي نتطلع إليه لتكونوا -إن شاء الله- صناع هذه النهضة ورجالها وأبطالها، نهضة تقوم على دعائم علمية، وإيمانية، وأخلاقية، وإنسانية، مع التأكيد هنا على كلمة إنسانية.


أحببت أن أتوجّه -إليكم خاصة- بهذه الكلمات من القلب والوجدان؛ لتكون مذاكرة بيني وبينكم، لعلكم تكونون سفراء بها إلى من وراءكم من أمثالكم المخلصين المجدين الغيورين على الأمة ودينها.


أيها الشباب، إنه يصل اليوم للواحد منكم -وخاصة الولوع بالمعرفة والمغرم بالاطلاع- سيلاً من الأفكار والآراء ووجهات النظر الشخصية والفردية، وذلك من خلال الوسائل الموجودة اليوم في عالمنا، والتي أصبحت متوفرة في أي لحظة من خلال (كبسة زر) كما يقال بالعامية، وهذا شيء بقدر ما هو جيد ورائع، بقدر ما هو من الخطورة بمكان أكثر مما يتصور أي متفاءل عاقل، إن هذا السيل من المعرفة وهذا التدفق الهائل للمعلومات في الواقع هو أكثر من جيد ورائع ولكن لمن يتمتع بالمزايا التالية:


1- عقل واع.
2- حسّ متميز بالمسؤولية.
3- أسس وقواعد علمية متينة وصحيحة. وهذه أهمّ نقطة بين هذه النقاط الثلاث.


وأما من يفتقر إلى مجموع هذه الأشياء الثلاثة فهو على خطر عظيم.
إن أخشى ما يخاف منه هذه الأيام على شبابنا عموماً: الشبهات والشهوات، وإنني أشد خشية على المتحمسين منهم بأن تتسرّب إليهم الأفكار المسمومة المبهرجة –وما أكثرها- من غير وعي منهم، وذلك من خلال ما ينشره المضلّلون –بفتح اللام وبكسرها- ومن خلال ما ينشره أصحاب الفكر المغشوش على ألسنة نحسبها منا ومن أبناء جلدتنا ولكنها في الحقيقة تقوم على خدمة أهداف العدو –على تنوع هذا العدو وتنوع أهدافه- من حيث تدري أو لاتدري.


فقد ورد في الحديث الشريف أن بين يدي الساعة سبعون دجالاً، مما يشير إلى كثرة الدجاجلة عند قرب الساعة، وهذا يؤكد على ضرورة الحيطة والحذر.


كما إنني أخشى -أيها الشباب- أن تتسع الهوة رويداً رويداً بينكم -وخاصة المتحمسين المخلصين منكم- من جهة، وبين أصحاب الفكر الواعي والعلم الصحيح والمنهج السليم من جهة أخرى، فيتحول الشباب من مناصر وخادم للأمة ساع في بناء نهضتها؛ إلى إنسان مغرّر به ومضلّل رغم تقافته وتنوره، فيكون معول هدم لهذا الدين دون أن يشعر أحياناً! أو يتحول إلى عدو لدود عن سابق إصرار وتصميم أحياناً أخرى نتيجة لما يتراكم في نفسه من ملاحظات سلبية عن العلماء المخلصين والمفكرين الصادقين الذي قد يتصرفون في بعض الأوقات والظروف على خلاف ما يتوقعه أو يأمل به الشباب أو على خلاف مزاجهم وهواهم سواء في بعض السلوكيات أو في بعض مجالس الحوار والنقاش مما قد يجعلهم ناقمين وسلبيين.

ثقوا أيها الشباب أنكم ما لم تتسلحوا بالعلم الصحيح فلن تستطيعوا أن تواجهوا الشبهات، ولا أن تغالبوا الأفكار المشبوهة التي قد تتسلل إليكم رويداً رويداً دون شعور؛ إن كنتم تتناولون المعرفة والثقافة دون تمييز بين الرجال والأقزام، ودون تمحيص للمتصدرين للمشهد ومعرفة واعية بهم، فقد يخدع الواحد منا بشخص أو عالم أو شيخ أو صاحب فكر (متحرر) لما يجد منه من فكر منظم، أو علم متميز، أو رقة وليونة في المعشر والطباع، أو شهامة في النجدة وحسن الاستماع، ونحو ذلك مما يغترّ به البعض، فيؤدي به للاستسلام لأفكاره الملوثة مع مرور الأيام.


أما إن كنتم -أيها الغيورون- متسلحين بالقواعد الأساسية للعلم مع تمتعكم بالرصانة والحصافة فلن يؤتى أحدكم من قبل هؤلاء، بل سيكون محصّناً من الاختراق الفكري والنفسي أكثر ممن لم يمتلك ذلك.


ولهذا فإني أنصح شبابنا -ليكونوا بمنأى عن الانزلاق الفكري والذوبان في الآخرين- بأربعة أمور مهمة:


1- أن يأخذ الشاب دينه من المستقيمين من العلماء، وأن يحصّل على المعرفة بأشكالها من أهلها الموسومين بالثقة والمعروفين بالصدق، وأن يتحقق من مصدر المعلومة ومن مصداقيتها.


