من الآيات الدالة على عظمة الله سبحانه، وقدرته التي لا يحد منها شيء، وعلى أن الأمر كله بيده، لا رادَّ لما قضى، ولا مانع لما أعطى، ولا معقب لحكمه، قولُه عز من قائل: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير} (آل عمران:26)، نتعرف في السطور التالية على ما جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة.

وردت بخصوص نزول هذه الآية ثلاث روايات:

الرواية الأولى: ما رواه الطبري وابن أبي حاتم والواحدي عن ابن عباس وأنس بن مالك رضي الله عنهم، قالا: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، ووعد أمته مُلك فارس والروم، قالت المنافقون واليهود: هيهات هيهات، من أين لمحمد مُلك فارس والروم؟ هم أعز، وأمنع من ذلك، ألم يكف محمداً مكة والمدينة، حتى طمع في مُلك فارس والروم؟ فأنزل الله تعالى قوله: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء..} الآية. وهذه الرواية ذكرها أكثر المفسرين على أنها السبب في نزول هذه الآية.

الرواية الثانية: روى الطبري والواحدي عن قتادة، قال: ذُكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يجعل مُلك فارس والروم في أمته، فأنزل الله تعالى، قوله: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء..} الآية. وهذه الرواية قريبة من سالفتها. وقد ذكرها من المفسرين الشوكاني سبباً لنزول هذه الآية.

الرواية الثالثة: روى الواحدي عن عمرو بن عوف رضي الله عنه، قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخندق يوم الأحزاب، ثم قطع - أي: أعطى - لكل عشرة أربعين ذراعاً، قال عمرو بن عوف: كنت أنا وسلمان وحذيفة و النعمان بن مقرن المزني وستة من الأنصار في أربعين ذراعاً، فحفرنا حتى إذا كنا تحت ذي ناب، أخرج الله من بطن الخندق صخرة مروة، كسرت حديدنا، وشقت علينا، فقلنا: يا سلمان! ارق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره خبر هذه الصخرة، فإما أن نعدل عنها، وإما أن يأمرنا فيها بأمره، فإنا لا نحب أن نجاوز خطه، قال: فرقى سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ضارب عليه قبة تركية، فقال: يا رسول الله! خرجت صخرة بيضاء مروة من بطن الخندق، فكسرت حديدنا، وشقته علينا، حتى ما يحيك فيها قليل ولا كثير، فمرنا فيها بأمر، فإنا لا نحب أن نجاوز خطك، قال: فهبط رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سلمان الخندق، والتسعة على شفة الخندق، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المعول من سلمان، فضربها ضربة صدعها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها - يريد ما بين طرفي المدينة - حتى كأن مصباحاً في جوف بيت مظلم، وكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح، فكبر المسلمون، ثم ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكسرها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، حتى كأن مصباحاً في جوف بيت مظلم، وكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون، ثم ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكسرها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، حتى كأن مصباحاً في جوف بيت مظلم، وكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون، وأخذ يد سلمان ورقى، فقال سلمان: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! لقد رأيتُ شيئاً ما رأيتُ مثله قط، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القوم، فقال: (رأيتم ما يقول سلمان)؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: (ضربت ضربتي الأولى، فبرق الذي رأيتم، أضاءت لي منها قصور الحيرة، ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت ضربتي الثانية فبرق الذي رأيتم، أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت ضربتي الثالثة فبرق الذي رأيتم، أضاءت لي منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة عليها، فأبشروا، فاستبشر المسلمون، وقالوا: الحمد لله موعد صدق، وعدنا النصر بعد الحفر، فقال المنافقون: ألا تعجبون يُمَنِّيكم ويعدكم الباطل، ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفَرَق - أي: الخوف -، ولا تستطيعون أن تبرزوا)؟ قال: فنزل القرآن {وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا} (الأحزاب:12)، وأنزل الله تعالى في هذه القصة قوله: {قل اللهم مالك الملك..} الآية. وهذه الراوية ذكرها الرازي في تفسيره، وتابعه الآلوسي في ذلك، ولم يذكرها الطبري، ولا ابن كثير.

والذي يبدو أن الرواية الأولى هي المعول عليها في سبب نزول هذه الآية؛ إذ ذكرها أغلب المفسرين على أنها سبب لنزول هذه الآية الكريمة.

وقد ذكر القرطبي أن الآية نزلت دامغة لباطل نصارى أهل نجران في قولهم: إن عيسى هو الله؛ وذلك أن هذه الأوصاف تبين لكل صحيح الفطرة، أن عيسى ليس في شيء منها. ونقل عن ابن إسحاق صاحب "السيرة"، قوله: "أعلم الله عز وجل في هذه الآية بعنادهم وكفرهم، وأن عيسى صلى الله عليه وسلم، وإن كان الله تعالى أعطاه آيات تدل على نبوته من إحياء الموتى وغير ذلك، فإن الله عز وجل هو المنفرد بهذه الأشياء؛ وذلك قوله: {تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء..} الآية".

ثم إن ابن كثير قال بخصوص هذه الآية: في هذه الآية تنبيه وإرشاد إلى شكر نعمة الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة؛ لأن الله حوَّل النبوة من بني إسرائيل إلى النبي العربي القرشي المكي الأمي خاتم الأنبياء على الإطلاق، ورسول الله إلى جميع الثقلين الإنس والجن، الذي جمع الله فيه محاسن من كان قبله، وخصه بخصائص لم يعطها نبيًّا من الأنبياء، ولا رسولاً من الرسل، في العلم بالله وشريعته وإطلاعه على الغيوب الماضية والآتية، وكشفه عن حقائق الآخرة، ونشر أمته في الآفاق، في مشارق الأرض ومغاربها، وإظهار دينه وشرعه على سائر الأديان، والشرائع؛ ولهذا قال تعالى: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير}.

وفي المحصلة، فالذي نقرأه في هذه الآية، أن الأمور مبتدها ومنتهاها بيد الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يرفع ويخفض، وهو الذي يقدم ويؤخر، وهو الذي يعطي ويمنع، وهو الذي يقبض ويبسط، {ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين} (الأعراف:54).