بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده و نشكره و نستهديه و نستغفره و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و من سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له و من يضلل فلا هادي له و اشهد ألا إله إلا الله و أشهد أن محمدا عبده و رسوله .
اللهم إني أبرأ من الثقة إلا بك و من الأمل إلا فيك و من التسليم إلا لك و من التفويض إلا إليك و من التوكل إلا عليك و من الرضا إلا عنك و من الطلب إلا منك و من الذل إلا في طاعتك و من الصبر إلا على بابك و من الرجاء إلا في يديك الكريمتين و من الرهبة إلا بجلالك العظيم .
اللهم تتابع برك و اتصل خيرك وكمل عطاؤك و عمت فواضلك و تمت نوافلك وبر قسمك و صدق وعدك و حق على أعدائك وعيدك ولم يبقى لي حاجة هي لك رضآ و لي صلاح إلا قضيتها و أعنتني على قضائها يا أرحم الراحمين .
وبعـــــــد ..
فهذا بحث التخرج للسنة الرابعة بقسم الشريعة و أصول الدين في الكلية الأوروبية للدراسات الإسلامية و الذي أتناول فيه موضوع " التكفير أخطاره و ضوابطه " و الحقيقة التي تظهر لنا من عنوان البحث الذي نحن بصدده أنه موضوع بحثين في بحث واحد بمعنى أننا نستطيع أن نفرد أخطار التكفير في بحث مستقل عن ضوابط التكفير إلا أن ضيق الوقت و الذي يعتبر من المعوقات الأساسية لمن يعيش في ديار الغرب ثم قلة المصادر و المراجع التي سيعتمد عليها الطالب في إعداد مثل هذا البحث تعيقان مثل هذه المحاولة و لكن حسبي من هذا البحث أن أسلط الضوء على هذه الظاهرة الخطيرة – ظاهرة التكفير – التي استشرت في مجتمعنا العربي و الإسلامي والمجتمع الأوروبي كذلك فأسقطت عصمة المسلمين و استباحت دماءهم و أموالهم

مقدمــة :-
إن تكفير أي إنسان أو اتهامه بالفسق و الضلال و الانحراف أو النفاق فإن هذا يجرده عمليا من حقوقه الإنسانية و يعرضه للإهانة و القتل و الطرد من المجتمع , و إذا اتخذت عملية التكفير طابعا جماعيا- جماعة التكفير- و شملت جماعة أو طائفة فإنها تعرض المجتمع الإسلامي إلى الفرقة و الاختلاف , و إذا انهارت الرابطة الدينية فلا مجال لإن نستعيض عنها بأي شيء آخر .

وإدراكا من الإسلام لخطورة عملية التكفير فقد دعا إلى احترام هوية كل من يتشهد الشهادتين و يلتزم بأركان الدين وعدم التشكيك بإسلام من يعلن إسلامه حتى في ساحات القتال و تحت بريق السيوف , حيث قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ) (1)
و عندما حدثت الفتنة الأولى بين المسلمين و نشبت بينهم الحروب رفض سيدنا علي رضي الله عنه أن يتهم خصومه بالكفر و النفاق و قال: كما نقل بن كثير في البداية و النهاية (إخواننا بغوا علينا).
و مع ذلك فإن الأمة الإسلامية قديما و حديثا لم تسلم من داء التكفير, وقد تعرض الإمام علي رضي الله عنه نفسه إلى عملية التكفير من قبل الخوارج الذين رفضوا التحكيم بين علي و معاوية . و بالرغم من أن مأخذهم لم يكن يتعدى الاجتهاد السياسي إلا أنهم أضفوا عليه صفة الكفر و الإيمان , و ذهبوا إلى حد شق وحدة الأمة المسلمة و إعلان الحرب على المسلمين .
و منذ ذلك الحين استمرت ظاهرة التكفير في المجتمع الإسلامي , و كانت تنتشر و تستعر أحيانا و تتقلص و تخبو أحيانا أخرى , فبينما كانت الحروب الداخلية و الظروف الاقتصادية السيئة تؤججها , كانت أجواء السلام و الرخاء تطفئها و تقضي عليها .

و هذه الظاهرة - ظاهرة التكفير - في معظم الأحوال كانت تستند إلى تأويلات تعسفية و أقاويل و شواهد ضعيفة و فتاوى عاطفية و مواقف نفسية.

و إذا لم تكن عملية التكفير صارخة و صريحة أحيانا , فإنها كانت تقترب من ذلك أحيانا أخرى, حيث تنسب كل جهة إلى نفسها الصواب المطلق و الرشد التام و معرفة الإسلام الحق , في حين تتهم الطوائف الأخرى بالفسق و الضلال , و ذلك إستنادآ إلى تفسير خاطئ لحديث من أحاديث النبي صلى الله عليه و سلم و هو افتراق الأمة الإسلامية إلى ثلاث و سبعين أو أثنين و سبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة , مما كان ينعكس سلبا على علاقة كل فريق بالأخر , و يؤدي إلى تصور كل فرقة أنها هي الناجية الوحيدة فتعامل الآخرين و كأنهم من أهل النار .

و قد عرفت الحركة الإسلامية الحديثة منذ أواسط القرن الماضي حركات تكفير عديدة بداية من جماعة التكفير و الهجرة التي ظهرت في سجون مصر نتيجة التعذيب الشنيع الذي كانوا يتعرضون إليه و هذا التعذيب كان مبررا و دافعا لهم كي يكفروا المجتمع بأكمله و انتهاء بالمجموعات التكفيرية التي ظهرت أخيرا و التي كانت تتهم المجتمع الإسلامي بالجاهلية والردة والكفر لأنه يخضع لأنظمة لا تطبق الشريعة الإسلامية .
من هذه المنطلقات آنفة الذكر كان لزاما علينا علاج هذا الفكر المنحرف و المِعْوَج وذلك بالحوار و الإقناع و إقامة الحجة و الدليل.

سبب اختيار البحث :-

يعود سبب اختياري هذا البحث لعدة أمور :
أولها :-
أن هذه الفتنة العظيمة - فتنة التكفير - التي مزقت جسد الأمة الإسلامية هي أول البدع والفتن ظهورآ في الإسلام أي بمعنى أنها منبع لكثير من الانحرافات العقائدية و السلوكية و الخلقية و النفسية التي عانت منها الأمة المسلمة على مدى أربعة عشر قرنا

قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله في الفتاوى : " أول البدع ظهورا في الإسلام , أظهرها ذما في السنة و الأثر: بدعة الحرورية المارقة , فإن أولهم قال للنبي صلى الله عليه و سلم في وجهه : إعدل يا محمد ! فإنك لم تعدل , و الأحاديث عن النبي صلى الله عليه و سلم مستفيضة في وصفهم و ذمهم .

و قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى : ": صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه. و قد خرجها مسلم في صحيحه و خرج البخاري طائفة منها. قال النبي صلى الله عليه و سلم "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم, و صيامه مع صيامهم و قراءته مع قراءتهم, يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم, يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية –و في رواية- يقتلون أهل الإسلام و يدعون أهل الأوثان".

وثانيها:
أن ظاهر تمسكهم بالدين يوهم عموم الناس , و من لا فقه له بأنهم أحق الناس بالدين , و بالإسلام , و هم في الحقيقة على غير ذلك . ولذلك فهم يشتبهون على كثير من الناس . كما سئل على بن أبي طالب رضي الله عنه : أكفار هم ؟ قال من الكفر فروا. فقيل : فمنافقون هم ؟ قال : إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا , و هم يذكرون الله بكرة و أصيلا . قيل : من هم ؟ قال : قوم أصابتهم فتنة فعموا و صموا . (2)

و قال ابن عمر رضي الله عنهما : هم شرار الخلق , و قال : إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين. (3)

وثالثها :
أنهم فارقوا جماعة المسلمين و أئمتهم و ذلك بخروجهم عن السنة , و جعلهم ما ليس بسيئة سيئة أو ما ليس بحسنة حسنة , و هذا هو الذي أظهروه في وجه النبي صلى الله عليه و سلم حيث قال له ذو الخويصرة التميمي : إعدل فإنك لم تعدل , حتى قال له المصطفى عليه الصلاة و السلام ( و يلك ! و من يعدل إذا لم أعدل ؟ لقد حبت و خسرت إن لم أعدل ) . فقوله : فإنك لم تعدل جعل منه لفعل النبي صلى الله عليه و سلم سفهآ و ترك عدل , و قوله : أعدل أمر له لما أعتقده هو حسنة من القسمة التي لا تصلح , و هذا الوصف تشترك فيه البدع المخالفة للسنة , فقائلها لا بد أن يثبت ما نفته السنة , أو ينفي ما أثبتته السنة , و يحسن ما قبحته السنة , أو يقبح ما حسنت السنة .
و الخوارج جوزوا على النبي صلى الله عليه و سلم نفسه أن يجور و يضل في سنته , و لم يوجبوا طاعته و متابعته , و إنما صدقوه فيما بلغه من القرآن دون ما شرعه من السنة التي تخالف بزعمهم ظاهر القرآن.

ورابعها :
إستفحال و إنتشار هذه الظاهرة الشاذة و تسللها إلى مجتمعنا بفئاته و شرائحه المختلفة يحتم علينا أن تكون لنا وقفة مساهمة بكتابة مثل هذه البحوث التي تعالج مثل هذه القضايا الخطيرة و توضح لكل مسلم أنه يجب عليه ألا يتعجل في إطلاق تعابير التكفير و التفسيق على المعينين أو الجماعات حتى يتأكد من وجود جميع أسباب الحكم عليه بالكفر و انتفاء جميع موانع التكفير في حقه و هذا يجعل مسألة التكفير من مسائل الإجتهاد التي لا يحكم فيها بالكفر على شخص أو جماعة إلا العلماء الذين بلغوا مرتبة الإجتهاد لإن الحكم على المسلم بالكفر و هو لا يستحقه ذنب عظيم , لإنه حكم عليه بالخروج من ملة الإسلام , و أنه حلال الدم و المال , و حكم عليه بالخلود في النار إن مات على ذلك , و لذلك ورد الوعيد الشديد في شأن من يحكم على مسلم بالكفر , و هو ليس كذلك , و قد ثبت عند البخاري عن أبي ذر قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : " لا يرمي رجل رجلآ بالفسوق ولا يرمية بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم صاحبه كذلك " (4).

