ولذلك فمن وسائل الثبات عند المؤمن أن يدرك ضعف الفاسق والكافر الطبيعي مهما بلغت قوته المادية (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111)) لِمَ كل هذا؟ لِمَ هذا الجزاء؟ لأن الخروج عن أمر الله سبحانه وتعالى مدعاةٌ للهزيمة (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُون (112)) لا طريق للخلاص لأيّ أمة من الأمم إلا بعودتها إلى المنهج الرباني ولذلك هذه الآية تعرض صوراً من إذلال الأمم حين تخالف أوامر الله عز وجل. (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا) خلافات داخلية، تخلّف، استعباد، كوارث طبيعية، البعد عن المنهج الرباني كفيلٌ بتحقيق الهزيمة بكل أنواعها وصورها في حياة الفرد وفي حياة المجتمعات والأمم، لماذا يا رب؟ (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) والآية - كما تعلمنا في تدبر آيات الكتاب العظيم - فيها إشارة واضحة وتحذير لهذه الأمة، أمة القرآن، أن يا أمة القرآن لا تقعي في ما يقع فيه الأمم السابقة من أهل الكتاب، هذه النماذج التي جاءت في التاريخ تجعل هذه الحقائق قوانين وسنن لا يحيد عنها أحد من البشر. البعد عن المنهج الرباني وعدم تحكيمه في واقع الفرد وواقع المجتمع مدعاة لحدوث هذه المذلّة وهذه الكوارث وهذه المحن وهذه الخطوب ولا يُستثنى منها أحد. ثم تنتقل الآيات بعد ذلك في سورة آل عمران لتقديم نموذج جيد من أهل الكتاب، نموذج وقف عند أوامر الله، نموذج حقق القيم التي جاء بها الكتاب السماوي الذي نزل عليهم، أصحاب قيم ثبتوا على تلك القيم (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ (113)) وتأملوا معي كلمة "قائمة"، أمة ثابتة على أيّ شيء يا رب؟ (يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) الآيات توضح تعامل هذه الفئة الجيدة الراسخة الثابتة من أهل الكتاب مع كتاب ربها، كيف يكون التعامل؟ تلاوة لآيات الله آناء الليل وهم يسجدون، تعامل وتفاعل قلبي ووجداني واضح أثناء الليل مع آيات الكتاب العظيم ولكن في نفس الوقت هذا التفاعل الوجداني ما كان ليبقى تفاعلًا فقط في عالم الوجدان والعواطف بل تحول في النهار إلى فعل وسلوك وتطبيق في واقع الحياة (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)) التعامل المثمر مع آيات الكتاب، التعامل المثمر مع منهج الله عز وجل يتفاعل المؤمن معه تفاعلاً كاملاً يجعله يسجد يقضي الليل ساجداً قانتاً راكعاً بين يدي ربه عز وجل، خاضعاً متذللاً لتلك الآيات التي أوجدت عنده عناصر الإيمان ولكن في ذات الوقت التفاعل في النهار إنما هو متحول إلى سلوكيات، إلى واقع، إلى أعمال خيرية، أعمال صالحة، إلى مبادرة (وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) مباردة للعمل الصالح والنهضة به وحماية لمكتسبات العمل الصالح في حياة الفرد والأمم. وتأملوا معي تلك الصفات التي ذكرت في وصف الفئة الجيدة من أهل الكتاب كما هي عادة القرآن في الإنصاف حين يأتي الحديث والتعامل عن الآخر المخالِف والتي يعلّمني إياها القرآن، هي ذات الصفات التي ذُكرت في أمة القرآن الأمة الخيرية (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ (110)) إذاً هي القيم، القيم الثابتة التي جاء بها القرآن وجاءت بها كافة الكتب السماوية وجاء بها كل الأنبياء والرسل من قبل، هذه القيم هي التي مطلوب من المؤمن أن يثبت عليها، هي التي تشكل