* الذكر في اللغة:
قال ابن فارس: "ذكرت الشيء، خلاف نسيته، ثم حمل عليه الذكر باللسان. ويقولون: اجعله منك على ذُكْرٍ، بضم الذال، أي لا تَنْسَه. والذكر: العلاء والشرف"([1]) قال الله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} (ص: 1) (أي: ذي الشرف)([2]).
قال في اللسان: الذكر "الحفظ للشيء تذكره، والذكر أيضاً: الشيء يجري على اللسان، والذكر: جري الشيء على لسانك، وقد تقدم أن الذكر لغة في الذكر"([3]). قال تعالى: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} (يوسف: 45)، أي: ذكر بعد نسيان، "وأصله: تذكر؛ فأدغم"([4]).
* الذكر اصطلاحاً:
تعريف بعض أهل الفن للذكر:
أ- قال شيخ الإسلام الهروي رحمه الله: "والذكر: هو التخلص من الغفلة والنسيان"([5]).
ب- قال القرطبي رحمه الله: "وأصل الذكر، التنبه بالقلب للمذكور والتيقظ له. وسمي الذكر باللسان ذكراً؛ لأنه دلالة على الذكر القلبي، غير أنه لما كثر إطلاق الذكر على القول اللساني صار هو السابق للفهم"([6]).
* أنواع الذكر:
إن من الأمور المهمة التي ينبغي أن نتنبه إليها شمولية الذكر، وعدم قصره على التسبيح والتهليل، بل الذكر يتناول كل عامل لله بطاعة تقربه إليه. وعليه، فإن الذكر على نوعين:
1- الذكر المطلق:
"ويطلق على جميع الطاعات الظاهرة والباطنة، القولية والفعلية، فكل ما تصوره القلب أو أراده أو فعله العبد أو تكلم به، مما يقرب إلى الله فهو ذكر لله، والله تعالى شرع العبادات كلها لإقامة ذكره فهي ذكر لله"([7]).
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "الذكر المطلق يدخل فيه الصلاة، وتلاوة القرآن، وتعلمه وتعليمه، والعلم النافع، كما يدخل فيه التسبيح والتكبير والتهليل"([8]).
وقال الإمام النووي رحمه الله: "اعلم أن فضيلة الذكر غير منحصرة في التسبيح والتهليل والتكبير ونحوها، بل كل عامل لله تعالى بطاعة فهو ذاكر لله تعالى، كما قال سعيد بن جبير رضي الله عنه وغير من العلماء".
وقال عطاء رحمه الله: "مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام: كيف تشتري وتبيع، وتصلي وتصوم، وتنكح وتطلق، وتحج وأشباه هذا"([9]).
2- الذكر المقيد:
وهو ذكر الله عز وجل بأسمائه وصفاته وأفعاله والثناء عليه بها، (ويندرج تحت النوع الذي قبله).
* كيف يكون الذكر مؤثراً ومثمراً؟
كيف نجعل من ذكرنا مرققاً للقلب، مطهراً للنفس، مهذباً للجوارح، حاملاً لنا على فعل الخيرات، مبعداً لنا عن اقتراف السيئات؟ وهذه جملة من الآداب التي ذكرها أهل العلم:
1- حضور القلب مع ذكر اللسان:
تواطؤ القلب مع اللسان في الذكر من أكبر الأسباب التي تجعل من الذكر مؤثراً نافعاً لصاحبه. قال الإمام النووي رحمه الله: "المراد من الذكر حضور القلب، فينبغي أن يكون هو مقصود الذاكر فيحرص على تحصيله، ويتدبر ما يذكر، ويتعقل معناه؛ فالتدبر في الذكر مطلوب كما هو مطلوب في القراءة لاشتراكهما في المعنى المقصود"([10]).
2- تدبر معاني الأذكار:
إن مما يزيد من أثر الذكر في القلب استحضار أسراره ومعانيه، وتأمل دلالاته ومراميه، والتفكر بما اشتمل عليه من تعظيم الله تعالى وتقديسه، والثناء عليه بصفات الجلال والكمال، ونفي صفات النقص عنه، وتنزيهه عما لا يليق به.
3- تعظيم الله جل جلاله في القلب:
- وذلك باستحضار نعمة الله على عبده وآلائه وجوده وكرمه؛ فينشأ من ذلك الحب للمنعم المتفضل، ويتولد الشكر له([11]).
- استحضار وعد الله سبحانه لعباده المتقين من الجنان والحور العين، وأعظم من ذلك رؤيته عز وجل والتلذذ بالنظر إلى وجهه الكريم؛ فينشأ الشوق إلى لقائه، والرجاء له.
- استحضار وعيد الله عز وجل لمن عصاه، وشديد عقابه لمن خالف أمره وقلاه، مع استحضار العبد لذنوبه وإسرافه في أمره؛ فيتولد الخوف والخشية.