{ الباب الأول }:
( الفصل الأول ) :

التعريف اللغوي و الاصطلاحي للتكفير :-

الكفر في اللغة :
بمعنى الستر و التغطية , يقال لمن غطى ذرعه بالثوب : قد كفر درعه و يقال للمزارع : " كافرا " لأنه يغطي البذر بالتراب , و منه سمي الكفر الذي هو ضد الإيمان " كفرآ " لإن فيه تغطية للحق بجحد أو غيره , و قيل : سمي الكافر " كافرا " لأنه قد غطى قلبه بالكفر (5)

و الكفر في الإصطلاح :
يقول الشيخ بكر أبوزيد في كتابه درء الفتنة و الكفر في الإصطلاح هو إعتقادات و أقوال و أفعال جاء في الشرع ما يدل أن من وقع فيها ليس من المسلمين و قد حكى جمع من أهل العلم إجماع العلماء على أن الكفر يكون بمجرد القول أو الفعل .

( الفصل الثاني ) :

أصل ظاهرة التكفير و منشأها ( الخوارج ) :-

إن أصل هذه الظاهرة أساسا هم الخوارج و الخوارج في اللغة :
يقول الشهرستاني في كتابه الملل و النحل : الخوارج جمع خارج، وخارجي اسم مشتق من الخروج، وقد أطلق علماء اللغة كلمة الخوارج في آخر تعريفاتهم اللغوية في مادة ((خرج)) على هذه الطائفة من الناس؛ معللين ذلك بخروجهم عن الدين أو على الإمام علي، أو لخروجهم على الناس.
في الاصطلاح: اختلف العلماء في التعريف الاصطلاحي للخوارج، وحاصل ذلك:
منهم من عرفهم تعريفاً سياسياً عاماً، اعتبر الخروج على الإمام المتفق على إمامته الشرعية خروجاً في أي زمن كان.

قال الشهرستاني في كتابه الملل و النحل : ((كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجياً، سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين أو كان بعدهم على التابعين لهم بإحسان والأئمة في كل زمان)) .
ومنهم من خصهم بالطائفة الذين خرجوا على الإمام علي رضي الله عنه. قال الأشعري كما نقل الشهرستاني في الملل: ((والسبب الذي سُمّوا له خوارج؛ خروجهم على علي بن أبي طالب)).

زاد ابن حزم في كتابه الفصل في الملل و النحل ( بأن اسم الخارجي يلحق كل من أشبه الخارجين على الإمام عليّ أو شاركهم في آرائهم في أي زمن ).

إذن أصل ظاهرة التكفير هم الخوارج و الخوارج هم الفئة التي خرجت على الامام علي بن ابي طالب رضي الله عنه بعد أن كانت تحارب معه، و يغلب على هذه الفرقة الإنفعال والتطرف في السلوك، والتزّمت في الدين والتحجّر في الفكر، تكونت بعد معركة صفين، بسبب رفضها لنتيجة التحكيم، وأصبحت العبارة التي صاغها أحدهم ( لا حكم الا لله ) شعار هذه الطائفة، وكان تأسيسها في منتصف القرن الأول الهجري.

ـ لما طالت الحرب بين معاوية رضي الله عنه و علي رضي الله عنه في وقعة صفين وكاد النصر أن يتمَّ لجيش علي لولا رفع المصاحف من قبل أصحاب معاوية ودعوا أصحاب علي الى مافيها. مما ادى الى الاضطراب والفوضى في جيش علي، اضطر بعد ذلك علي رضي الله عنه على الرجوع من صفين الى الكوفة فلم تدخل معه الخوارج وأتوا حروراء فنزل منهم بها اثنا عشر الفا، وسموا حينذاك ( بالحرورية ) نسبة الى هذه القرية، ( وبالمحكمة ) أي الذين يقولون لاحكم الا لله ـ وهما اسمان كثيرا مايطلقان على الخوارج، وأمروا عليهم رجلا منهم اسمه عبد الله بن وهب الراسبي.

ـ عندما انطلت خدعة رفع المصاحف على جماعة من اصحاب علي رضي الله عنه ورفعهم شعار ( لا حكم الا لله ) قاتلهم الامام علي بن ابي طالب في النهروان مقاتلة شديدة، فما انفلت منهم الاّ أقل من عشرة، انهزم اثنان منهم الى عمان واثنان الى كرمان واثنان الى سجستان واثنان الى الجزيرة وواحد الى تل مورون في اليمن، وظهرت بدع الخوارج في هذه المواضع وبقيت الى اليوم.

وأول من بويع بالامامة من الخوارج عبد الله بن وهب الراسبي في منزل زيد بن حصين بايعه عبد الله بن الكواء، وعروة بن جرير، ويزيد بن عاصم المحاربي، وجماعة غيرهم.
ـ كان لرفع الشعار المستمد من القرآن الكريم ( لا حكم الا الله ) التأثير الخطير على استقطاب بسطاء الناس من خلال الايحاء بالتمسك بكتاب الله مع ان هذا الشعار. ـ كما عبر سيد نا علي بن ابي طالب ـ هو ( كلمة حق يراد بها باطل )، اضافة الى كثرة عبادة هؤلاء وتعمقهم في الدين حتى سُمّو المتعمقين، وقراءتهم القرآن اذ كانوا يسَمون بقراء القرآن.
ـ ذهبوا إلى القول بتكفير علي وعثمان والحكمين وأصحاب الجمل، وكل من رضي بتحكيم الحكمين.
ـ قالوا : إن مرتكب الكبيرة إذا مات ولم يتب فهو مخلد في النار وأما صغائر الذنوب فإن الإنسان اذا تاب منها فالله يغفرها له.
ويجوز عندهم أن يكون الأنبياء ـ قبل البعثة ـ من أهل الفسق والكفر كما يجوز على الأنبياء بعد بعثهم الكفر وارتكاب الصغائر والسهو والنسيان. ـ إباحة قتل أطفال المخالفين لأفكارهم ونسائهم.
ـ استحلوا دماء أهل العهد والذمة وأموالهم .
ـ قالوا : ان القرآن هو كلام الله المنزل على النبي بواسطة جبرائيل وانه مخلوق مثل بقية الأشياء.
ـ قالوا : ان كل خبر ورد عن النبي يخالف ظاهر الكتاب لا يعمل به، وان كل خبر لا يكون متواترا لا يجوز ان يتخذ دليلا (6) .

أسباب ظهور الخوارج :

إن عرض أسباب ظهور فرقة الخوارج في صدر الإسلام يقربنا من معرفة الأسباب الحقيقية التي أدت إلى ظهور امتداد هذه الفرقة متمثلة في جماعات التكفير الحديثة و من أهم أسباب ظهور فرقة الخوارج ما يلي :

1- النزاع حول الخلافة:
وربما يكون هذا هو أقوى الأسباب في خروجهم، فالخوارج لهم نظرة خاصة في الإمام معقدة وشديدة، والحكام القائمون في نظرهم لا يستحقون الخلافة، لعدم توفر شروط الخوارج القاسية فيهم، أضف إلى هذا عدم الاستقرار السياسي الذي شجعهم على الخروج، وإلى الحسد الذي كان كامناً في نفوسهم ضد قريش. إضافة إلى أنهم فسروا الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما بأنه نزاع حول الخلافة. ومن هنا استسهلوا الخروج على عليّ ومعاوية من بعده.


2- قضية التحكيم:
فقد أجبروا الإمام عليّ على قبول التحكيم، وحينما تم ذلك طلبوا منه أن يرجع عنه بل ويعلن إسلامه، فرد عليهم رداً عنيفاً.

وهناك من يقلل من شأن هذه القضية كعامل في ظهور الخوارج، ولا شك أن هذا خطأ، فقد كان التحكيم من الأسباب القوية في ظهورهم.

وقد رد بعض العلماء وشنع على من يقول من المؤرخين وكتاب الفرق، بأن كان في قضية التحكيم خداع ومكر، كالقاضي ابن العربي في كتابه العواصم من القواصم؛ حيث فصّل القول في هذا الأمر.

3- جور الحكام وظهور المنكرات:
هكذا كان الخوارج يرددون في خطبهم ومقالاتهم، أن الحكام ظلمة والمنكرات فاشية، والواقع أنهم حينما خرجوا فعلوا أضعاف ما كان موجودا من المظالم والمنكرات، حينما رأوا أن قتال المخالفين لهم قربة إلى الله تعالى، وأن الأئمة ابتداءً بالإمام علي –مع عدله وفضله- ثم بحكام الأمويين والعباسيين-كلهم ظلمة في نظرهم دون تحرٍّ أو تحقيق، مع أن إقامة العدل والنهي عن المنكرات يتم بغير تلك الطريقة التي ساروا عليها في استحلال دماء مخالفيهم حكاماً ومحكومين.

4- العصبية القبلية:
التي ماتت في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وزمن أبي بكر عمر رضوان الله عليهما. ثم قامت في عهد عثمان وما بعده قوية شرسة، وكانت قبل الإسلام بين ربيعة- وأكثر الخوارج منهم- وبين مضر قوية، وقد قال المأمون في إجابته لرجل من أهل الشام طلب منه الرفق بالخوارج: ((وأما ربيعة فساخطة على الله منذ بعث نبيه من مضر، ولم يخرج اثنان إلا خرج أحدهما شارياً)).

