الأخلاق من الكماليات!

الأخلاق تُكتسب من البيئة منذ النشأة

وعلى الرغم من أن ما كُتب عن الأخلاق كان كثيراً ومتنوعاً، ولكنه قليلاً ما خرج عن إطار الوعظ والنصح، وهو ما يعطي انطباعا أن الأخلاق هي من الكماليات للإنسان، وما بصدد الباحث إثباته في هذا البحث هو أن الأخلاق والفضيلة ليست من الكماليات.

فهي ليست لباسا فاخرا تتزين به المرأة، أو خاتما ثمينا يتزين به الرجل، إنها أساسية للحياة مثل الماء والهواء والغذاء لكي يستطيع الإنسان الحياة بشكل طبيعي منسجم مع الكون، يتمتع بسلام داخلي، وينعكس ذلك على السلام الخارجي.

فالفضيلة أكثر من مجرد وعظ ونصح، وإذا ما اندمجت هذه المفاهيم بالعلوم الطبيعية الأساسية، فسوف ندرك أن الأخلاق هي علم من العلوم الطبيعية الأساسية تستمد دعائمها وأسسها من القوانين الطبيعية كالفيزياء مثلاً.

وإن الدين الإسلامي بدقته ولطافته سن الواجبات والنواهي، وما عبَّر عنه بالخير والشرّ بناء على أسس تنسجم انسجاماً تاماً مع تركيبة الإنسان وعلاقته بالكون، وأنه يقدم حلولاً تنتشل البشرية ممّا وصلت إليه من تدهور واضمحلال في الإنسانية، وتوصله إلى أعلى ما خُلِق من أجله.

فالأخلاق والرذيلة تُكتسب من البيئة الأسرية في بداية نشأة الطفل، وتغرس الأسرة مفاهيمها وتناقضاتها في عقله، فكثيرًا ما لا يتذكر الإنسان المواقف التي تعرض لها منذ طفولته، وركزت فيه مفاهيم تعزز أو تمحو لديه الأخلاق، ولكنها بالتأكيد غير ممحوة من الذاكرة، فهي مخزونة بتفاصيلها التامة والدقيقة في القسم الأهم من العقل، والمسمى باللاشعور، هذا اللاشعور الذي يلعب دور المبرمج للعقل الواعي، وتتأثر به حياته تباعاً.

فاللاشعور هو الجزء الأكبر من العقل، والذي يتم فيه تخزين كم هائل من المعلومات منذ البداية، ويقوم بالتحليلات النفسية للأحداث، ويعطيها المعنى الذي نفهمه، فالحدث بحد ذاته لا معنى له إلا المعنى الذي يعطيه العقل لنا، فيقوم اللاشعور ببناء نفسه ابتداءً من الأيام الأولى لولادته، بل قبل ذلك، وتساهم البيئة والتربية والوالدان والأحداث والمعلومات المختلفة في مسيرة الحياة برسم الصورة الشاملة التي يكون عليها لاشعور الفرد في كل لحظة.

وتساهم ردود فعله هو والآخرون تجاه هذه الأحداث وما ترمز له هذه الأحداث، وردود الفعل من معان، جميعها تساهم في تكوين معتقدات وافتراضات عن الحياة بمجملها؛ كنظرته عن نفسه، وعن الآخرين، وعن الحياة، وغيرها، شاملاً بذلك أدق تفاصيل حياته ورغباته وقدراته، كل هذه المعلومات تحفظ في ذاكرة اللاشعور، وكل ذلك يساهم في برمجة اللاشعور.

فبرمجة اللاشعور تحدث بطريقة غير واعية لأغلب الناس، ولكن يستثنى من هؤلاء الأشخاص أولئك الذين يتحلون بالأخلاق الروحية، فهم يبرمجون لاشعورهم بوعي تام، ولهم السيطرة التامة على ما يكوِّنه اللاشعور من معتقدات وافتراضات عن أنفسهم وعن الحياة من حولهم، ولكن في جميع الأحوال لا يتوقف اللاشعور عن التغيير، سواء كان ذلك بوعي أو من دون وعي.

