المشهد كان كالتالي: «ممرضة في مدينة أنيماس الفرنسية تقرأ التفاصيل الموجودة على كيس الدم المتجه إلى باريس، نوع الدم غير عادي، وكلما أكملت قرائتها عن كثب، اتسعت عيناها من الدهشة، لتسأل نفسها: من المستحيل أن يبقى هذا الشخص الذي يجلس بجانبها على قيد الحياة، كيف يبدو سليما وصحيا هكذا؟».
وعلى الجانب الآخر، يبتسم توماس، لأنه يدرك جيدا أن قلة قليلة من الناس في العالم يعرفون أن فصيلة دمه موجودة أو من الممكن وجودها من الأصل، وأقل من هؤلاء الناس يشتركون مع توماس في تلك الفصيلة المعروفة اسم «Rh Null».
وذكرت مجلة «Mosaic Science» المتخصصة في العلوم الطبية، في تقرير، الأربعاء، أنه منذ 50 عاما، توصل الباحثون إلى أن نحو 40 شخصا فقط على كوكب الأرض يتمتعون بفصيلة دم ثمينة ومنقذة للحياة في عروقهم.

ومن المعروف طبيا أن خلايا الدم الحمراء تحمل الأكسجين إلى جميع خلايا والأنسجة في الجسم، وإذا فقد أي شخص الكثير من الدم في جراحة أو حادث، فهو يحتاج إلى المزيد من الدم على نحو سريع، وهذا هو سبب تدفق الملايين من الناس إلى مراكز التبرع بالدم في جميع أنحاء العالم لتوفير أكياس الدم في مراكز المعالجة والمستشفيات.
بدأت قصة توماس منذ 40 عاما، عندما كان عمره 10 أعوام، وذهب إلى مستشفى «جامعة جنيف» بعد إصابته بعدوى أمراض الطفولة الروتينية، ولكن تحليل الدم الذي أجراه كشف عن أمر غريب جدا: فهو يفتقر إلى مجموعة دموية كاملة في فصيلة دمه.
وأوضحت المجلة الطبية أن هناك 35 نظام في فصيلة الدم، تم تنظيمها وفقا للجينات التي تحمل المعلومات لإنتاج مستضدات داخل كل نظام، علما بأن غالبية المستضدات في الدم تصل إلى 342 تنتمي إلى أحد تلك النظم الدموية، مضيفة أن النظام الذي يُسمى بـ«RH» يحتوي على أكبر عدد من المستضدات التي تصل إلى 61 مستضد.

ولكن توماس يبدو أنه كان يفتقر إلى نظام «RH» الدموي ومستضاته أيضا، وكان إثبات عدم احتواء دمه على ذلك النظام، يعني أن دمه من فصيلة «Rh Null»، أو بالعربية «معدوم»، وهذا ما جعله من أندر فصائل الدم ومن أعظم الاكتشافات الطبية.
وكان أول اكتشاف لحالة من فصيلة «Rh Null» في عام 1961، في امرأة استرالية من السكان الأصليين، بعد أن أكد الأطباء أن أي جنين يحتوي على تلك الفصيلة سيكون في عداد المفقودين، ولكن بحلول عام 2010، بعد ما يقرب من خمسة عقود، تم الإعلان عن 43 شخصا بفصيلة الدم «Rh Null»في جميع أنحاء العالم.
لم تكن تصدق عيناها، ولكن الدكتور ماري خوسيه، رئيس مختبر أمراض الدم في مستشفى «جامعة جنيف»، قررت إرسال دم توماس للتحليل في أمستردام ثم إلى باريس، وأكدت النتائج أيضا خلو دمه من نظام دموي كامل، وعلى الفور أصبح توماس كنزا ثمينا بلا حدود للطب والعلوم.

« هذا هو الدم الذهبي»، هكذا وصفه الدكتور تيري بيرارد، مدير المختبر الوطني للدمويات المناعية في باريس، فرغم أنه من النادر إيجاده، ولكن لديه قدرة هائلة على إنقاذ حياة المرضى الميؤوس من حالاتهم.
وعلى هذا النحو، يثني الأطباء بشدة على استخدام «الدم الذهبي» للمرضى في الحالات القصوى فقط، بعد دراسة متأنية للغاية، لأنه قد يكون أقرب إلى المستحيل ليحل محل دم شخص آخر.
وعندما بلغ توماس سن الـ18، تشجع بالتبرع بدمه من تلقاء نفسه، ووقتها لم يكن هناك بنوك مجمدة للدم في سويسرا، لذلك تم تخزين دمه في «بنوك الدم النادرة» في باريس وامستردام، ووقتها قرر توماس السفر بنفسه إلى فرنسا للتبرع، تجنبا للآليات البيروقراطية.
تلقى توماس أول طلب عاجل للتبرع بدمه بعد سنوات قليلة، عندما تلقى مكالمة هاتفية من شخص يطلب منه القدوم سريعا في جنيف للتبرع بالدم إلى طفل حديث الولادة، وحينها أدرك توماس جيدا مدى أهمية فصيلة دمه.

ورغم أن تكاليف التبرع يجب أن تتحميها المؤسسات الطبية التي تحتفظ ببنوك الدم، إلا أن توماس قرر أن يأخذ عطلة ليوم واحد من العمل، مرتين في السنة، والسفر إلى مدينة «أنيماس» في فرنسا للتبرع بدمه الثمين، على أن يتحمل تكاليف السفر، ذهاب وعودة، على نفقته الخاصة.
وتبقى المعضلة الصعبة أمام توماس هي إذا احتاج في يوم من الأيام إلى عملية نقل دم لإنقاذ حياته شخصيا، فرغم أن دمه يمكنه إنقاذ الأرواح التي لا تعد ولا تحصى، لم يعد أمامه سوى الـ40 شخص حول العالم الذي يمتكلون نفس الفصيلة لإنقاذ حياته إذا احتاج إلى نقل دم.
وأكدت المجلة أن 6 فقط من ضمن الـ40 شخص يواظبون على التبرع بدمهم، ولكنهم يعيشون في البرازيل واليابان والصين والولايات المتحدة وايرلندا.

عندما أخبرته الدكتورة ماري بنوعية دمه النادرة، ارتفعت معنويات توماس بشكل غريب وغير متوقع، ووقتها أرسلت الطبيبة إلى الجيش بأنه من الخطر أداء توماس للخدمة العسكرية لما له من آثار صحية قاتلة على صحته.
وعلى مدى السنوات الـ40 الماضية، توطت العلاقات بين توماس والطبيبة ماري بشكل وثيق للغاية، وحتى وقت قريب، احتفلوا بعيد ميلاس توماس الـ50 على متن قارب في بحيرة جنيف.
وقال توماس: «ماري كانت طيبة للغاية، فهي رأت الجانب الإنساني لحالة تحمل فصيلة Rh null، وليس مجرد كيس من الدم».