وهناك أسباب أخرى مثل العوامل الاقتصادية؛ كقصة ذي الخويصرة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وثورتهم الممقوتة على عثمان رضي الله عنه؛ حيث نهبوا بيت المال بعد قتله مباشرة، ونقمتهم على عليّ في معركة الجمل، ومنها كذلك الحماس الديني الذي مدحهم به بعض المستشرقون كجولد زيهر حينما ذكر أن تمسك الخوارج الشديد بالقرآن أدى بهم إلى الخروج على المجتمع، والمغالطة في قوله هذا واضحة، فإن التمسك بالقرآن لا يؤدي إلى الخروج على المجتمع و سفك دماء الأبرياء.

الحُكم على الخوارج :

اختلفت العلماء في الحكم على الخوارج إلى قولين:

(1) الحكم بتكفيرهم.
(2) الحكم عليهم بالفسق والابتداع والبغي.

وقد استند الذين كفروهم على ما ورد من أحاديث المروق المشهورة عند علماء الفرق؛ رادين الخوارج إلى سلفهم القديم ذي الخويصرة وموقفه الخاطئ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم موقف الخوارج أيضاً من الصحابة خصوصاً الإمام علياً وغيره ممن شارك في قضية التحكيم.

والأحاديث الواردة فيهم كثيرة غير أن بعض العلماء يرى أن هذه الأحاديث إنما تصدق –على فرض صحتها كما يذكر- على المرتدين في زمن أبي بكر رضي الله عنه.

وإذا كان بعض العلماء يتحرج عن تكفيرهم عموماً فإنه لا يتحرج عن تكفير بعض الفرق منهم، كالبدعية من الخوارج الذين قصروا الصلاة على ركعة في الصباح وركعة في المساء. والميمونية- حيث أجازوا نكاح بعض المحارم كبنات البنين وبنات البنات وبنات بني الأخوة، ثم زادوا فأنكروا أن تكون سورة يوسف من القرآن لاشتمالها –فيما يزعمون- على ذكر العشق والحب، والقرآن فيه الجد، وكذا اليزيدية منهم، حيث زعموا أن الله سيرسل رسولاً من العجم فينسخ بشريعته شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.

أما الرأي الثاني و الأرجح: وهو القول بعدم تكفير الخوارج؛ فأهل هذا الرأي يقولون: إن الاجتراء على إخراج أحد من الإسلام أمر غير هين، نظراً لكثرة النصوص التي تحذر من ذلك إلا من ظهر الكفر من قوله أو فعله فلا مانع حينئذ من تكفيره بعد إقامة الحجة عليه.

ولهذا أحجم كثير من العلماء أيضاً عن إطلاق هذا الحكم عليهم وهؤلاء اكتفوا بتفسيقهم، وأن حكم الإسلام يجري عليهم لقيامهم بأمر الدين- وأن لهم أخطاء وحسنات كغيرهم من الناس، ثم إن كثيراً من السلف لم يعاملوهم معاملة الكفار كما جرى لهم مع علي رضي الله عنه وعمر بن عبد العزيز؛ فلم تسبى ذريتهم وتغنم أموالهم.

قال الإمام ابن تيمية‏:‏ ‏"‏ ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله، ولا بخطأ أخطأ به، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة، فإن الله تعالى قال‏:‏ (‏آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ‏( (7) ‏، وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم‏.‏
والخوارج المارقون، الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -أحد الخلفاء الراشدين- واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي رضي الله عنه حتى سفكوا الدم الحرام، وانحازوا على أموال المسلمين، فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم، لا على أنهم كفار، ولهذا لم يسب حريمهم، ولم يغنم أموالهم‏.‏
وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا، مع أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بقتالهم، فكيف بطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم‏؟‏ فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن تكفر الأخرى، ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضا‏؟‏‏.‏
والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض، لا تحل إلا بإذن الله ورسوله‏.‏‏.‏ فقد أخرج البخاري رحمه الله عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في حجة الوداع قال‏:‏ ‏‏إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا وفي شهركم هذا‏‏، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏‏كل المسلم على المسلم حرام‏:‏ دمه وماله وعرضه‏‏‏.‏
وقال في نفس الحديث‏:‏ ‏‏لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض‏‏، وقال‏:‏ ‏‏إذا قال المسلم لأخيه يا كافر‏!‏ فقد باء بها أحدهما‏‏، ‏.‏
وإذا كان المسلم متأولا في القتال أو التكفير لم يُكفر بذلك، كما في الحديث الذي أخرجه البخاري عن علي رضي الله عنه أن عمر ابن الخطاب قال‏:‏ يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏‏إنه شهد بدرا، وما يدريك أن الله قد اطلع على أهل بدر، فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم‏‏‏؟‏ (8) ‏.‏
وكذلك ثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد أنه قتل رجلا بعد ما قال‏:‏ لا إله إلا الله، وعظم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لما أخبره، وقال‏:‏ ‏يا أسامة أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله‏؟‏ وكرر ذلك عليه حتى قال أسامة‏:‏ تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ، ومع هذا لم يوجب عليه قودا، ولا دية، ولا كفارة، لأن كان متأولا ، ظن جواز قتل ذلك القائل، لظنه أنه قالها تعوذا‏.‏ (9)
فهكذا السلف قاتل بعضهم بعضا من أهل الجمل وصفين ونحوهم ، وكلهم مسلمون مؤمنون، كما قال تعالى‏:‏ ‏}‏وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {‏ (10) فقد بين الله تعالى أنهم مع اقتتالهم، وبغي بعضهم على بعض أخوة مؤمنون، وأمر بالإصلاح بينهم بالعدل‏.‏
ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضا موالاة الدين، لا يعادون كمعاداة الكفار، فيقبل بعضهم شهادة بعض، ويأخذ بعضهم ا علم عن بعض، ويتوارثون ويتناكحون ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض، مع ما كان بينهم من القتال والتلاعن وغير ذلك‏.‏
وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ، سأل ربه‏:‏ ‏‏ألا يُهلك أمته بسنة عامة، فأعطاه ذلك، وسأله ألا سلط عليهم عدوا من غيرهم، فأعطاه ذلك، وسأله ألا يجعل بأسهم بينهم، فلم يُعطه ذلك‏‏‏.‏ وأخبر أن الله لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم يغلبهم كلهم حتى يكون بعضهم يقتل بعضا، وبعضهم يسبي بعضا‏.‏
وثبت في الصحيحين لما نزل قوله تعالى‏:‏ ‏(‏قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ )‏ (11) قال‏:‏ ‏أعوذ بوجهك (‏ْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ‏ ((12)قال‏: ‏أعوذ بوجهك(‏‏‏ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ) ‏ (13) وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏‏هاتان أهون‏‏‏.‏
هذا مع أن الله أمر بالجماعة والائتلاف، ونهى عن البدعة والاختلاف، وقال‏:‏ ‏(‏إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ )‏ (14) وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة‏ ‏، وقال‏:‏ ‏الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد‏.‏
ولعل الصحيح أن الذين حكموا على الخوارج بالكفر الصريح قد غلوا في تعميم الحكم عليهم، والذين حكموا عليهم بأنهم كغيرهم من فرق المسلمين أهل السنة قد تساهلوا، بل الأولى أن يقال في حق كل فرقة ما تستحقه من الحكم حسب قربها أو بعدها عن الدين.

وإطلاق ما أطلقته النصوص في الحكم العام، ويتوقف عن إطلاق التكفير المخرج من الملة على المعين إلا بعد إقامة الحجة عليه، أو إذا ظهر كفره من قوله أو فعله أو اعتقاده.


( الفصل الثالث ) : جماعات التكفير الحديثة :

التعريف :-
هي جماعات إسلامية غالية نهجت نهج الخوارج في التكفير بالمعصية ، نشأت داخل السجون المصرية في بادئ الأمر ، وبعد إطلاق سراح أفرادها ، تبلورت أفكارها ، وكثر أتباعها في صعيد مصر وبين طلبة الجامعات خاصة .

الأفكار و المعتقدات :-
- التكفير عنصر أساسي في أفكار ومعتقدات هذه الجماعة فهم يكفرون كل من أرتكب كبيرة وأصر عليها ولم يتب منها ، وكذلك يكفرون الحكام الذين لا يحكمون بما أنزل الله بإطلاق ودون تفصيل ، ويكفرون المحكومين لأنهم رضوا بذلك وتابعوهم أيضاً بإطلاق ودون تفصيل ، أما العلماء فيكفرونهم لأنهم لم يكفروا هؤلاء ولا أولئك ، كما يكفرون كل من عرضوا عليه فكرهم فلم يقبله أو قبله ولم ينضم إلى جماعتهم ويبايع إمامهم . أما من انضم إلى جماعتهم ثم تركها فهو مرتد حلال الدم ، وعلى ذلك فالجماعات الإسلامية إذا بلغتها دعوتهم ولم تبايع إمامهم فهي كافرة مارقة من الدين .
- وكل من أخذ بأقوال الأئمة بالإجماع حتى ولو كان إجماع الصحابة أو بالقياس أو بالمصلحة المرسلة أو بالاستحسان ونحوها فهو في نظرهم مشرك كافر .
- والعصور الإسلامية بعد القرن الرابع الهجري كلها عصور كفر وجاهلية لتقديسها لصنم التقليد المعبود من دون الله تعالى فعلى المسلم أن يعرف الأحكام بأدلتها ولا يجوز لديهم التقليد في أي أمر من أمور الدين .
- قول الصحابي وفعله ليس بحجة ولو كان من الخلفاء الراشدين .
· والهجرة هي العنصر الثاني في فكر الجماعة ، ويقصد بها العزلة عن المجتمع الجاهلي ، وعندهم أن كل المجتمعات الحالية مجتمعات جاهلية . والعزلة المعنية عندهم عزلة مكانية وعزلة شعورية ، بحيث تعيش الجماعة في بيئة تتحقق فيها الحياة الإسلامية الحقيقة - برأيهم - كما عاش الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام في الفترة المكية .
- يجب على المسلمين في هذه المرحلة الحالية من عهد الاستضعاف الإسلامي أن يمارسوا المفاضلة الشعورية لتقوية ولائهم للإسلام من خلال جماعة المسلمين - التكفير والهجرة - وفي الوقت ذاته عليهم أن يكفوا عن الجهاد حتى تكتسب القوة الكافية .
- لا قيمة عندهم للتاريخ الإسلامي لأن التاريخ هو أحسن القصص الوارد في القرآن الكريم فقط .
- لا قيمة أيضاَ لأقوال العلماء المحققين وأمهات كتب التفسير والعقائد لأن كبار علماء الأمة في القديم والحديث - بزعمهم - مرتدون عن الإسلام .
- قالوا بحجية الكتاب والسنة فقط ولكن كغيرهم من أصحاب البدع الذي اعتقدوا رأياً ثم حملوا ألفاظ القرآن عليه فما وافق أقوالهم من السنة قبلوه وما خالفها تحايلوا في رده أو رد دلالته .
- دعوا إلى الأمية لتأويلهم الخاطئ لحديث ( نحن أمة أمية …) فدعوا إلى ترك الكليات ومنع الانتساب للجامعات والمعاهد إسلامية أو غير إسلامية لأنها مؤسسات الطاغوت وتدخل ضمن مساجد الضرار .
- أطلقوا أن الدعوة لمحو الأمية دعوة يهودية لشغل الناس بعلوم الكفر عن تعلم الإسلام ، فما العلم إلا ما يتلقونه في حلقاتهم الخاصة .
- قالوا بترك صلاة الجمعة والجماعة بالمساجد لأن المساجد كلها ضرار وأئمتها كفار إلا أربعة مساجد : المسجد الحرام والمسجد النبوي وقباء والمسجد الأقصى ولا يصلون فيها أيضاً إلا إذا كان الإمام منهم .
- ادعى زعماء الجماعة أنهم بلغوا درجة الإمامة ، والاجتهاد المطلق ، وأن لهم أن يخالفوا الأمة كلها وما أجمعت عليه سلفاً وخلفاً .