فكل يوم تدخل معلومات وأحداث كثيرة إلى اللاشعور، ويقوم هو بترميزها وحفظها والاستفادة منها لاحقًا، حتى إن كان هذا الذي خزنه ليس لصالح صاحبه، كأن يتعرض الفرد إلى عدة مواقف يتم استغلاله فيها، ويقوم اللاشعور بالاستناد إلى ما لديه من معلومات سابقة باستخلاص اعتقاد مفاده أن الناس كلهم يريدون استغلاله، ويجب أن يكون حذراً ولا يقترب منهم، وأن كل من يقترب نحوه ويكون لطيفاً معه فهو بالضرورة يريد استغلاله.

هذا المعتقد بلا شك يبعد الإنسان عن فرص تفاعله مع نفسه ومع الآخرين بإنسانية، وعن أن يتطور من خلالهم، ويساهم في تطويرهم من خلاله.

العقول أئمة الأفكار

إن للاشعور سيطرة تامة على الجسم بأكمله بما فيه المخ والعضلات، وحتى أصغر خلايا الجسم، فهي تتأثر به بشكل مباشر، مثال على ذلك: من تعود على نقض العهد، وبرمج لاشعوره وخلاياه على ذلك، فحتى لو أراد الشخص أن يفي بالعهد في مرة من المرات، فسيرى أن جسده لا يساعده على ذلك.

ويلعب اللاشعور دورا أساسياً ومباشراًً أيضاً في الخيارات التي يراها الفرد أمامه، وقراراته التي يأخذها، وكذلك على ردود الفعل والاستنتاجات الفكرية والاستدلالية، خاصة فيما يتعلق بالمواضيع الأكثر حساسية للفرد.

وفي كل مرحلة من مراحل الحياة، هناك أمران أساسيان يؤثران بطريقة مباشرة على اللاشعور، أولهما الكلمة، والآخر السلوك المتكرر، واللاشعور بدوره يؤثر بطريقة مباشرة على استقامة الفرد ونجاحه، وتناغمه مع الكون من حوله.

فللكلمة وزن كبير في القرآن الكريم، وكانت الكلمة حيث لم يكن أي خلق آخر، فالله سبحانه وتعالى خلق الكون بكلمة (كن فيكون).

والله سبحانه وتعالى لا يخالف كلامه {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}... (الأنعام: 115)، وأراد للإنسان أن يكون مِثاله، يقول الكلام (الحق) ولا يخالفه {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} (الصف:3).

فإذا استهان الإنسان بالكلمة واستخدمها في اللغو والكذب والخداع {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}... (الأحزاب: 70-71) انطبعت انعكاساتها الخطيرة على لاشعوره، وهذا الأخير بدوره يقوم بعملية تدمير إنسانية الإنسان التي يتخطى تأثيرها المدمر الإنسان نفسَه ليصل إلى من حوله.

كذلك هو تأثير السلوك المتكرر على اللاشعور؛ حيث إن صفة نكث العهد مثلاً لها توابع وتداعيات مصيرية على الإنسان لا يُستهان بها {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا}...(الإسراء/34).

وهنا يهيمن اللاشعور بما تربى عليه من نكث العهد، ويسخّر حينئذ جميع خلايا الجسم مجتمعة بغرض التآمر للإضرار بصاحبها {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}... (المائدة:13).

فخلايا الجسم تحس بمشاعر صاحبها وكلماته وأفكاره، فيكون اللاشعور هنا كعدو للشخص يعمل ضده من حيث لا يدري، كما قال الإمام علي رضي الله عنه: (العقول أئمة الأفكار، والأفكار أئمة القلوب، والقلوب أئمة الحواس، والحواس أئمة الأعضاء).