التفاعل الحقيقي لقيم القرآن، هي تشكّل التعامل الحقيقي، المصداقية للتعامل مع آيات الكتاب القرآن والكتب السماوية المختلفة (وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (117)). ثم تأتي الآيات بعد ذلك لتقدم لي نموذجًا آخر وسيلة أخرى من وسائل الثبات على الحق وعلى القيم القرآنية والقيم التي جاءت بها الأديان السماوية أن زهرة الحياة الدنيا من مال ومن أولاد ومن مكتسبات مادية بمختلف أشكالها حين تراها يا مؤمن بين أيدي الكفار، بين أيدي أولئك الذين نقضوا عهد الله، أولئك الذين اشتروا بمنهج الله ثمناً قليلاً فلا يغرنّك ذلك ولا يكون ذلك مدعاة لأجل أن تزيغ وتحيد عن الحق الذي أنزله الله في تلك الكتب العظيمة. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا (116)) المنافسات الموجودة في الدنيا كثرة الثروة المادية أو العلمية لا تعني أنك يا مؤمن معنى ذلك أنك تخضع لتلك الفئات من البشر. هؤلاء الذين يختلفون معك في قيم الحق والعدل التي جاءت بها كل الكتب السماوية لا تخضع لهم حين ترى الدنيا قد حيزت لهم وجمعت بين أيديهم ووضِعَت فإن جمع الدنيا واكتساب الثروة المادية والعلمية لا يعني الخيرية بحال، أبداً! لا يعني الخيرية، لماذا؟ لأن الذين حادوا عن قيم الكتب السماوية والديانات السماوية أخطأوا في فهم الحياة، أخطأوا في فهم الآخرة، أخطأوا في الأهداف والغايات والمقاصد وبالتالي كل الوسائل التي يتوسلون بها من وسائل مادية أو مكتسبات ومنجزات مادية حضارية لا تغني عنهم شيئاً. ولذلك تأملوا الآية التي تليها (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)) إذاً تلك المكتسبات المادية والتقدم المادي أو التقني أو العلمي لا يعني أن تخضع لهم، هؤلاء قوم أخطأوا المقاصد والأهداف فجاءت كل الوسائل والطرق التي يمشون عليها في طريق الحياة جاءت زائفة، لا قيمة لها، وقعوا في ظلم أنفسهم حين ابتعدوا عن المنهج الرباني العظيم، حين ابتعدوا عن أوامر الله سبحانه وتعالى والقيم التي جاءت بها الأديان. ولذلك كان من الطبيعي أن يأتي التحذير بعد ذلك للمؤمنين في آية واضحة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا (118)) لا تتخذوا من هؤلاء الفئات التي أخطأت في الأهداف، أخطأت في المقاصد، حادت عن منهج الله لا تقربونهم إليكم، لا تتخذوا منهم مهما بلغ قشر المادة التي هم يحتشدون فيها وحولها، مهما بلغت القوة أو التقدم أو التطور المادي أو الذكاء العلمي لديهم، لا تتخذوا من هؤلاء مستشارين لا تتخذوا من هؤلاء أصحاب خبرة يقدمون إليكم المعلومات التي تحتاجون إليها في بناء مجتمعاتكم أو في بناء دولكم، لماذا يا رب؟ لماذا كل هذا التحذير؟ (لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا) الضرّ، يوقعون بكم الضر، يوقعون بكم الأذى، ولماذا قضية إيقاع الأذى وذاك التحذير الشديد منهم؟ إختلاف المقاصد. أنتم اختلفتم في الأهداف معهم هؤلاء أناس ليسوا بأصحاب رسالة ولا قيم وإن تبدّى لكم أنهم قد اكتسبوا القيم المادية، القيم التي جاءت بها الأديان، القيم العظمى من عدالة ومن حرية ومن مساواة لا يمكن أن تنفك عن القيم المادية أو المنجزات المادية. وحين يخطئ الإنسان في تلك القيم الأساس التي جاءت بها الأديان قطعاً سيخطئ كذلك في الوسائل. اختلفتم في هذه القيم، اختلفتم في هذه الأهداف، لا تجعلوا منهم بطانة تقربونها إليكم، ترجعون إليها في