4- الإخلاص:
وهو الأصل الذي تُبنى عليه الأعمال: "إنما الأعمال بالنيات"، وفي "السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله" ذكر صلى لله عليه وسلم صفة الإخلاص في الرجل الذي ذكر الله ففاضت عيناه.
5- الالتزام بالألفاظ والأذكار الشرعية:
ما تقرب المتقربون، ولا تعبد المتعبدون بأحسن ولا أفضل ولا أكمل مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل الأبواب مغلقة سوى الباب الذي فتحه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فمن ولج أفلح ووصل، ومن رام غيره خاب وانقطع.
6- التمهل وعدم الاستعجال:
هناك من يسرع في الأذكار، حتى إنه في شدة سرعته وعجلته لا يأتي بألفاظ الذكر كاملة صحيحة، فضلاً عن تأمل معانيها والتفكر في مراميها.
7- الدعاء:
السعيد من لهج لسانه بذكر الله، فإنّ ذكره عز وجل شفاء، وذكر الناس داء، والموفق من وفقه الله لطاعته وشغله بعبادته؛ ولهذا يُستحب للعبد أن يسأل ربه أن يعينه على كمال الذكر وحسن العبادة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "والله إني لأحبك، فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"([12]).
8- الالتزام بآداب الذكر:
ومنها ما ذكره الإمام النووي رحمه الله فقال: "وينبغي أن يكون الموضع الذي يذكر فيه خاليا([13])، نظيفاً، فإنه أعظم في احترام الذكر والمذكور"([14]).
9- البعد عن معوقات التأثر:
* الذنوب والمعاصي: فهي تحجب القلب عن ربه، وتوهنه وتمرضه وتعميه؛ فالقلب المريض العاصي أبعد القلوب عن التأثر بالأذكار، إلا إذا طُهِّر بالتوبة النصوح والاستغفار الصادق.
ومن المعاصي التي يجب الحذر منها خصوصاً:
* الحذر من سماع الموسيقى والغناء: وهي من أعظم صوارف القلب عن التأثر بالأذكار، لا سيما في زماننا هذا الذي تفنن فيه الشيطان وجنوده، في اختراع أنواع المغريات من آلات اللهو.
* النظر إلى المحرمات: كالصور العارية، والمناظر الفاضحة التي أمر الله عز وجل عباده بغض أبصارهم عنها.
* بعض فوائد مجالس الذكر:
1- أن الله أمر نبيه بالصبر والجلوس مع الذين يذكرون الله، ولو لم يكن في مجالس الذكر فضل لَمَا أمر الله نبيه بالجلوس إليها.
2- أن الملائكة تحف الذاكرين.
3- غشيان الرحمة للذاكرين.
4- نزول السكينة على الذاكرين.
5- أن الله يذكر الذاكرين فيمن عنده.
6- غفران الله لأهل مجالس الذكر.
7- غفران الله للعبد الخطاء الذي يحضر مجالس الذكر حتى لو حضرها من أجل حاجة.
8- مباهاة الله تعالى بالذاكرين.
9- حضور الملائكة واجتماعهم لمجالس الذكر.
10- تبديل السيئات حسنات.
11- ذم من أعرض عن مجالس الذكر.
12- مجالسة الصالحين والعلماء العاملين ومخالطتهم والتعرف عليهم.
13- الاستفادة من مجالس الذكر في تعليم أمور الدين والدعوة، وعبادة الله على بصيرة([15]).
* من آداب مجالس الذكر:
1- عدم التخلف عنها إلا من عذر:
ينبغي للمسلم أن يجتهد في حضور مجالس الذكر مع إخوانه، ويحرص عليها، ولا يتخلف عنها إلا لعذر، لما يترتب على ذلك من تفويت لخير كثير؛ ولهذا فقد بوَّب الإمام النووي رحمه الله في كتابه (رياض الصالحين) باباً فقال: باب فضل حِلَق الذكر والندب إلى ملازمتها والنهي عن مفارقتها لغير عذر([16]).
2- الصبر على ما قد يكون فيها من مشقة أو أشياء تخالف هوى النفس:
قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} (الكهف: 28) (أي: لا تنصرف).
3- الإخلاص وصدق النية:
أن يبتغي بحضوره لهذه المجالس طاعة ربه وطلب رضوانه وابتغاء أجره ومثوبته، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات"([17]).
4- تجنب المراء والجدل:
ينبغي أن تُصان مجالس الذكر والعلم عن الجدال والمراء؛ حتى لا تذهب بركتها، ويضمحل خشوعها، ويقل نفعها وفائدتها.
5- عدم التشاغل أثناء الدرس والإنصات:
قال سفيان وغيره: أول العلم الاستماع، ثم الانصات، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر، ولا شك أن الكلام أثناء الدرس مما يشوش على الحاضرين.