أهم شخصياتهم :-
علي إسماعيل : كان إمام هذه الفئة من الشباب داخل المعتقل ، وهو أحد خريجي الأزهر ، وقد صاغ علي إسماعيل مبادئ العزلة والتكفير لدى الجماعة ضمن أطر شرعية حتى تبدو وكأنها أمور شرعية لها أدلتها من الكتاب والسنة ومن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم في الفترتين : المكية والمدنية ، متأثراً في ذلك بأفكار الخوارج ، إلا أنه رجع إلى رشده وأعلن براءته من تلك الأفكار التي كان ينادي بها .
ولقد إنتشرت هذه الجماعة في معظم محافظات مصر وفي منطقة الصعيد على الخصوص ، ولها وجود في بعض الدول العربية مثل اليمن والأردن والجزائر … وغيرها . (15)

إذن فجماعة التكفير هي جماعة غالية أحيت فكر الخوارج بتكفير كل من ارتكب كبيرة وأصر عليها وتكفير الحكام بإطلاق ودون تفصيل لأنهم لا يحكمون بشرع الله وتكفير المحكومين لرضاهم بهم بدون تفصيل وتكفر العلماء لعدم تكفيرهم أولئك الحكام . ولا يخفى مدى مخالفة أفكار ومنهج هذه الجماعة لمنهج أهل السنة والجماعة في مصادر التلقي والاستدلال وقضايا الكفر والإيمان وغير ذلك مما سبق بيانه .


( الفصل الرابع ) : أسباب ظاهرة التكفير الحديثة :-
إن أسباب ظهور ظاهرة التكفير الحديثة ، وفشوها وانتشارها عديدة، يكمن أهمها في:
1ـ الجهل الذريع، وربما الجهل المركب بهذه المسألة المهمة، في معرفة الكفر في موارد أدلة الوحي الشريف، والفرق بين الكفرين: الأكبر والأصغر، وحال أصحابهما من جهة اجتماع الشروط وانتفاء الموانع، والفرق بين الكفر المطلق والكفر المعيِّّن، والكفر الدنيوي والحكم لصاحبه بالخلود الأخروي بالنار.
2ـ اتباع الهوى، والأغراض النفسية في التكفير المخالف وذمه والقدح في عرضه بالكفر دون تبصّر بالعلم، وتورّع بالديانة.
3ـ اتباع المذاهب البدعية، والأقوال الشاذة، وتقليد الأصاغر في العلم والدين في إطلاق الكفر على الدول والمجتمعات والأفراد.
4ـ الاستهانة بمحارم الله وأحكام شرعه، وعدم الأخذ على يد المكابر والمعلن بقالة الكفر، وأطره على الحق أطراً بقوة البرهان والسلطان! إلى غير ذلك من الأسباب، مع الأخذ في الاعتبار أن كل سبب من هذه الأسباب يحتاج إلى بسط في العرض والتحليل وضرب الأمثلة والتدليل..إلخ.
5.إنتشار الكفر والردة الحقيقية جهرة في مجتمعاتنا الإسلامية، واستطالة أصحابها وتبجحهم بباطلهم، واستخدامهم أجهزة الإعلام وغيرها لنشر كفرياتهم على جماهير المسلمين دون أن يجدوا من يزجرهم أو يردهم عن ضلالهم وغيهم.
6. تساهل بعض العلماء في شأن هؤلاء الكفرة الحقيقيين وعدهم في زمرة المسلمين، والإسلام منهم براء.
7. إضطهاد حملة الفكر الإسلامي السليم، والدعوة الإسلامية الملتزمة بالقرآن والسنة، والتضييق عليهم في أنفسهم ودعوتهم. والاضطهاد والتضييق لأصحاب الفكر الحر، لا يولد إلا اتجاهات منحرفة، تعمل تحت الأرض، في جو مغلق بعيدا عن النور والحوار المفتوح.
8. قلة بضاعة هؤلاء الشبان الغيورين من فقه الإسلام وأصوله، وعدم تعمقهم في العلوم الإسلامية واللغوية . الأمر الذي جعلهم يأخذون ببعض النصوص دون بعض، أو يأخذون بالمتشابهات، وينسون المحكمات، أو يأخذون بالجزئيات ويغفلون القواعد الكلية، أو يفهمون بعض النصوص فهما سطحيا سريعا، إلى غير ذلك من الأمور اللازمة لمن يتصدر للفتوى في هذه الأمور الخطيرة، دون أهلية كافية. فالإخلاص وحده لا يكفي، ما لم يسنده فقه عميق لشريعة الله وأحكامه، وإلا وقع صاحبه فيما وقع فيه الخوارج من قبل، الذين صحت الأحاديث في ذمهم من عشرة أوجه، كما قال الإمام أحمد. هذا مع شدة حرصهم على العقيدة والتنسك.
ولهذا كان أئمة السلف يوصون بطلب العلم قبل التعبد والجهاد، حتى لا ينحرف عن طريق الله من حيث لا يدري.
وقد قال الحسن البصري: العامل على غير علم كالسالك على غير طريق، والعامل على غير علم، ما يفسد أكثر مما يصلح، فاطلبوا العلم طلبا لا يضر بالعبادة، واطلبوا العبادة طلبا لا يضر بالعلم، فإن قوما طلبوا العبادة وتركوا العلم، حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا. (16) .


( الفصل الخامس ) : في أنواع الكافرين وكفرهم:

لا يجوز لمسلم التحاشي عن تكفير من كفرهم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لِمَا فيه من تكذيبٍ لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ‏.‏
والكفار على صنفين ‏:‏
الصنف الأول ‏:‏ الكفار كفراً أصلياً ، وهم كل من لم يدخل في دين الله الذي بعث الله به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى والدهريين والوثنين وغيرهم من أمم الكفر الذين قال الله تعالى فيهم (قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ) ‏(17).
والذين قال الله فيهم ‏(لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ ) (18)
والذين قال الله فيهم (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ) ‏‏(19).
والذين قال الله فيهم ‏:‏ ‏(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا) (20).
وهؤلاء الكفار كفراً أصلياً لا يفرق في الحكم عليهم بالكفر ، سواء كانوا أفراداً أو جماعاتٍ ، أحياءً وأمواتاً كما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة ‏.‏
وهؤلاء يجب على المسلمين قتالهم متى استطاعوا حتى يدخلوا في الإسلام أو يدفعوا الجزية ‏.‏
الصنف الثاني ‏:‏ المسلم الذي يرتد بعد إسلامه بارتكاب ناقض من نواقض الإسلام ، ومن أمثلة ذلك في القرآن العظيم ‏:‏
كفر التكذيب ‏:‏ كما قال تعالى ‏:‏ ‏(وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) ‏‏(21).
ومثل كفر ‏:‏ المستهزئين بالله ، ورسوله ، ودينه ، الذين قال الله فيهم ‏(وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ) ‏ (22).
ومثل كفر ‏:‏ من سب الله ورسوله ودينه ، فان السب ينافي التعظيم الواجب لله ولرسوله ولدينه وشرعه ، قال الله تعالى ‏(ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ )‏ (23).
ومثل كفر ‏:‏ الإباء والاستكبار والامتناع عن طاعة الله تعالى كما قال سبحانه عن إبليس ‏:‏ ‏(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) ‏ (24).
وهذا النوع هو الغالب على كفر أعداء الرسل ‏.‏
ومثل كفر ‏:‏ الإعراض عن دين الله تعالى كما قال وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ )‏ ‏ (25).
ومثل الكفربالقول كما قال تعالى(وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ ) (26)
وكما قال سبحانه : (يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ )‏ ‏.‏ إذ قالوا ‏:‏(يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ) (28).
ومنه قول المنافقين في غزوة تبوك ‏:‏ ‏(‏ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء- يعنون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم- أرغب بطونا، وأكذب ألسنا ، وأجبن عند اللقاء ‏.‏
ومثل الكفر ‏:‏ بالعمل كما قال الله تعالى قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) (29) ‏.‏ فالسجود لغير الله والذبح لغير الله ، شرك وكفر بالله ‏.‏
ومن الكفر العملي ‏:‏ السحر كما قال الله تعالى لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) (30).
وذلك لما فيه من استخدام الشياطين والتعلق بهم ودعوى علم الغيب ودعوى مشاركة الله في ذلك قال الله تعالى: ( ‏وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَق)ٍ ‏(‏31)
ولأن السحر شرك وكفر أدخله العلماء المصنفون في ‏:‏ ‏(‏التوحيد وأبوابه‏)‏ في أنواع الشرك ، للتحذير منه ، وبيان أنه من نواقض التوحيد ‏.‏
ومثل الكفر ‏:‏ بالاعتقاد والشك ، كما قال الله تعالى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) ‏.‏وقال سبحانه إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ‏(32) .
وقال عَزَّ من قائل : (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ‏ (33).
فكل هؤلاء قد كفرهم الله ورسوله بعد إيمانهم بأقوال وأفعال صدرت منهم ولو لم يعتقدوها بقلوبهم ‏.‏ لا كما يقول المرجئة المنحرفون ، نعوذ بالله من ذلك ‏.‏
مع العلم أن الحكم بكفر المعين المتلبس بشيء من هذه النواقض المذكورة موقوف على توافر الشروط وانتفاء الموانع في حقه كما هو معلوم ‏.‏