أموركم. القرآن يكشف عن هذه الحقيقة، المؤمن يحتاج أن يكون فطناً، يحتاج أن يكون حذراً دون أن يتهم النوايا. المؤمن بإيمانه لا يعني أنه مدعاة للفشل أو مدعاة لأن يقع أسيراً لأهواء الآخرين من أصحاب اللاقيم، لا، المؤمن إنسان على حذر المؤمن إنسان في غاية الفطنة والذكاء يحسب لكل شيء حسابه القرآن يعلمه كيف يكون إنسانًا مدبرًا، إنسانًا مخطِطًا، إنسانًا ينظر إلى المستقبل، يستشرف، يتطلّع، يحسب المكاسب والمساوئ والخسارة بكل المفاهيم المختلفة يحسب الأمور من زوايا متعددة ولذلك ربي عز وجل بعد التحذير جاء بقوله (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور (119)) النوايا ليس للمؤمن أن يتدخل فيها، ليس للمؤمن أن يُحاكِم البشر وفق نواياهم ولكن للمؤمن أن يكون حذراً، للمؤمن أن يعرف الأمور وأن يقيسها بشكل جيد. (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا (120)) المؤمن لا ينجرف في نزاعات داخلية، المؤمن لا ينجرّ وراء الكيد والمكر والحيل، المؤمن ليس بالخدّاع ولا بالمكّار ولا بالمختال، المؤمن ليس بالإنسان الذي يتعامل بالخداع وأسلوب الحيل والمكر والدهاء غير القِيَمي الذي لم تؤسسه ولا تؤسسه آيات القرآن. المؤمن إنسان صادق، المؤمن عنده مصداقية نبعة من إيمانه وتقواه لله عز وجل مصداقية ثابتة مطلقة لا تتغير بتغير الأشخاص من حوله، المؤمن إنسان صاحب مصداقية مع المؤمن والكافر، مع المؤمن والمنافق على حد سواء، ولكن في ذات الوقت هو ليس بالإنسان المغفّل لذي يمكن أن يُستغل إلى أبعد حد، لا. المؤمن إنسان صاحب قيم ولكن هذه القيم لا تعني أن يكون مغفّلاً ولكنه تعني أن يكون واقفاً عند أمر الله له بالتحذير ولذلك هذه الآيات بيّنت وسائل التعامل مع الزائغين والضالين عن القيم التي جاءت بها الأديان، كيف يتعامل المؤمن؟ كيف يتعامل المؤمن في أجواء وفي عصور تموج بالضلال والمكائد والمكر، كيف يتعامل؟ القرآن يقدّم له أول أسلوب من أساليب التعامل الثبات على المبادئ والقيم وليس على المصالح، ليس على المصالح الشخصية ولذلك جاءت الآية بالتحذير (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا (118)) لا تقدّم المصلحة الشخصية لذاتك على مبادئك وقيمك. لا تتنازل عن القيم والمبادئ التي تؤمن بها في كتابك لأجل تحقيق مصلحة شخصية أو غرض قريب من أغراض وعروض الدنيا، لا تتنازل. ثم إنك تواجه الآخرين من أصحاب الزيغ والفتن والضلال والبعد عن القيم والمتاجرة بها تواجههم بسلاحين: الصبر والتقوى، فالصبر والتقوى يؤديان إلى الثبات والثبات ليس له أبداً نتيجة إلا النصر. وفي ذات الوقت اِثبت على تلك القيم التي جئت لتحرر الناس من أسر الحيد والزيغ عنها. ما هي تلك القيم؟ تأملوا معي في قوله تعالى (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ (121)) المؤمن لا يحقد، المؤمن لا يبغض إلا لله ومعنى البغض لله أن يبغض الفعل لا يبغض الشخص، المؤمن ليس بالإنسان صاحب العداوات الشخصية، المؤمن ليس إنسانًا يعادي لأجل عرق أو تعصب أو قومية أو ما شابه. المؤمن صاحب مبادئ، المؤمن لا يحسد وهذه من أعظم أدوات النصر الإلهي والتعزيز والتمكين له. ولذلك جاءت الآية في نهايتها (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) الكلام موجّه عن هؤلاء، عن أولئك الزائغين، أولئك الذين يتاجرون بالقيم ( قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ). ولتأكيد