حتى تُدْرك النتائج لابد من طرق أبواب الأسباب، وعلى قدر العناية بالسبب والدقة في التعامل معه يكون مستوى النتيجة صعوداً أو هبوطاً، فالعلاقة طردية بين السبب والنتيجة، فمن جد وجد، ومن زرع حصد، ومن سار على الدرب وصل، ومن طلب العلا سهر الليالي، ولكل مجتهد نصيب.. هي جمل حكيمة تحمل - في كنفها على قلة حروفها - قانوناً كونياً يحكم حركة الحياة والأحياء.. قانوناً لا يفرق بين جيل وجيل.. ولا بين دين ودين.. ولا بين لون ولون.. ولا بين جنس وجنس، إنما يحترم من احترمه، ويُعرض عن من أعرض عنه.



من أجل ذلك وجب الإيمان بحتمية هذا القانون أولا، لأن الإيمان به جزء لا يتجزأ من الإيمان بموجده وخالقه سبحانه، ثم تأتى مرحلة الالتزام بمفاهيمه وحدوده على نحو يضمن سريانه كما أراد الله بلا إفراط ولا تفريط، ثم العمل بمقتضياته بلا كسل أو ملل، ذلك لأنه يدير ظهره للمهملين والكسالى من الجبريين أصحاب النظرية السلبية التي تقضى بأن الإنسان ريشة معلقة في الفضاء تتقاذفه الريح أنى شاءت، وهم من حذفوا كلمة الإرادة الإنسانية القادرة على التغيير أو التأثير من قواميس مفرداتهم، وجلسوا في الصوامع ينتظرون السماء أن تمطر عليهم ذهباً وفضة..فأنى لهم؟!

إن أولى الناس بمعرفة هذا الناموس واحترامه هم المسلمين، لأن في قرآنهم وفى سنة نبيهم ما يدعوهم إلى التعامل والتفاعل مع أسباب الحياة القائمة لتفعيلها ووضعها على طريق الاستمرار، ثم البحث والتحري عما توارى من أسرار في جو السماء، أو في قاع البحر، أو في جوف الصخر أو في باطن الأرض لتكون أسباباً جديدة يتم الدفع بها في واقع الناس لتجديد و تطوير حياتهم ودفعها نحو الأفضل.

ولقد كانت الهجرة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام ولا زالت نموذجاً رائعاً للتخطيط العلمي السليم، كترجمة عملية على احترام قانون السبب والنتيجة من أفضل مخلوق " صلى الله عليه وسلم"، حيث طـُبقت في الهجرة كل مفردات وعناصر التخطيط من إعداد وتنظيم وتمويه وسرية كأفضل ما يكون التطبيق.

ورغم أن صاحب الرحلة هو النبي المعصوم والمؤيد من قبل ربه بنص القرآن الكريم ( وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ )، إلا أنه ضرب أروع الأمثلة في التعاطي مع الواقع المحيط به، ولم يتنصل من حقائقه، ولم يجلس في بيته رافعاً أكف الضراعة إلى ربه أن يبلغه يثرب سالماً بلا سعى أو تخطيط، إنما بذل كل الجهد والطاقة وتحرى كل السبل والطرق وأخذ بكل سبب متاح لإنجاح ما عزم عليه، ثم مع كل ذلك وبعده كان لا يكف عن اللجوء إلى ربه ليوفقه إلى ما قصد.

لقد أعد الرسول للهجرة.. (1) راحلتين من أجل الرحلة الطويلة والشاقة (2) وتحرى منتهى السرية في شأن توقيت الهجرة ولم يخبر به أحداً إلا صديقه أبا بكر رضي الله عنه (3) ونفذ تمويهاً ذكياً على صناديد قريش لما طلب من على بن أبى طالب أن ينام في فراشه لحظة مغادرته (4) ولما عين عيناً له على مكة كي تنقل إليه أخبارها وما يُقال فيها (5) ونفذ خدعة بقضاء يومين في غار ثور(6) وكلف من يزيل آثار الأقدام من حول الغار عن طريق الأغنام (7) واستعان "بمشرك" كمرشد للطريق(8) وسلك طريقاً غير الطريق المشهورة للو صول إلى يثرب...الخ.

هذه بعض الأسباب التي أخذ بها النبي لإتمام رحلته والوصول إلى غايته، وكل سبب منها يحتاج إلى تأملات طويلة من الباحثين والمهتمين، كي يقفوا على عظمة هذا الدين، وعلى عظمة رسوله الذي ما تخلى يوماً عن السماء وما تخلت عنه السماء يوماً، ورغم ذلك تعامل مع معطيات الله في الكون بمنتهى الاقتدار والدقة، ولذا لما عجزت الأسباب تدخلت عناية رب الأسباب ومسببها سبحانه لينصر نبيه وينفذ وعده، ولى هنا بعض الأسئلة أطرحها وأترك الإجابة عليها لقارئي العزيز...
(1) من الذي ألقى الغشاوة على أعين المشركين وهم أمام باب بيت رسول الله حتى خرج من بينهم ولم يروه؟.
(2) من الذي أمر العنكبوت أن ينسج خيوطه والحمام أن يضع بيضه على باب الغار وقت وصول المشركين إليه ليعمى أبصارهم وبصائرهم على رسوله عليه الصلاة والسلام؟
(3) من الذي سخَّر مشركاً لرسول الله حتى يكون دليله في السفر؟
(4) من الذي أربك سراقة بن مالك وأغار الأرض من تحت قدمي فرسه حتى طلب الأمان من رسول الله؟.

أريد أن أقول، إن السماء تقول كلمتها النافذة إذا نفذت أو عجزت أسباب المؤمنين.. بالماء أنجى الله نوحاً ومن آمنوا معه، وبه أهلك الكافرين، لما نفدت كل وسائل الهداية مع المعرضين.. من النار أنجى الله إبراهيم بأن سلبها خاصية الإحراق فكانت عليه برداً وسلاماً بعدما كلت حيلته مع النمرود ومن دار في مداره.. من بطش فرعون وجنوده أنجى الله موسى ومن معه بضربة عصا فلقت البحر ببركة " كلا إن معي ربى سيهدين "...وهكذا.

والنبي محمد هو القدوة المختارة من قبل الله لجميع المسلمين عامة، فهل نسير على دربه ونعمل ونخطط ونجتهد ونبذل قصارى الجهد ونحترم قانون السببية في الأرض؟.