{ الباب الثاني } :
( الفصل الأول ) : قواعد في التكفير :-
القاعدة الأولى :
أن الإنسان يدخل الإسلام بالشهادتين:
شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فمن أقر بالشهادتين بلسانه فقد دخل في الإسلام، وأجريت عليه أحكام المسلمين، وإن كان كافرا بقلبه، لأنا أمرنا أن نحكم بالظاهر، وأن نكل إلى الله السرائر. والدليل على ذلك:
1. أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الإسلام ممن أقر بالشهادتين، ولا ينتظر حتى يأتي وقت الصلاة، أو حول الزكاة، أو شهر رمضان… مثلا. حتى يؤدي هذه الفرائض، ثم يحكم له بالإسلام. ويكتفي منه بالإيمان بها، وألا يظهر منه إنكارها.
2. حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما عند البخاري وغيره: أنه قتل رجلا شهر عليه السيف فقال: (لا إله إلا الله) فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم أشد الإنكار، وقال: أقتلته بعدما قال: (لا إله إلا الله)؟ فقال: إنما قالها تعوذا من السيف؟ فقال: هلا شققت عن قلبه؟! وفي بعض الروايات: كيف لك بـ (لا إله إلا الله) يوم القيامة؟ (34)
3. حديث أبي هريرة: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله) (35) متفق عليه.
وفي رواية لمسلم: حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وما جئت به.
وفي البخاري عن أنس مرفوعا: حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله.
والمراد بـ "الناس" في الحديث مشركو العرب. كما قال العلماء، وكما فسره أنس في حديثه، لأن أهل الكتاب يقبل منهم الجزية بنص القرآن.
والشاهد هنا: إنهم إذا قالوا لا إله إلا الله، دخلوا بها في الإسلام، بدليل عصمة دمائهم وأموالهم، لأن العصمة إما بالإسلام أو بالعهد والذمة، ولا عهد ولا ذمة هنا، فلم يبق إلا الإسلام.
وقد صح هذا الحديث عن عدد من الصحابة بألفاظ متقاربة. ولهذا قال الحافظ السيوطي في "الجامع الصغير": هو حديث متواتر. قال شارحه المناوي: لأنه رواه خمسة عشر صحابيا.
وقد روى سفيان بن عيينة –أحد أئمة الحديث في زمنه- أنه قال: كان هذا في أول الإسلام قبل فرض الصلاة والصيام والزكاة والهجرة.
وعقب العلامة ابن رجب الحنبلي في كتابه على هذا بقوله: وهذا ضعيف جدا، وفي صحته عن سفيان نظر. فإن رواة هذه الأحاديث إنما صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وبعضهم تأخر إسلامه. (36) جامع العلوم و الحكم
ثم قوله: عصموا مني دماءهم وأموالهم، يدل على أنه كان عند هذا القول مأمورا بالقتال، وهذا كله بعد هجرته إلى المدينة.
قال: ومن المعلوم بالضرورة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل من كل من جاء يريد الدخول في الإسلام، الشهادتين فقط، ويعصم دمه بذلك، ويجعله مسلما. فقد أنكر على أسامة بن زيد قتله لمن قال: "لا إله إلا الله" لما رفع عليه السيف، واشتد نكيره عليه، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يشترط على من جاءه يريد الإسلام أن يلتزم الصلاة والزكاة، بل قد روى أنه قبل من قوم الإسلام واشترطوا ألا يزكوا.
ففي مسند الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: اشترطت ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن لا صدقة عليهم ولا جهاد، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سيتصدقون، ويجاهدون.
وفيه أيضا عن نصر بن عاصم الليثي عن رجل منهم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم على أن لا يصلي إلا صلاتين، فقبل منه.
قال ابن رجب: وأخذ الإمام أحمد بهذه الأحاديث وقال: يصح الإسلام على الشرط الفاسد، ثم يلزم بشرائع الإسلام كلها.
واستدلوا أيضا بأن حكيم بن حزام قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا أخر إلا قائما.
قال أحمد: معناه أن يسجد من غير ركوع اهـ. كلام ابن رجب والذي يهمنا من هذه النقول أمران:
الأول: أن الدخول في الإسلام إنما يكون بالشهادتين، وإذا اقتصر في بعض الأحاديث على شهادة التوحيد، فهو إما من باب الاكتفاء أو الاختصار من بعض الرواة. وإما لأن مشركي العرب المقصودين بكلمة "الناس" في الحديث، لم يكونوا ليقروا بشهادة التوحيد إلا إذا شهدوا لمن جاء بها، ودعا إليها، وهو محمد رسول الله.
ولهذا جاء عن بعض السلف: الإسلام الكلمة. يعني: كلمة الشهادة.
وأما الصلاة والصيام وسائر شرائع الإسلام وفرائضه فإنما يطالب بها بعد أن يصبح مسلما إذ هي لا تصح ولا تقبل إلا من مسلم. أما الكافر فلا صلاة له ولا صيام ولا حج… الخ… لفقدانه شرط القبول… وهو الإسلام.
والثاني: ما دلت عليه الأحاديث الأخيرة التي ذكرها ابن رجب، والتي رواها إمام السنة أحمد بن حنبل من المرونة وسعة الأفق، التي كان يعالج بها النبي صلى الله عليه وسلم الأمور، ويواجه بها المواقف. وخصوصا مع الداخلين في الإسلام.
فقد قبل من بعضهم ما رفضه من غيرهم. فقد جاء عن بشير بن الخصاصية أنه أراد أن يبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام دون أن يتصدق أو يجاهد، فكف يده عنه وقال: يا بشير، لا جهاد ولا صدقة! فبم تدخل الجنة إذن؟!
ولكنه قبل هذا من ثقيف، لعلمه بأنهم لن يجمدوا على هذا الموقف، وأنهم إذا حسن إسلامهم سيصنعون ما يصنع سائر المسلمين، ولهذا قال في ثقة عنهم: سيتصدقون ويجاهدون.

القاعدة الثانية:
من مات على التوحيد استوجب الجنة:
أن من مات على التوحيد (أي على: لا إله إلا الله) استحق عند الله أمرين:
الأول: النجاة من الخلود في النار، وإن اقترف من المعاصي ما اقترف، سواء منها ما يتعلق بحقوق الله كالزنا، أو بحقوق العباد كالسرقة. وإن دخل بذنوبه النار فسيخرج منها لا محالة، مادام في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان.
الثاني: دخول الجنة لا محالة، وإن تأخر دخوله، فلم يدخلها مع السابقين: بسبب عذابه في النار لمعاص لم يتب منها، ولم تكفر عنه بسبب من الأسباب:
والدليل على ذلك أحاديث صحاح مشهورة في الصحيحين وغيرهما من دواوين السنة منها: عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من شهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من عمل).
وعن أبي ذر قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة).
(إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله) أي لم يقلها لمجرد أن يعصم بها دمه وماله كالمنافقين في عهد النبوة.
وعن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج من النار من قال: (لا إله إلا الله) وكان في قلبه من الخير ما يزن برة (يعني حبة قمح)).
وهذه الأحاديث كلها متفق عليها في الصحيحين.
وفي الصحيحين أيضا من حديث أبي ذر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني جبريل فبشرني: أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق).
وفي صحيح مسلم من حديث الصنابحي عن عبادة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، حرم الله عليه النار).
وغير هذه الأحاديث كثير، ودلالتها صريحة على أن كلمة الشهادة موجبة لدخول الجنة والنجاة من النار. والمراد بدخول الجنة: دخولها ولو في النهاية، بعد استحقاق العذاب في النار زمنا ما. وكذلك المراد بالنجاة من النار: النجاة من الخلود فيها. وإنما قلنا هذا، جمعا بين هذه الأحاديث وأحاديث أخرى حرمت الجنة، وأوجبت النار على من ارتكب بعض المعاصي.. فلا يجوز أن نضرب النصوص بعضها ببعض.