معنى الثبات في نفس المؤمن وعدم الحيدة عنها تأملوا في الآية التي تليها (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)) تولى ربي سبحانه وتعالى الدفاع عن المؤمنين. إن الله يدافع عن الذين آمنوا كما أن أولئك المؤمنين دافعوا عن المبادئ والقيم التي أمر بها الله عز وجل فإن الجزاء من جنس العمل. ربي سبحانه يدافع عنهم ضد هؤلاء، لا يضركم كيدهم شيئاً، الكيد والمكر والتخطيط والدهاء والغيظ والكراهية والحقد والحسد، هذه الوسائل كلها لا يمكن أن تقود إلى نصر بل ستقود إلى هزيمة حتمية، هذه ليست أسلحة النصر، هذه أسلحة الهزيمة. المؤمن لا يستعمل هذه الأسلحة بحال، المؤمن لا يبغض، المؤمن لا يحسد لأنها مضادة للقيم التي جاء بها القرآن. المؤمن أُريد له أن ينشر الرحمة والسلام بين البشر، أن ينشر المحبة بين الناس لا أن ينشر العداء والبغضاء والكراهية والحقد حتى وإن وُجِهَ بتلك الأسلحة المؤمن سلاحه الرئيس إيمانه بالله وتقواه وصبره على من آذاه، ذاك الصبر الذي ليس بالصبر السلبي كما يتخيله البعض، الصبر ليس سلبياً، الصبر من أعظم الوسائل التي أسستها سورة آل عمران (اصبروا وصابروا) كما سنأتي عليها. ذُكِر في السورة في عدد من الآيات العظيمة والمواقف العظيمة على المستوى الفردي وعلى المستوى المجتمعي والأممي. الصبر يعني التفكير في المستقبل، يعني بعد النظر، يعني التخطيط، يعني النظر في المآلات وعواقب الأمور والنتائج والحسبان، حَسْبُ الأشياء واحتسابها والنظر في نتائجها، التفكير في العمل قبل أن أقوم به ومحاولة استشراف نتائج العمل. الصبر ليس عملاً سلبياً، الصبر عمل إيجابي إنتظار إيجابي يرافقه عمل صالح ترافقه نية صادقة وإخلاص وتوجّه لله عز وجل وحده. أما التقوى التي تتحدث عنها الآيات في مواجهة أسلحة الأشرار هي تقوى إيجابية لا تعني الخضوع لواقع منحلّ، لا تعني الإنفلات من العمل الصالح تعني الوقوف على المبادئ والقيام بها، أمة قائمة ثابتة راسخة (قل آمنت بالله ثم استقم) اُثبت على الحق الذي تؤمن به، اُثبت على القيم التي تحملها في قلبك مهما زاغت بمن حولك الأهواء والشهوات والقيم المضادة، هذه أسلحة الثبات والنصر. ولذلك بعد هذه الآية مباشرة انتقلت الآيات للحديث عن الغزوة عن غزوة أحد ثم غزوة بدر، عن مواقف تعرض لها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. تحدثت مباشرة على التطبيق العملي، على النموذج الذي قدمته كأمثلة لتلك المعاني، لذاك الصبر، لتلك التقوى التي تحدثت عنها. ولذلك جاءت الآيات في توصيف دقيق لغزوة أُحد (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ (121)) استعداد مادي، تجهيز العدّة والعتاد، استعداد مادي بحت لكن تأملوا كيف يربط القرآن بين الاستعداد المادي والاستعداد الروحي، كيف يجعل التقوى قضية حاضرة في لبّ المعركة، كيف يجعل التقوى قضية حاضرة في الاعداد المادي لأي مواجهة أو معركة (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) عليم بالنوايا ولذلك لا يمكن أن يتم إعداد الجيش إعدادًأ حقيقيًا دون أن يكون له رصيد من التقوى، من الشعور بأن الله سميع عليم، بأن الله مطّلع على النيّات والمقاصد والأهداف. وهذه لفتة واضحة جدًا أن المؤمن وأن المؤمنين كجماعة وكأمة لا تخرج لأجل مصالح شخصية، لا تخرج لكي تقاتل الناس لأجل أن تفرض آراءها أو تفرض مبادئها بالقوة، إطلاقاً! المؤمن إنسان