تجيب لجنة الفتوى بدار الإفتاء المصرية :

من المقرر شرعا أن أمر الذكر والدعاء على السعة ؛ لأن الأمر المطلق يستلزم عموم الأشخاص والأحوال والأزمنة والأمكنة ؛ فإذا شرع الله تعالى أمرا على جهة الإطلاق وكان يحتمل في فعله وكيفية أدائه أكثر من وجه فإنه يؤخذ على إطلاقه وسعته ولا يصح تقييده بوجه دون وجه إلا بدليل ، وإلا كان ذلك بابًا من الابتداع في الدين بتضييق ما وسَّعَه الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم .

هذا بالإضافة إلى أن التسبيح بخصوصه مستحب عقب الفراغ من الصلاة وعقب قيام الليل ؛ فقد أمر الله تعالى به في قوله: {فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ۖ وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ}.. (طه : 130) ، وفي قوله سبحانه: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ}.. (الطور : 49).

وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفعله عقب الوتر ويرفـع به صوته الشريف ؛ فقد روى النسائي في سننه بإسناد صحيح من حديث أُبَيِّ بن كعب وعبد الرحمن بن أَبْزَى رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في الوتر بسبح اسم ربك الأعلى وقل يا أيها الكافرون وقل هو الهف أحد ، فإذا سلّم قال : « سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ ».. (ثلاثَ مرات)، زاد عبد الرحمن في حديثه : يرفع بها صوته ، وفي رواية : يرفع صوته بالثالثة .

فمن جهر بالتسبيح والدعاء فقد أصاب السُّنَّة ، ومن أسَرَّ أيضا فقد أصاب السُّنَّة ؛ فالكل فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا ينبغي أن نتحجر واسعا ، بل الصواب ترك الناس على سجاياهم ؛ فأيما جماعة في مسجد رأت أن تجهر فلها ذلك وأيما جماعة أخرى تعودت على الإسرار فلها ذلك ، والعبرة في ذلك حيث يجد المسلم قلبه ، وليس لأحد أن ينكر على أخيه في ذلك ما دام الأمر واسعا .

وكذلك مسألة الجهر بختام الصلاة والإسرار به ؛ الأمر فيها واسع ، والخلاف فيها قريب ، وقد ورد الأمر الربـاني فـي الذكر عقب الصلاة مطلقًا في قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ ۚ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ۚ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}.. (النساء : 103)، والمطلق يؤخذ على إطلاقه حتى يأتي ما يقيده في الشرع ، وقد ورد في السنة ما يدل على الجهر بالذكر عقب الصلاة ؛ فروى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : «كُنْتُ أَعْلَمُ إِذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إِذَا سَمِعْتُهُ » ، وفي لفظ : « كُنْتُ أَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلاَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم بِالتَّكْبِيرِ » .

فمن أخذ من العلماء بظاهر ذلك قال بمشروعية الجهر بالذكر عقب الصلاة ، ومن تأوله على التعليم رأى الإسرار بالذكر أولى ، مع اتفاق الجميع على جواز كلا الأمرين . وخير ما يقال في هذا المقام ما قاله صاحب " مراقي الفلاح " في الجمع بين الأحاديث وأقوال العلماء الذين اختلفوا في المفاضلة بين الإسرار بالذكر والدعاء والجهر بهما ؛ حيث قال : " أن ذلك يختلف بحسب الأشخاص ، والأحوال ، والأوقات ، والأغراض ، فمتى خاف الرياء أو تأذى به أحد كان الإسرار أفضل ، ومتى فُقِد ما ذُكِر كان الجهر أفضل ".

ويجب على المسلمين أن لا يجعلوا ذلك مثار فرقة وخلاف بينهم ؛ فإنه لا إنكار في مسائل الخلاف ، والصواب في ذلك أيضًا ترك الناس على سجاياهم فمن شاء جهر ومن شاء أسر ؛ لأن أمر الذكر على السعة ، والعبرة فيه حيث يجد المسلم قلبه.