حرص الإسلام على حفظ كرامة الإنسان، وتقدير ذوي الفضل والعلم والحكمة، لما في الإكرام من أثر في النفوس، لأن النفوس مفطورة على حب التقدير، فوجهنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أكرام ذوي الفضل والمكانة فقال: "أنزلوا الناس منازلهم".

وجاء في سنن أبي داود أن السيدة عائشة رضي الله عنها، مر بها سائل فأعطته كسرة، ومر بها رجل عليه ثياب وهيئة، فأقعدته، فأكل، فقيل لها في ذلك، فقالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "أنزلوا الناس منازلهم".

ومعنى إنزال الناس منازلهم، أن نعطي كل واحده قدره بما يلائم حاله من سن أو دين أو علم أو شرف، وقد عد العلماء هذا الحديث من الأمثال والحكم، ومما أدب به المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- أمته من إيفاء الناس حقوقهم، من تعظيم العلماء والأولياء، وإكرام ذي الشيبة وإجلال الكبير، وما أشبهه.

وفي نفس الوقت أمرنا بعدم احتقار من هو أقل مكانة أو قدرًا، فقال صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله: "ليس منّا من لم يرحم صغيرنا ويعرف حقَّ كبيرنا".

وعبارة "ليس منّا" تشير إلى أنّها كبيرة، من مقاييس الكبائر أن يتبرّأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من نسبة هذا الإنسان إليه. وبين لنا الحديث الشريف أن للشخص الكبير سواء في السن أو المكانة أو العلم له التوقير والاحترام، وكذلك الصغير في السن والمكانة علينا أن نعامله بالرحمة والرقة المناسبة لحاله.

وما أعظم وأرقى فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما أسلم أبو قحافة والد سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوم فتح مكان، وكان رجلًا كبيرًا في السن، أتى سيدنا أبو بكر رضي الله عنه بأبيه أبي قحافة يقوده، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "هلاّ تركتَ الشَّيْخَ في بيته حتى آتيه؟" فقال: "يمشي هو إليك يا رسول الله أحق أن تمشي إليه"، فأجلسه بين يدي رسول الله، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: "أسلم تسلم"، فأسلم، وهنأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه بإسلام أبيه.

كما أمرنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن نرحم من ذُلَّ بعد عزٍ ومكانة كان فيها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "ارحموا من الناس ثلاثة: عزيز قوم ذل، وغني قوم افتقر، وعالماً ضاع بين الجهال".

وتجلى ذلك في موقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع عدي بن حاتم، وقد كان ابن ملك الغساسنة، ولكن داق به الحال، وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه النبي عليه الصلاة والسلام؛ رحب به ترحيباً خاصاً، ودعاه إلى بيته، فظن عدي أنه سيقابل ملكًا متعاليًا في أفعاله، وفي طريقهما إلى بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، استوقفت امرأة مسنة النبي، فوقف معها طويلاً تكلمه في حاجتها، فقال عدي في نفسه: والله ما هذا بأمر ملك -هذا ليس ملكاً-، فلما دخل بيت النبي، يقول عدي بن حاتم: "ألقى إليَّ النبي بوسادة من أدم محشوة ليفاً، فقال: اجلس عليها، قلت: بل أنت، قال النبي : بل أنت، فجلست عليها، وجلس رسول الله على الأرض".

فأنلوا الناس منازلهم، لأن هذا من هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أمر صحابته الكرام بذلك فكانوا الأسوة الحسنة في إنزال كل واحد منزلته التي يستحقها.