يصفي نيته لله عز وجل، يتعلم الإخلاص والصدق، لا يُخرجه إلا الله ولا يخرج إلا لله ولا يقاتل إلا لله، لا يقاتل من أجل مناصب لا يقاتل من أجل السيطرة أو الاستحواذ على ممتلكات الشعوب والأمم لا يقاتل لأجلها لا يخرجه ذلك على الإطلاق. المؤمن كل ما فيه وكل حركة فيه وكل سلوكية وجزئية من جزئيات حياته متحركة بأمر الله، متحركة بصدقه وإخلاصه لله عز وجل وهذا من أعظم أسباب النصر. ولذلك ربي عز وجل ذكّر المؤمنين في ذلك الموضع وذكر نبيه صلى الله عليه وسلم(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) آل عمران) من الذي ينصر؟ الله. هل الإنسان يأتي ويأتيه النصر من تلقاء نفسه؟ لا، المؤمن عليه أن يستحضر هذه الحقيقة الكبرى أن النصر من عند الله، أن النصر ليس من الغرب ولا من الشرق، أن النصر ليس بالعدة المادية فحسب، هذه وسائل، هذه جزئية ولكن الجزئيات الأكبر أن النصر من عند الله عز وجل فعليك أن تكون مع الله وتخرج لله لأجل أن ينصرك وإلا فلن يتحقق النصر. (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ) ولم يكن لديكم ذاك الرصيد المادي الذي تعتمدون عليه، لم يكن لديكم تلك القدرة المادية التي تواجهون بها كفار قريش ورغم ذلك نصركم الله. (فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) تأملوا التقوى، الوصية بالتقوى، الوصية بإصلاح علاقة الإنسان مع الله عز وجل التي بها صلاح شأنه. المؤمن لا يصلح شأنه فردًا كان أو جماعة أو دولة أو أمة إلا بصلاح علاقته مع خالقه، إلا بتصحيح المنهج الذي أراد له الله أن يسير عليه في الواقع. ولذلك جاءت الآيات التي تليها بتثبيت المؤمنين، بإعطاء المؤمنين وسائل للنصر لا يمكن أن تكون للكافر أبداً (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) آل عمران) جيش من الملائكة وجيوش الملائكة لا يمكن أن تقاتل من أجل باطل، جيوش الملائكة لا يمكن أن تكون مع أناس حركتهم المصالح الشخصية، جيوش الملائكة لا يمكن أن تقيّض وتنزّل إلا بأمر الله الواحد القهار والله لا يحر"كها من أجل أحد ولكن يحركها لأجل قلوب استماتت من أجل الحق الذي أمرها الله به. (بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) آل عمران) إذاً هذا من عند الله، هذه وسائل ربانية من عند الله لا يمكن للعلم ولا للتطور ولا التقدم في آليات الحروب أن تعرف لها سبيلاً. لا يعرفها إلا المؤمن، المؤمن الذي خالجت التقوى خاصية وسويداء قلبه، المؤمن الذي صبر على المبادئ والقيم، المؤمن الذي ثبت عليها، المؤمن الذي جاءت المعركة لتؤكد ثباته وصبره بالله عز وجل. تأملوا في آيات ما بينها آيتين أو ثلاثة (بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا) والآيات التي قبل (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا)الصبر والتقوى، ثبات، ثبات على قيم القرآن العظيم التي جعل الله سبحانه وتعالى البشارة للمؤمنين بها والاطمئنان بها والتأكيد على الحقيقة الكبيرة الحقيقة الأخرى من جديد (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) آل عمران). هذه الحقيقة لا ينبغي أن تغيب عن المؤمن بحال أن النصر من عند الله وأن الهزيمة من عند النفس الأمارة بالسوء من قبيل حظوظ النفس والاستجابة والخضوع لمتطلباتها. أما النصر فهو من قبيل الخضوع لأوامر الله عز وجل وتلك حقيقة حاضرة في هذه السورة العظيمة. ولذلك ربي عز وجل بعد