الرقابة الإلهية وأثرها في تهذيب الإنسان
*

ينطوي الدِّين الإسلامي الحنيف على حقيقتين غيبيتين عظيمتين، تفتقدهما أي مدرسة أو نظرية لا دينية، وهما: الرقابة الإلهية والإعتقاد بالجزاء الأخروي.

وهاتان الحقيقتان الكبيرتان، تشكِّلان الأساس الروحي والمعنوي لكل تمسِّك بالأخلاق والقيم النبيلة، وبدونهما تفرّغ القيم والسلوك الخُلقي من مضمونهما الجوهري، ويتحوّلان إلى مجرّد مفردات ميتة لا حيوية فيها ولا حركة.
ماذا نعني بالرقابة الإلهية؟
أنّها الشعور الحقيقي العميق برقابة الله سبحانه وتعالى لنا في السر والعلن.
وهي حقيقة حضوره – عزّ وجلّ – الدائم في نفسية الإنسان، وأن هناك رقيباً أعلى، يعلم الأسرار والخفايا وما تضمه الصدور، عالم الغيب والشهادة، المطَّلع على السرائر والقلوب، الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

يقول تعالى في كتابه الحكيم:
(وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (الأنعام/ 59).

ولتجسيد الرقابة الإلهية بأبرع صورها، جاءت الآية القرآنية بالفقرة المقدّسة التالية: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (يونس/ 61).
إنّ الله إذن هو الرقيب الأعلى ومصدر الوجدان والضمير الإنساني... بل هو التفتيش الذاتي الذي يجعل كل حركات الإنسان وسكناته تحت دائرة الرقابة الربانية، فلا يخفى أمام الله منها شيء,
وحينئذ فلابدّ أن تعبِّر أفعال الإنسان وتصرفاته عن تقوى الله ومراعاة تعاليمه السماوية ومرضاته، ولابد أن يتجنّب فعل السوء وإرتكاب القبائح في مثل هذه الحال، التي يملأ قلبه فيها تقوى الله، وعلمه بإطلاع الخالق عليه سراً وعلانية.

لهذا والحق يُقال، كان المؤمنون الحقيقيون، أكثر الناس رقابة ذاتية لسلوكهم وممارساتهم، وهم في عملية مراجعة وحسابات مستمرة... وإذا أخطأوا تداركوا وتذكَّروا الرقيب جلّ جلاله، فتراجعوا عن الخطأ. يقول تعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعراف/ 201).

فهؤلاء المؤمنون المتّقون، لا يحتاجون إلى رقيب آدمي؛ لأنّهم ملتزمون سلفاً بكل ما يرضي الإله ولا يسخطه، وكل شيء في حياتهم، يأتي في النهاية، من تقوى الله وحبه السرمدي.
وحياة المؤمن أو المؤمنة، لا تتقسَّم إلى أجزاء، يخرج بعضها عن تقوى الله ورقابته، فهذا الرقابة تغطّي كل الحياة الإنسانية،
فليس هناك حياة عامة تحكمها القوانين وحياة خاصة متمردة لا تحكمها القوانين، كما هو حاصل في البلدان الغربية المتهافتة.
فالعالم الغربي مثلاً يعتبر الحياة الخاصة، حقاً مطلقاً للإنسان، يمارس فيها حرِّيته الكاملة ولو في الفساد والمحرّمات والموبقات مادام ذلك لا يضايق أو يحدّ من حرِّية الآخرين.

أمّا في الإسلام فكل حياة الإنسان، محكومة بالمسؤولية والرقابة من الله، وهذا لا ينافي الحرِّية، لأنّ الحرِّية في ظل الشريعة الإسلامية هي حرِّية مسؤولة واعية، تتحقق ضمن نطاق الأخلاق والقيم النبيلة، وليس ضمن الفوضى والتخبّط الفكري والعملي.
بيد أنّ المؤمن يضع تقوى الله في حسابه عند كل تحرّك أو موقف، حتى في الأكل والشرب، بل وحتى عندما ينفرد مع نفسه في غرفة مغلقة، وهذا ما يجعله من أعظم الناس مسؤولية وإلتزاماً.. يقول جلّ شأنه:
(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة/ 93).

- القوانين الوضعية لا تحل مشكلة الرقابة:

هذا الشعور الدائم بحضور الله، قوّة عظيمة في نفسية المؤمن تجعله دوماً على الطريق المستقيم، فلا يخضع لإغراءات الشيطان وأهواء النفس الأمّارة بالسوء.
ويعترف الكثير من الغربيين بهذه الحقيقة الدامغة. وهي؛ أنّه ينبغي عدم الإستهانة بالإسلام لأنّه عقيدة ثابتة بقيت رغم الأعاصير العاتية، وذلك بسبب الرقابة التي لا تأتي من شخص على شخص، ولا من هيئة على هيئة، وإنما هي رقابة الإنسان لربه، ونضج الضمير الديني.. وهذا وحده قوة كامنة في الإسلام.
أمّا مزاعم الضمير ورقابة الشعب والقانون، والمصلحة المتبادلة التي تنادي بها المدراس التي تنكر وجود الله. فهي ليست بشيء مالم تنزع إلى الإعتراف بالخالق سبحانه وتعالى، العالم بكل الخفايا، وتطيع أوامره ونواهيه، وتراقبه في كل لحظات حياتها.
فالشعب والقانون والمصلحة والحاكم وأجهزته، كل ذلك قاصر وعاجز وحده عن القيام بهذه المهمة، لأنّ هذه الأمور لا تطال إلا المظاهر التي تقع تحت سمع القانون وبصره، لكن لن تصل إلى أكثر الأعمال السرية؟
ثمّ ماذا عن النوايا؟ وماذا عن الخداع والغش والإحتيال والتلاعب؟ نحن نحتاج إلى رقابة مؤكدة.. رقابة على السرائر والقلوب والضمائر المتصلة بالله، وليس رقابة القلوب والضمائر المتصلة بالأهواء، والإنفعالات، والرغبات والأنانيات الضيقة!
إذن.. تقوى الله هي الأساس للأخلاق... وكل أخلاق لا تقوم على تقوى الله والخوف منه، وخشيته في السر والعلن، محكومة بالإخفاق التام.