2- أن ينوع الشاب شيوخه وأساتذته ويكثر منهم، وهذا يفيد في أشياء كثيرة، ليس أدناها أنه لو أخطأ أحدهم في فكرة أو معلومة سمع الشاب صوابها من غيره، وإذا أشكل عليه شيء من أحدهم أزال عنه الآخر هذا الإشكال، وهكذا، وقد كان للواحد من علماء السلف عشرات المشايخ، وربما المئات، وهذا إمامنا البخاري يحكي عن نفسه أنه روى عن ألف شيخ!!! وأما ما يقوله بعضهم من أن تعدد الرضاع يفسد الطباع فهذا لا ينتج انفتاحاً ولا يؤسس لمعرفة واسعة تتقبل المخالف، بل يؤسس لتقوقع وانغلاق وعصبية، وخاصة في هذا الزمن الذي قلّ فيه الشيوخ الكمّل الذين يتبرؤون من حظوظ النفس وميولات الهوى.


3- أن يتجنب الشاب التلقي والتعلم مما هبّ ودبّ قبل أن يشتد ساعده في العلم، فإن كان ولا بدّ فاعلاً، فعليه أن يعرض ما يطرأ له من شبهات أو حيرة على من يثق بعلمهم ودينهم.


4- أن يحترز وينفر من كل أمر يخالف ما أجمع عليه المسلمون على مر العصور، فلا يعقل أن يدعي أحد زيادة فهم على أمر أجمع عليه كل من مرّ على الأمة منذ أربعة عشر قرناً إلى اليوم، إذ لا يتصور أنّ آلاف العلماء الجهابذة على مستوى الشافعي ومالك و.. و.. قد أجمعوا على أمر ثم يأتي واحد اليوم -مهما أوتي من علم- بفهم على خلاف ما أجمعوا عليه!! فلا يقول بهذا عاقل؟ (لا ما انفرد به أحدهم أو بعضهم فخلافهم جائز)، إذ لا يعقل أن هذا الدين المحفوظ من الله يستمرّ على خطأ مئات السنين في أمر من الأمور التي أجمع عليها العلماء، ولا يأتي من يتنبّه لهذا، ولا يسخّر الله أحداً ينبّه عليه إلا في هذا الزمان الذي كثر فيه الجهل بالدين؟!!


أيها الشباب، أنتم الأمل والمستقبل، وبكم وبسواعدكم وهممكم تنهض الأمة، أنتم اليوم تخوضون في بحور من الشهوات والشبهات، أما الشهوات كالمعاصي التي يقع بها العبد بينه وبين ربه؛ (مع شدة خطرها) فأمرها يسير سهل بسعة فضل الله وعفوه، فالله يستر عبده ويلهمه التوبة؛ فيتوب ويستغفر؛ فيغفر الله له، وأما الشبهات فإنها تعصف بالفكر وتزلزل العقل، وهي الخطر الكبير الداهم، والآفة التي تحيل النفوس العامرة خراباً، فإنها إذا علقت بالعقل ولم تجد جواباً مقنعاً ونفساً متجردة عن الهوى، استحكمت بالإنسان وحرفته، وأبعدته عن أهل الصدق، وجعلت بينه وبينهم وحشة قلبية وغربة فكرية، وقربته من أهل الزيغ والبدع والأهواء دون أن يشعر، فيزلّ ويضلّ عن علم وهوى، نعوذ بالله من ذلك.


فحذار أيها الشباب من الاعتداد بالنفس مع قلة الزاد، وحذار من الزهد والاستخفاف بأهل الصدق والوفاء من الدعاة والعلماء ومن التنكر لسابقتهم وفضلهم، فإنّ في ذلك الهلاك كل الهلاك والضياع كل الضياع، ولن تفلح أمة لم تعرف لرجالاتها حقهم، ولعلماءها قدرهم، وولت أمرها الصبيان والسفهاء.


روى أحمد في مسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أمام الدجال سنين خداعة، يكذّب فيها الصادق، ويصدّق فيها الكاذب، ويخوّن فيها الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، ويتكلم فيها الرويبضة". قيل: وما الرويبضة؟ قال: "الفويسق يتكلم في أمر العامة ".


ولا عبرة –أيها الأطهار- للسفاهة والصبى في السن والعمر، لأن الفويسق الذي ذكره الحديث الشريف لا يحد بسنّ، فكم من صغير زانه عقله فكان كبيراً، وكم من كبير شانه عقله فأحاله صغيرا!! وكم من صاحب عمة - تنوء برأس صاحبها من ثقلها- أسفه من صبي وأفسق من دعيّ!! وكم من صاحب هالة وصيت هو في الحقيقة تافه صفيق!! إذ هل بعد الانحياز للفجرة والتهليل للكفرة من فسق؟؟ إنّ هذا –وايم الله- الردة بعينها يا عباد الله