القاعدة الثالثة:
أن الإنسان بعد أن يدخل في الإسلام بالإقرار بالشهادتين، يصبح –بمقتضى إسلامه- ملتزما بجميع أحكام الإسلام، والالتزام يعني الإيمان بعدالتها وقدسيتها، ووجوب الخضوع والتسليم لها، والعمل بموجبها. أعني الأحكام النصية الصريحة الثابتة بالكتاب والسنة.
فليس لها خيار تجاهها بحيث يقبل أو يرفض، ويأخذ أو يدع، بل لابد أن ينقاد لها مسلما راضيا، محلا حلالها، محرما حرامها، معتقدا بوجوب ما أوجبت، واستحباب ما أحبت.
يقول تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)، (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا: سمعنا وأطعنا)، (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما).
ومن المهم أن نعرف هنا، أن من أحكام الإسلام من الواجبات والمحرمات والعقوبات وغيرها من التشريعات، ما ثبت ثبوتا قطعيا، وأصبح من الأحكام اليقينية، التي لا يتطرق إليها ريب ولا شبهة، أنها من دين الله وشرعه، وهي التي يطلق عليها علماء الإسلام اسم "المعلوم من الدين بالضرورة".
وعلامتها أن الخاصة والعامة يعرفونها، ولا يحتاج إثباتها إلى نظر واستدلال، وذلك مثل فرضية الصلاة والزكاة وغيرها من أركان الإسلام وحرمة القتل والزنا وأكل الربا وشرب الخمر ونحوها من الكبائر، ومثل الأحكام القطعية في الزواج والطلاق والميراث والحدود والقصاص وما شابهها.
فمن أنكر شيئا من هذه الأحكام "المعلومة من الدين بالضرورة" أو استخف بها واستهزأ فقد كفر كفرا صريحا، وحكم عليه بالردة عن الإسلام. وذلك أن هذه الأحكام نطقت بها الآيات الصريحة، وتواترت بها الأحاديث الصحيحة، وأجمعت عليها الأمة جيلا بعد جيل، فمن كذب بها فقد كذب نص القرآن والسنة. وهذا كفر.
ولم يستثن من ذلك إلا من كان حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة عن أمصار المسلمين، ومظان العلم، فهذا يعذر إذا أنكر هذه الضروريات الدينية، حتى يعلم ويفقه في دين الله، فيجري عليه بعد ذلك ما يجري على سائر المسلمين.

القاعدة الرابعة:
كبائر المعاصي تنقص الإيمان ولكنها لا تهدمه:
أي أن المعاصي والكبائر –وإن أصر عليها صاحبها ولم يتب منها- تخدش الإيمان وتنقصه، ولكنها لا تنقضه من أساسه، ولا تنفيه بالكلية. والدليل على ذلك ما يأتي:
1. إنها لو كانت تهدم الإيمان من أصله، وتخرج صاحبها إلى الكفر المطلق، لكانت المعصية والردة شيئا واحدا، وكان العاصي مرتدا، ووجب أن يعاقب عقوبة المرتد، ولم تتنوع عقوبات الزاني والسارق وقاطع الطريق وشارب الخمر والقاتل. وهذا مرفوض بالنص والإجماع.
2. إن القرآن نص على أخوة القاتل لأولياء المقتول في آية القصاص حين قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ). (178 البقرة)
3. إن القرآن أثبت الإيمان للطائفتين المقتتلتين في قوله تعالى: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ …-إلى أن قال- … إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (الحجرات الآية 8) فأثبت لهم الإيمان والأخوة الدينية مع وجود الاقتتال، ومع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم وجوه بعض)، وقوله: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) صحيح البخاري (38) وبهذا الحديث الأخير استدل البخاري –فيما استدل- بأن المعاصي لا يكفر صاحبها، لأن الرسول سماهما مسلمين مع توعدهما بالنار.
والمراد: إذا كان الاقتتال بغير تأويل سائغ.
4. إن حاطب بن أبي بلتعة ارتكب خطيئة تشبه ما يسمى الآن "الخيانة العظمى" حيث أراد نقل أخبار الرسول وتحركات جيشه إلى قريش قبيل فتح مكة، مع حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على كتمان ذلك عنهم. وقال له عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنقه فقد نافق. واعتذر الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل بدر، ولم يعتبر عمله ناقلا له من الإيمان إلى الكفر. ونزل القرآن يؤكد ذلك حيث نزل في شأنه أول سورة الممتحنة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ ) الممتحنة الآية 1 (39)–إلى أن قال- (تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ ).
فخاطبه الله فيمن خاطب بعنوان الإيمان، وجعل عدوه سبحانه وعدوهم واحدا، مع قوله: (تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ ).
5. وقريب من ذلك ما نزل في شأن الذين قذفوا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ومنهم مسطح بن أثاثة، وكان من أهل بدر. وكان أبو بكر حلف ألا يصله، فأنزل الله في شأنه (وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ). (40)

6. ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة في قصة شارب الخمر، الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بضربه فضربوه، فلما انصرف، قال بعض القوم: أخزاك الله. فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان) وفي رواية أخرى للبخاري: (لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم) وفي سنن أبي داود في هذه القصة زيادة: (ولكن قولوا: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه).
فهذه هي النظرة المحمدية المتسامحة إلى شارب أم الخبائث، فهو يأمر بضربه، ولكنه لا يرضى بلعنه وطرده من رحمة الله، ولا إخراجه من نطاق المؤمنين، بل يثبت الأخوة بينه وبينهم، وينهاهم أن يفتحوا ثغرة للشيطان إلى قلبه إذا سبوه وأذلوه علانية، بل يأمرهم أن يدعوا له بالمغفرة والرحمة، ويشعروه بالأخوة والمحبة، والحرص على هدايته، فعسى أن يرده ذلك عن غوايته.
7. وأكثر من ذلك ما رواه البخاري أيضا عن عمر بن الخطاب: أن رجلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كان اسمه عبدالله وكان يلقب (حمارا) وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتى به يوما، فأمر به فجلد. فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنوه فوالله ما علمت أنه لا يحب الله ورسوله) وفي بعض روايات الحديث: (لقد علمت أنه يحب الله ورسوله) وفي بعضها (ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله).
فهذا مع إدمانه الشرب، وإصراره عليه، وإنكاره منه، حتى نقل ابن حجر في الفتح عن ابن عبد البر أنه ضرب خمسين مرة، ينهى النبي عن لعنه، ويقرر أنه يحب الله ورسوله.

يقول الحافظ بن حجر في بيان فوائد هذا الحديث في "الفتح":
( أ ) فيه الرد على من زعم أن مرتكب الكبيرة كافر، لثبوت النهي عن لعنه، والأمر بالدعاء له.
(ب) وفيه أن لا تنافي بين ارتكاب النهي وثبوت محبة الله ورسوله في قلب المرتكب، لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن المذكور يحب الله ورسوله، مع وجود ما صدر عنه.
(جـ) وأن من تكررت منه المعصية لا تنزع منه محبة الله ورسوله.
(د)ويؤخذ منه تأكيد ما تقدم أن نفي الإيمان –عن شارب الخمر- (أي في حديث: لا يشرب الخمر وهو مؤمن)- لا يراد به زواله بالكلية، بل نفي كماله. اهـ (41) من فتح الباري.
8. الأحاديث السابقة التي أوجبت لمن قال: "لا إله إلا الله" الجنة وإن زنى وإن سرق.
9. ما صح واستفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيشفع لأهل الكبائر من أمته.
وهذا يدل على حكمين كبيرين:
أولهما: أنه لم يخرجهم باقتراف الكبيرة عن حظيرة أمته.
ثانيهما: أن الله سيرحمهم بهذه الشفاعة، إما بإعفائهم من دخول النار أصلا، وإن استوجبوها بذنوبهم. وإما بإخراجهم منها بعد أن دخلوها وعذبوا فيها زمنا فهم غير مخلدين في النار قطعا.

القاعدة الخامسة:
ما عدا الشرك تحت إمكان المغفرة:
وهي تأكيد للقاعدة السابقة –أن الذنب الذي لا يغفر هو الشرك بالله تعالى، وما عداه من الذنوب –صغرت أو كبرت- فهو في مشيئة الله تعالى، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه.
قال تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا ). (42)
والمراد بالشرك في الآية وأمثالها: الشرك الأكبر، وهو اتخاذ إله أو آلهة مع الله تعالى وهو المراد بهذا اللفظ عند الإطلاق.
ومثله الكفر الأكبر: كفر الجحود والإنكار.
قال الحافظ ابن حجر: لأن من جحد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم مثلا، كان كافرا ولو لم يجعل مع الله إلها آخر، والمغفرة منتفية عنه بلا خلاف أما المعاصي الأخرى دون الكفر أو الشرك، فهي تحت سلطان المشيئة الإلهية. من شاء غفر له، ومن شاء عاقبه، كما ذكرت الآيتان السابقتان (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ).
قال الإمام ابن تيمية: ولا يجوز أن يحمل هذا على التائب، بأن التائب لا فرق في حقه بين الشرك وغيره كما قال سبحانه في الآية الأخرى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعا). فهنا عمم وأطلق، لأن المراد به التائب، وهناك خص وعلق. (43) (مجموع فتوى شيخ الإسلام ج7 ص484-485)
وقد جاء الحديث الصحيح يؤيد مضمون الآية الكريمة في أن ما عدا الشرك من المعاصي موكول إلى المشيئة الإلهية.
ففي حديث عبادة بن الصامت عند البخاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وحوله عصابة من أصحابه: (بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف. فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله، فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه).
والحديث واضح الدلالة على أن ارتكاب الموبقات التي اشتملت البيعة على اجتنابها لا يخرج صاحبها من الإسلام، بل من عوقب عليها كانت العقوبة طهارة وكفارة له، وإلا فهو في المشيئة.
يقول العلامة المازري: في الحديث رد على الخوارج الذين يكفرون بالذنوب، ورد على المعتزلة الذين يوجبون تعذيب الفاسق إذا مات بلا توبة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه تحت المشيئة ولم يقل: لابد أن يعذبه.
وقال الطيبي: "فيه الإشارة إلى الكف على الشهادة بالنار على أحد إلا من ورد النص فيه بعينه". (44)