- هاجس الجزاء الأخروي:

يتميّز الدِّين الإسلامي بحقيقة ثانية، ترتبط إرتباطاً وثيقاً بالرقابة الإلهية، وهي الجزاء الأخروي والوقوف أمام الله يوم القيامة، والبعث بعد الموت، لإجراء الحساب الدقيق الشامل الذي لا يفوته شيء.
هذه الحقيقة تؤكد أن هناك ثواباً وعقاباً، وكتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ألا أحصاها، فمَن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره، ومَن يعمل مثقال ذرّة شراً يره... وإن ما نفعله هنا في حياتنا الدنيا، يسجّل في الكتاب الأبدي عند الله ليحاسب عليه الإنسان يوم القيامة.
والبعث هدفه تحديد مسؤولية الإنسان النهائية في أعماله التي ارتكبها ولم يلق جزاءه العادل في الدنيا، ذلك بالمثول أمام العدالة الإلهية المطلقة يوم القيامة التي لا يخفى عليها أمر.
يقول المولى عزّ وجلّ في هذا الصدد:
(وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (الأنبياء/ 47).

والآخرة تفرضها ضرورة العدل الإلهي، وقد شرَّع الله أنواعاً من الجزاء الدنيوي، ثواباً أو عقاباً، وترك الجزاء الشامل الدقيق إلى يوم الدِّين.

والجزاء الأخروي يقوم على أساس الرقابة الدقيقة في الدنيا، لأن جزاءً بدون رقابة وإطلاع دقيق على الحدث والفعل، عمل ناقص، كما أنّ الرقابة بدون جزاء، عبثاً فارغاً، يقول تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) (المؤمنون/ 115).
وهكذا تقوم التربية الدينية على هذه الناحية المهمة من الحقائق الغيبية التي لا تترك للإنسان فرصة للتهرب من وجه العدالة ولو فرّ في متاهات الكون البعيدة.
هذه الحقيقة الدينية كان لها أعظم الأثر في تأريخ الشعوب على مرّ العصور، فقد توغلت في أعماق الإنسان المسلم، وجعلت الدين قوة مستمرة فاعلة، لا تنهار أمام أعتى الهجمات المضادة.
بينما أن كل إتّجاه مادي في التربية والأخلاق، يلغي من حسابه، القيم الروحية والإيمان والحساب والبعث.
انّه نظرة محدودة إلى الكون والإنسان، نظرة قاصرة داخل حدود الحس والمادة التي تجعل من الإنسان، كتلة من اللحم والعظم والدم والأعصاب، تأكل وتشرب وتعيش بضعة سنوات لتموت وتتحول إلى حفنة من التراب دون أن يكون لوجودها ومصيرها أي معنى.

أمّا الدين فقد ملأ حياة الإنسان بالمعاني الكبيرة والرؤية العميقة، وأثرى وجوده، وجعل منه شخصية متكاملة، لا تستطيع أن تخنقها الأطر المادية الضيقة، ولا يقضي عليها الموت والفناء.
لماذا يعمد الإسلام إلى التحذير والإنذار ويضع جزاءين: دنيوياً متمثلاً بالقصاص والعقوبات المعروفة، وأخروياً بالعذاب أو النعيم؟
الجواب: انّه بدون الجزاء لا يستمقيم المجتمع ولا العدل ولا يمكننا تعميم التربية والقيم الأخلاقية في أوساط الناس، وهكذا يشكل الجزاء عامل ردع فعالاً في العمل التوجيهي.
وجزاء الله ليس ظلماً حتى يعتبر عملاً يسيء إلى التوجيه والإرشاد، وإنما هو نتيجة منطقية تترتب على عمل الشر، يقول تعالى: (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) (يونس/ 52).

وورد في الحديث الشريف: "لا يخافن أحد إلا ذنبه".


فالخوف ناشئ من الذنب نفسه، لأنّ الذنب يستدعي جزءاً بحسب المنطق والعدل، والجزاء هو ضريبة الشر. أما الملتزمون المتقون فلا خوف عليهم، لقوله تعالى:
(أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (يونس/ 62-64).


نعم، ان إنطلاق العمل بدافع الشكر لله أفضل من إنطلاقه بدافع الخوف، لكن تقوى الله هي رعاية جانبه تعالى، وهي تستدعي الوقاية من الذنوب والسيِّئات والقصاص الأخروي.
وبالنسبة للأطفال فإنّ الرقابة الإلهية لا تعني بأي حال، إرهابهم وتخويفهم بالعذاب، وإنما هي اشعارهم بأنّ الله يراقبهم وسيحرمون من رضاه وثوابه في المستقبل إذا هم فعلوا الشر.
فيجب أن نخلق في نفوس الأطفال حماساً نفسياً لعمل الخير والإستقامة، بكل الأساليب التربوية السليمة، للوصول إلى المستوى الأعلى من التربية الروحية التي يندفع الإنسان من خلالها إلى عمل الخير بعفوية وسعادة ذاتية.
**