لم يترك الله سبحانه وتعالى سنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم تضيع هباء، فقد قيد لها من أهل الإخلاص علماء أعلامًا نذروا حياتهم لتنقية سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمـ ولم يألوا جهدًا في جمع السنة وتدوينها وتوثيقها وتنقيحها حتى تصل إلينا في صحاح اعتمد عليها الفقهاء والعلماء كمصدر ثاني للتشريع مع القرآن الكريم.

ولم يقتصر الأمر على ذلك بل أنشأوا علومًا جديدة للحديث النبوي الشريف، للتثبت منه، فكان علم الرجال وعلم الإسناد، وعلم الجرح والتعديل وغيرها، وكلها تتابع رواة الأحاديث وتدرس أحوالهم، وما ظهر من أمرهم وما خفي، للتأكد من مدى صدقهم فيما نقلوه عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

أما علم الرجال أو علم الجرح والتعديل فأخذ يبحث في التفاصيل المهمة عن حياة رواة الأحاديث وأحوالهم ومدى ثقة المعاصرين لهم فيهم، وهل كانوا ثقات ليؤتمنوا على نقل حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وضعوا للراوي شروطاً صارمة لقبول حديثه.

ومن العلوم كذلك علم الإسناد وهو العلم الذي يهتم بذكر ودراسة سند الحديث واتصاله الرواه بعضهم ببعض، فلمّا ظهرت الفتن في أواخر الخلافة الراشدة، بدأ الأئمة في البحث عن الأسانيد، والنظر في مصادر الروايات، حتى لا يدخل في هذا العلم من ليس من أهله، وعظمة هذا العلم - علم الإسناد - تتجلى في كون علم الرجال نصف علم الحديث ولولا الإسناد لقال في الدين من شاء ما شاء.

وقد أهتم علماء الحديث كذلك بدراسة ما يسمى بـ"ميثودولوجي" الرواة، أو أحوال الرواة ودوافعهم والمؤثرات المحيطة بهم سواء كانت شخصية أو اجتماعية، ليطبقوا بذلك قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا)، وذلك لأن أخلاق الراوي، تعد عاملًا هامًا في الحكم على روايته، وقد أفاد المسلمون إفادة عظيمة من هذه الفائدة، وطبقوها على رواة الأحاديث النبوية.

ومن المجهودات العظيمة لعلماء السنة ما قام به الإمام البخاري رضي الله عنه في جمع الحديث الشريف وتصنيفه وفحصه وتدقيقه، فقد جمع هذا العالم الجليل ما يزيد عن نصف المليون حديث، ولكن بعد الفحص والتدقيق والتثبت منها، لم يأخذ في صحيحه إلا حوالي تسعة آلاف حديث فقط، فإذا حذفنا الأحاديث المكررة، لم يبق في صحيح البخاري، إلا حوالي ثلاثة آلاف حديث فقط، وهكذا غيره من العلماء، مما يدل على مده دقة علماء السنة في الحكم على ما يجمعونه من أحاديث حتى لا يدونوا منها إلا ما يتثبتون من نسبته إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

لقد كان الإمام البخاري وغيره من علماء الحديث وأصحاب الصحاح على قدر كبير من الصبر والجلد واحتمال المشاق، وكان لديهم همة عالية لتوثيق سنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

وكانت الخطوة التالية أَنْ قام المحدثون فَنَقَّبُوا في البلاد في البحث عن الروايات، المختلفة والأسانيد والتجول في البلاد والسفر في العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، ولم يقتصروا على جمع الحديث وتدوينه بل تعدت عنايتهم إلى الوسائط التي وقعت في رواية الحديث وهم الرواة الذين رووا هذه الأحاديث، فعنوا بمعرفتهم ومعرفة أسمائهم وأسماء آبائهم وحوادث حياتهم وأخلاقهم ومكانتهم في الأمانة والصدق والحفظ.

بعد الجهود هذه الجهود العظيمة لعلماء الحديث اعتمد المسلمون ستة كتب أطلقوا عليها الصحاح وقد لاقت قبولًا وثقة عند العلماء وهي: صحيح البخاري، وصحيح مسلم، ومعهما سنن كل من النسائي وأبي داود والترمذي وابن ماجه.