القاعدة السادسة:
انقسام الكفر الوارد في النصوص إلى أكبر وأصغر:
أن الكفر في لغة القرآن والسنة، قد يراد به الكفر الأكبر، وهو الذي يخرج الإنسان من الملة، بالنسبة لأحكام الدنيا، ويوجب له الخلود في النار بالنسبة لأحكام الآخرة.
وقد يراد به الكفر الأصغر، وهو الذي يوجب لصاحبه الوعيد دون الخلود في النار، ولا ينقل صاحبه من ملة الإسلام. إنما يدمغه بالفسوق أو العصيان.
فالكفر بالمعنى الأول، هو الإنكار أو الجحود المتعمد لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أو بعض ما جاء به، مما علم من دينه بالضرورة.
والكفر بالمعنى الثاني، يشمل المعاصي التي يخالف بها أمر الله تعالى، أو يرتكب بها ما نهى عنه. وفيه جاءت أحاديث كثيرة، مثل: (من حلف بغير الله فقد كفر) أو (فقد أشرك)، (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، (لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)، (لا ترغبوا عن آبائكم فإن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم)، (من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما).
وإنما قلنا: إن الكفر الوارد في هذه النصوص وأمثالها ليس كفرا ناقلا عن الملة، لأدلة أخرى. فقد تقاتل الصحابة، ولم يكفر بعضهم بعضا بذلك.
والمنقول عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يقينا: إنه لم يكفر من قاتله في معركة الجمل، أو صفين، وإنما اعتبرهم بغاة. وقد صح الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمار: تقتلك الفئة الباغية… كما صح الحديث في الخوارج أنهم (تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق) وقد قاتلهم علي رضي الله عنه ومن معه.
كما أثبت القرآن إيمان الطائفتين المقتتلتين (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ) وكما أثبت الأخوة الدينية بينهم (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
ومثل ذلك، حديث: (من قال لأخيه يا كافر) فقد أثبت الأخوة بينهما، وهي لا تثبت بين مسلم وكافر، فدل ذلك على أنه لم يخرج من دائرة الإسلام بقوله.
ومثل ذلك قوله: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) أو (من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقوله فقد كفر بما أنزل الله على محمد) ونحوها. فلم يعتبره أحد من علماء المسلمين طوال القرون الماضية كفرا مخرجا من الملة، وردة عن الإسلام.
ومازال الناس في مختلف الأزمنة يحلفون بغير الله، ويصدقون العرافين والكهان، فينكر أهل العلم والدين عليهم ويضللونهم أو يفسقونهم، ولكن لم يحكموا بردتهم، ولا فرقوا بينهم وبين نسائهم، ولا أمروا بعدم الصلاة عليهم عند موتهم، أو بعدم دفنهم في مقابر المسلمين. وقد جاء في الحديث المرفوع: أن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة.
ولهذا ذكر ابن القيم عددا من الأحاديث التي أطلقت الكفر على بعض المعاصي ثم قال:
"والقصد: أن المعاصي كلها من نوع الكفر الأصغر، فإنها ضد الشكر، الذي هو العمل بالطاعة، فالسعي إما شكر وإما كفر، وإما ثالث لا من هذا ولا من هذا". (45) (مدارج السالكين ج1ص355
فالكفر بالمعنى الأول –أعني الكفر الأكبر- يقابله الإيمان. يقال: مؤمن وكافر. كما في مثل قوله تعالى: (فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ ) البقرة 252 وقوله تعالى: (اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) البقرة 257، (كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ) آل عمران 86.
أما الكفر بالمعنى الثاني – الكفر الأصغر- فيقابله: الشكر، فالإنسان إما شاكر للنعمة، أو كافر بها، غير قائم بحقها، وإن لم يكفر بمنعها. قال تعالى في وصف الإنسان: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا )الآية 2 سورة الإنسان (46) وقال: (وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) النمل الآية 40.
وجاء في صحيح البخاري حديث ذكر فيه سبب دخول النساء النار: إنهن يكفرن! قيل: يا رسول الله: يكفرن بالله؟ قال: (يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان).
ولهذا لما نقل الحافظ ابن حجر عن القرطبي قوله: حيث جاء الكفر في لسان الشارع فهو جحد المعلوم من دين الإسلام بالضرورة الشرعية.
عقب عليه بقوله: وقد ورد الكفر في الشرع بمعنى جحد النعم، وترك شكر المنعم، والقيام بحقه، كما تقدم تقريره في كتاب "الإيمان" في باب "كفر دون كفر" في حديث أبي سعيد "يكفرن الإحسان…الخ" . (47) (فتح الباري ج13 ص75)
وذلك أن الإمام البخاري رضي الله عنه وضع في كتاب الإيمان عدة أبواب للرد على الخوارج الذين يكفرون المسلمين باقتراف الكبائر. منها: باب "كفران العشير، وكفر دون كفر"
وعبارة "كفر دون كفر" هذه وردت عن ابن عباس وبعض التابعين في تفسير قوله تعالى: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)المائدة الآية 44.
وهذا يدلنا على أن تقسيم الكفر إلى درجات متفاوتة بين أكبر وأصغر، تقسيم مأثور عن سلف الأمة.
وهذا التقسيم نفسه يجري في الشرك وفي النفاق وفي الفسق وفي الظلم. فكل منها ينقسم إلى الأكبر الذي يوجب التخليد في النار، والأصغر الذي لا يوجب ذلك، ولا ينقل عن الملة.
وقد ذكر البخاري في صحيحه"باب: ظلم دون ظلم" واستدل بحديث ابن مسعود لما نزلت آية الأنعام (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم، أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) قال الصحابة: يا رسول الله، وأينا لم يظلم نفسه؟ قال: ليس كما تقولون: لم يلبسوا إيمانهم بظلم: بشرك. أو لم تسمعوا قوله تعالى: ( إن الشرك لظلم عظيم).
ووجه الدلالة من الحديث على ما أراده البخاري: أن الصحابة فهموا من قوله "بظلم" عموم أنواع المعاصي، ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وإنما بين لهم أن المراد: أعظم أنواع الظلم وهو الشرك، فدل على أن الظلم مراتب متفاوتة. (48) (فتح الباري ج1 ص94-95 ط الحلبي)

