من الحقائق الواضحة أن الكلام الذي تفوه به وتتعامل بواسطته مع الآخرين ليس مجرد معان مسوقة في ألفاظ، بل هو أيضاً موسيقى كلامية تحملها العبارات التي تفوه بها لكي تحدث التأثير الذي تبغيه فيمن يستمعون إلى كلامك. فالكلام الذي يخرج من أفواهنا ذو ثلاثة أضلاع: ضلع يتعلق بالمعاني التي تحملها الكلمات التي تنطق بها، وضلع يتعلق بالأصوات التي تعتبر الهياكل العظيمة مجازاً لكلامنا، والضلع الثالث هو تلك الأنغام الموسيقية التي نلبسها لكلامنا المنطوق.
ولكن اهتمام بعض الناس بما يسوقونه على أ لسنتهم من معان يلهيهم عن موسيقى الكلام، أو قل إنهم يهملون الضلع الثالث في مثلث الكلام.
ولعل أن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: ما خصائص الكلام الذي يتسم بموسيقى جيدة؟ إننا نعتقد أن هذه الخصائص تتلخص فيما يلي:
أولاً: تمشي الكلام مع النبرة الوجدانية والحالة الانفعالية التي تعتمل في النفس والتي نريد إيصالها إلى الآخرين. ولا شك أن مَن يجيد التعبير عن حالته الوجدانية الانفعالية يستطيع أن ينغم كلامه بما يعتمل في داخله.
ثانياً: يجب أن تتسم صيغة الأمر بالمقاطع الحادة وبالعبارات القصيرة وبالطبقة العالية.
ثالثاً: صيغة التعجب وصيغة لترجي وغير ذلك من صيغ كلامية يجب أن تقدم بحيث تدل عليها. ومن الطبيعي أن يعجز القلم عن تقديم وصف صوتي عن كيفية التعبير موسيقياً بالكلام عن تلك الصيغ المتباينة.
رابعاً: بصفة عامة يجب أن تكون الكلمات التي نفوه بها واضحة متميزة كما يجب أن تكون العبارات متماسكة غير مفككة.
خامساً: يجب أن تتنوع الموسيقى الكلامية مع تنوع المستمعين. فالحديث مع مجموعة من الأطفال يختلف عن الحديث مع الكبار.
ويحسن بنا أن نعرض لمجموعة من التدريبات التي يتسنى لك عن طريقها أن تتمكن من موسيقى الكلام فيما يلي:
أولاً: اقرأ كل يوم قراءة جهرية من كتاب أدبي، ويحسن أن يكون قصة لأحد القصاصين الذين يستهوونك. اقرأ بأبطأ سرعة ممكنة وتمثل ما تقوم بقراءته. اعط كل جملة حقها من التمثيل، لا تتعجل في قراءتك. إنك لا تقرأ الآن لكي تقف على المعاني وسياق الأحداث، بل تقرأ لتمرن جهاز النطق لديك على الوسيلة الفعالة في الإفصاح. إنك ستتمثل موسيقى اللغة التي تقوم بقراءتها بتمعن وضغط على النبرات. وعندما تجد جملة فيها موسيقى كلامية تعجبك، كررها عدة مرات وتذوقها جيداً حتى تمتص رحيقها، وحتى تصير من لحم كيانك الكلامي.
ثانياً: لا تظن يا صديقي أن البلاغة تنحصر في اللغة الفصحى. اعلم أن للغة العامية بلاغتها أيضاً. فلقد تجد شخصاً بليغاً عندما يتحدث بالفصحى، ولكنك تجده غير مؤثر في العامة وفي معارفه وأصدقائه عندما يتحدث إليهم في حياته اليومية وفي مواقف الحياة المتباينة التي لا يستخدم فيها اللغة الفصحى. ذلك لأنه لم يمرن لسانه على بلاغة الكلام العامي، بل حصر تدربه على اللغة الفصحى. وعلى هذا فإننا نطالبك بالتدرب أيضاً على الإبانة باللغة العامية في المواقف المتباينة.
ثالثاً: ولسنا نبالغ إذا قلنا أن هناك تعبيرات ومصطلحات وطريقة للكلام تختص بها كل طبقة من طبقات الشعب، بل وكل حرفة من الحرف وكل مهنة من المهن المعروفة. وطبيعي أنك كلما كنت بليغاً في التحدث بأكثر تلك اللهجات وفاهما لما تتضمنه من مصطلحات، فإنك تكون أكثر تأثيراً في الأشخاص الذين يختصون بتلك اللهجات. المهم أن تقف على ما تتميز به طريقة كلامهم من موسيقى كلامية وأن تكتسبها اكتساباً وتمتصها امتصاصاً.
رابعاً: حاول أن تحفظ عن ظهر قلب العديد من الأمثال الشعبية وأن تتمثل ما تحتويه من موسيقى لغوية. لا تحاول إحالة المثل الشعبي العامي من عاميته إلى الفصحى. ان هذا يعد تزييفاً ومسخاً للمثل. لا تحاول أن تعدل المثل بأن تشكل بعض الكلمات فيه بالتشكيل الصحيح. فمثلاً عندما تسمع هذا المثل (رجل تِدْبْ مَطرحْ ما تِحِبْ) بالتشكيل المبين هنا، فإن عليك أن تحفظه كما هو. ان كلمة رجل بكسر اللام قيلت في المثل مجرورة، اتركها كما هي لا تضمها. وتقول (رجلٌ) بضم اللام. إن المثل الشعبي شأنه شأن أي كائن حي لا يجوز أ، نغير في قوامه حتى لا نمسخه. عليك بحفظه كما هو وأن تستخدمه بنفس النغمة التي سمعتها متلبسة به وأن تستخدمه في المواقف الصحيحة. لا تقل في نفسك أن هذا المثل لا يتمشى مع ثقافتي اللغوية. اعلم أن بلاغتك في الكلام تعتمد على موسيقى الكلام، وأن من أهم الوسائل التي تعينك على الدرب على موسيقى الكلام هي تلك الأمثال العامية الشعبية كما قيلت بالفعل. استخدمها كما هي بغير خجل أو تردد أو تعديل. وكلما كانت حصيلتك من الأمثال العامية أوسع، كنت أكثر دربة على موسيقى الكلام