القاعدة السابعة:
اجتماع بعض شعب الإيمان مع شعب الكفر أو النفاق أو الجاهلية:
أن الإيمان قد يجامع شعبة أو أكثر للكفر أو الجاهلية أو النفاق.
وهذه الحقيقة قد خفيت على كثيرين في القديم والحديث، فحسبوا أن المرء إما أن يكون مؤمنا خالصا أو كافرا خالصا، ولا واسطة بينهما، إما مخلصا محضا أو منافقا محضا. وقريب منه من يقول: إما مسلم محض أو جاهلي. ولا ثالث لهذين الصنفين.
وهذه طريقة كثير من الناس. حيث يركزون النظر على الأطراف المتقابلة دون الالتفات إلى الأوساط. فالشيء عندهم إما أبيض فقط أو أسود فقط، ناسين أن هناك من الألوان ما ليس بأبيض ولا بأسود خالص، بل بين بين.
ولا عجب أن نجد فئة من الناس، إذا وجدت فردا أو مجتمعا لا يتحقق فيه صفات الإيمان الكامل، بل توجد فيه بعض الخصائص النفاق، أو شعب الكفر، أو أخلاق الجاهلية، سارعت إلى الحكم عليه بالكفر المطلق، أو النفاق الأكبر، أو الجاهلية المكفرة، لاعتقادهم أن الإيمان لا يجامع شيئا من الكفر أو النفاق بحال. وأن الإسلام والجاهلية ضدان لا يجتمعان.
وهذا صحيح إذا نظرنا إلى الإيمان المطلق (أي الكامل) والكفر المطلق، وكذلك الإسلام والجاهلية والنفاق.
أما مطلق إيمان وكفر، أو مطلق إيمان ونفاق، أو مطلق إسلام وجاهلية، فقد يجتمعان كما دلت على ذلك (النصوص) وأقوال السلف رضي الله عنهم.
ففي الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر رضي الله عنه: (إنك امرؤ فيك جاهلية!) وهذا وهو أبو ذر في سابقته وصدقه وجهاده.
وفيه: (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق).
وروى أبو داود عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (القلوب أربعة: قلب أغلف، فذلك قلب الكافر، وقلب مصفح وذلك قلب المنافق، وقلب أجرد، فيه سراج يزهو، فذلك قلب المؤمن، وقلب فيه إيمان ونفاق، فمثل الإيمان فيه كمثل شجرة يمدها ماء طيب، ومثل النفاق مثل قرحة يمدها قيح ودم، فأيهما غلب عليه غلب). وقد روى مرفوعا، وهو في مسند أحمد مرفوعا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا الذي قاله حذيفة يدل عليه قوله تعالى: (هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان) فقد كان قبل ذلك فيهم نفاق مغلوب، فلما كان يوم أحد، غلب نفاقهم، فصاروا إلى الكفر أقرب.
وروى عبد الله بن المبارك بسنده عن علي بن أبي طالب قال إن الإيمان يبدو لمظة بيضاء في القلب، فكلما ازداد العبد إيمانًا ازداد القلب بياضًا، حتى إذا استكمل الإيمان ابيض القلب كله.وإن النفاق يبدو لمظة سوداء في القلب، فكلما ازداد العبد نفاقا ازداد القلب سوادا، حتى إذا استكمل العبد النفاق اسود القلب. وآيم الله لو شققتم عن قلب المؤمن لوجدتموه أبيض، ولو شققتم عن قلب الكافر لوجدتموه أسود). وقال ابن مسعود: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل.
قال شيخ الإسلام: وهذا كثير في كلام السلف: يبينون أن القلب قد يكون فيه إيمان ونفاق.
والكتاب والسنة يدلان على ذلك. فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر شعب الإيمان وذكر شعب النفاق، وقال: (من كانت فيه شعبة منهن كانت فيه شعبة من النفاق حتى يدعها) وتلك الشعبة قد يكون معها كثير من شعب الإيمان.
ولهذا قال: (ويخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان) فعلم أن من كان معه من الإيمان أقل القليل لم يخلد في النار، وأن من كان معه كثير من النفاق، فهو يعذب على قدر ما معه من ذلك، ثم يخرج من النار.
وعلى هذا فقوله تعالى للأعراب: (قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) فقد نفى حقيقة دخول الإيمان في قلوبهم، وذلك لا يمنع أن يكون فيهم شعبة منه، كما نفاه عن الزاني والسارق، ومن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ومن لا يأمن جاره بوائقه، وغير ذلك… فإن في القرآن والحديث من نفى عنه الإيمان لترك بعض الواجبات شيء كثير.(أنظر: كتاب الإيمان الكبير،(49) من مجموع فتوى شيخ الإسلام ج7 ص303-305)
وفي موضع آخر عرض ابن تيمية رحمه الله للأمر فقال: "والمقصود أن خير المؤمنين في أعلى درجات الجنة، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار، وإن كانوا في الدنيا مسلمين ظاهرا، تجرى عليهم أحكام الإسلام الظاهرة. فمن كان فيه إيمان ونفاق يسمى (مسلما) إذ ليس هو دون المنافق المحض، وإذا كان نفاقه أغلب لم يستحق اسم الإيمان، بل اسم المنافق أحق به، فإن ما فيه بياض وسواد، وسواده أكثر من بياضه، هو باسم الأسود أحق منه باسم الأبيض. كما قال تعالى: (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ )167 آل عمران . وأما إذا كان إيمانه أغلب، ومعه نفاق يستحق به الوعيد، لم يكن أيضا من المؤمنين الموعودين بالجنة (أي مع السابقين) وإن استحقها بإيمانه بعد العذاب إن لم يشفع له أو يعف الله عنه.
قال: وطوائف أهل الأهواء –من الخوارج والمعتزلة والجهمية والمرجئة- يقولون: إنه لا يجتمع في العبد إيمان ونفاق. ومنهم من يدعي الإجماع على ذلك. ومن هنا غلطوا فيه، وخالفوا فيه الكتاب والسنة وآثار الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، مع مخالفة صريح المعقول.
بل الخوارج والمعتزلة طردوا هذا الأصل الفاسد، وقالوا: لا يجتمع في الشخص الواحد طاعة يستحق بها الثواب، ومعصية يستحق بها العقاب.
ولا يكون الشخص الواحد محمودا من وجه، مذموما من وجه، ولا محبوبا مدعوا له من وجه، ومسخوطا ملعونا من وجه، ولا يتصور أن الشخص الواحد يدخل الجنة والنار جميعا عندهم، بل من دخل إحداهما لم يدخل الأخرى، ولهذا أنكروا خروج أحد من النار، أو الشفاعة في أحد من أهل النار.
وحكى عن غالية المرجئة: أنهم وافقوهم على هذا الأصل، ولكن هؤلاء قالوا: "إن أهل الكبائر يدخلون الجنة، ولا يدخلون النار" مقابلة لأولئك.
"وأما أهل السنة والجماعة والصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر طوائف المسلمين من أهل الحديث والفقهاء، وأهل الكلام.. فيقولون: إن الشخص الواحد، قد يعذبه الله بالنار ثم يدخله الجنة، كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة.
وهذا الشخص الذي له سيئات عذب بها، وله حسنات دخل بها الجنة وله معصية وطاعة باتفاق. فإن هؤلاء الطوائف لم يتنازعوا في حكمه، لكن تنازعوا في اسمه.
فقالت المرجئة: هو مؤمن كامل الإيمان.
وأهل السنة والجماعة على أنه مؤمن ناقص الإيمان. ولولا ذلك لما عذب، كما أنه ناقص البر والتقوى باتفاق المسلمين.
وهل يطلق عليه اسم "مؤمن"؟
هذا فيه القولان… والصحيح التفصيل.
فإذا سئل عن أحكام الدنيا كعتقه في الكفارة. قيل: هو مؤمن. وكذلك إذا سئل عن دخوله في خطاب المؤمنين أي في مثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ).
وأما إذا سئل عن حكمه في الآخرة قيل: ليس هذا النوع من المؤمنين الموعودين بالجنة، بل معه إيمان يمنعه الخلود في النار، ويدخل به الجنة بعد أن يعذب في النار، إن لم يغفر الله له ذنوبه… لهذا قال من قال: هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، أو مؤمن ناقص الإيمان.
والذين لا يسمونه مؤمنا من أهل السنة والمعتزلة يقولون: اسم الفسوق ينافي اسم الإيمان لقوله تعالى: (بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الحجرات الآية 11 وقوله: (أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ ).
قال: وعلى هذا الأصل، فبعض الناس يكون معه شعبة من شعب الكفر، ومعه إيمان أيضا.
وعلى هذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في تسمية كثير من الذنوب كفرا، مع أن صاحبها قد يكون معه أكثر من مثقال ذرة من إيمان، فلا يخلد في النار. كقوله: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) وقوله: (لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض).
وهذا مستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح من غير وجه، فإنه أمر في حجة الوداع أن ينادى به في الناس. فقد سمى من يضرب بعضهم رقاب بعض –بلا حق- كفارا، ويسمى هذا الفعل كفرا. ومع هذا فقد قال تعالى: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا )الحجرات الآية 8 إلى قوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) الحجرات الآية 9.
فبين أن هؤلاء لم يخرجوا من الإيمان بالكلية، ولكن فيهم ما هو كفر، وهو هذه الخصلة، كما قال بعض الصحابة: كفر دون كفر. وكذلك قوله: (من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما) فقد سماه أخا حين القول، وقد أخبر أن أحدهما باء بها، فلو خرج أحدهما عن الإسلام بالكلية لم يكن أخاه، بل فيه كفر).

القاعدة الثامنة:
تفاوت مراتب الأمة في الطاعة:
وهي تأكيد للسابعة: أن مراتب الناس متفاوتة في امتثالهم لأمر الله تعالى، واجتنابهم لنهيه.
ولهذا تفاوتت درجات إيمانهم وقربهم من الله عز وجل، ومن هنا قرر سلف الأمة أن الإيمان يزيد وينقص، ودل على ذلك بالكتاب والسنة، فمن الخطأ الفاحش تصور الناس جميعا ملائكة أولى أجنحة، بلا أخطاء ولا خطايا، ناسين العنصر الطيني الذي خلقوا منه، والذي يشدهم إلى الأرض لا محالة.
وهذه الحقيقة –حقيقة تفاوت الناس في الإيمان والطاعة لله- قد قررها القرآن الكريم، كما أكدتها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى في سورة فاطر: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ).
فقد قسم الله عز وجل الأمة التي أورثها الكتاب، واصطفاها من عباده ثلاثة أصناف:
1. ظالم لنفسه، وهو كما قال ابن كثير، المفرط في فعل بعض الواجبات المرتكب بعض المحرمات.
2. ومقتصد، وهو المؤدي للواجبات، التارك للمحرمات، وقد يترك بعض المستحبات، ويفعل بعض المكروهات.
3. وسابق للخيرات، وهو الفاعل للواجبات والمستحبات، التارك للمحرمات والمكروهات، وبعض المباحات.(50) (تفسير ابن كثير ج3 ص454-555 :ط الحلبي)
فهؤلاء الثلاثة على ما في بعضهم من عوج وتقصير وظلم للنفس داخلون في الذين اصطفاهم الله من عباده.
وهؤلاء الأصناف الثلاثة ينطبقون على الطبقات أو المراتب الثلاث المذكورة في حديث جبريل المشهور: وهي "الإسلام" و"الإيمان" و"الإحسان". وأخبر الله تعالى عن هؤلاء الأصناف الثلاثة –وفيهم الظالم لنفسه- بأنهم من أهل الجنة.
وصح عن ابن عباس في تفسير الآية قوله: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ورثهم الله كل كتاب أنزله، فظالمهم يغفر له، ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب.(المصدر السابق)
وليس المراد بـ "المحرمات" التي يرتكبها الظالم لنفسه "الصغائر" فقط دون "الكبائر" ولا المراد به التائب من جميع الذنوب، لأن هذا وذاك –كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية- يدخل في صنف المقتصد أو السابق "فإنه ليس أحد من بني آدم يخلو من ذنب. كل من تاب كان مقتصدا أو سابقا".
كذلك من اجتنب الكبائر كفرت عنه السيئات، كما قال تعالى: (إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا ).
فلا بد أن يكون هناك ظالم لنفسه، وموعود الجنة. ولو بعد عذاب يطهر من الخطايا.(من كتاب "الإيمان" (51) من مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج7 ص485:ط الرياض)
على أن المسلم مهما يكن مقتصدا أو ظالما لنفسه، فعليه أن يكره الكفر والفسوق والعصيان، ولا يرضى بالمنكر الذي تطفح به الحياة من حوله. فإن أدنى درجات الإيمان أن يغير المسلم المنكر بقلبه، أي يكرهه ويتألم له ويسخط عليه، وأرفع من ذلك درجة أن يغيره بلسانه إن استطاع، وأرفع من هذه أن يغيره بيده إن استطاع. وهذا ما جاء به الحديث الصحيح المشهور على الألسنة (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).
فإذا كان التغيير بالقلب –بالمفهوم الذي شرحناه- أضعف الإيمان، فمعنى هذا أن من فقد هذه الدرجة –درجة أضعف الإيمان- فقد الإيمان كله، ولم يبق له منه شيء.
وهذا ما صرح به الحديث الآخر الذي رواه مسلم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنه يخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن. وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل).
فالحديث الشريف يصرح بأن من لم يجاهد هؤلاء الفسقة والظالمين بقلبه –أي يكره أعمالهم وظلمهم وفسقهم- ليس عنده من الإيمان حبة خردل. وبعبارة أخرى، ليس عنده أقل القليل من الإيمان.
غير أن هذا الأمر مرده إلى ضمير المسلم وقلبه، فهو الذي يستطيع أن يحكم على نفسه أهو راض عن المنكر أم هو ساخط عليه؟ وإن كان راضيا عن صاحب المنكر: أهو راض عنه لأجل فسقه وظلمه وانحرافه عن شرع الله أم لأجل شيء آخر، مثل مصلحة أصابها منه، أو قرابة بينه وبينه، أو غير ذلك. وإن كان الواجب على المؤمن أن يكون مناط قربه أو بعده من الناس هو مدى اتصالهم بالإسلام أو انفصالهم عنه (52) ( ظاهرة الغلو في التكفير ) .