ذلك لم يدخلنا في تفاصيل ما حدث في غزوة أحد من شيء من الهزيمة في نهايتها للمسلمين حين خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم من عدم التحرك من مواقعهم من جبل الرماة ليس لك من الأمر شيء(لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)) الأمر ليس للنبيصلى الله عليه وسلم فالنبي صلوات ربي وسلامه عليه مبلِّغ شاهِد ولكن الأمر من قبل ومن بعد لله الواحد القهار. ولذلك ربي سبحانه وتعالى بعد هذه الآيات العظيمة بدأ بتحقيق أسباب النصر وتقديمها للمؤمنين من جديد. الكلام في الآيات عن غزوة أحد في بداياته ثم مباشرة تنتقل الآيات إلى قوله عز وجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَآَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)) وقد يقول قائل وما دخل الحديث عن الربا في الحديث عن الغزو ومواجهة الكفار والحديث عن النصر؟! لا يمكن أن يتحقق نصر خارجي في مواجهة مع الكفار إن لم يتحقق النصر الداخلي في المجتمع، لا يمكن. لا يمكن لأمة لم تتمكن من إصلاح أوضاعها الداخلية، المجتمعية السلوكية الاقتصادية أن تواجه عدوًا وتنتصر عليه! عليك أن تصلح أوضاعك سواء كانت تلك الأوضاع على مستوى الفرد وتعاملاته أو على مستوى المجتمع والأمة التي تخوض المعركة وتخوض المواجهة. واجِه أوضاعك الاجتماعية أصلح شؤونك الداخلية قبل أن تتوجه إلى ساحة المعركة، ولذلك آيات سورة آل عمران تقدم قوانين النصر. قوانين النصر في أي مواجهة لأي أمة من الأمم التي حادت عن المنهج الرباني وتحقيق قيمه في واقع الحياة. لأجل أن يكتب لك النصر عليك أن تنتصر على نفسك وأهوائها وشهواتها في الداخل وإلا فلن تُنصر في الخارج. النصر إنما يبدأ بالنفس لا يبدأ بالآخر، لا يمكن لأمة أن تنتصر على عدوها وهي لم تتمكن من أن تنتصر على شهوات نفوسها وأهوائها لا يمكن أبدًا، والربا الذي هو مكتسب غير مشروع حرمه الله عز وجل، استغلال لحاجة الضعيف إيجاد طبقة من المترفين لطبقة من المستغلين طبقة من الناس الذين تحركهم غرائز جمع الأموال ومصادرة حقوق الآخرين واستغلال ضعفهم وفقرهم وحاجتهم، أمر لا يقبله القرآن أمر لا يقبله الإسلام ولا الكتب السماوية العظيمة ولا بالأديان ولم يأت به رسول من الرسل هذا الأمر هذه المخالفة البينة الواضحة لا يمكن أن تبقى في مجتمع يراد له أن ينتصر في مواجهته مع الضالين والزائغين. ولذلك كما هي عادة القرآن (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). ثم تنتقل للوسيلة الأخرى مباشرة (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)) نفِّذ المنهج. آيات القرآن العظيم ما جاءت من أجل أن تكون وآيات وحسب جاءت ونزلت لأجل أن تكون آيات تطبق في واقع حياتك في نفسك في مجتمعك طاعة الله متابعة المنهج الذي تقرأه في كتاب الله في أبسط وأدق جزئيات حياتك. وتنتقل بعد ذلك إلى الوسيلة الأخرى من وسائل النصر في المواجهة (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)) مبادرة، مسارعة، استحضر دائماً أنك في سباق مع الزمن، الأيام معدودة والأجل محتوم والعمر قصير والمؤمن إنسان صاحب مبادرات، إنسان لا يضيع شيئًا من وقته فيما لا طائل من ورائه. ولذلك جاءت الآيات التي تليها في متابعة المنهج في الحديث عن الإنفاق إصلاح أوضاع اجتماعية، إنفاق في السراء والضراء (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)) ممارسات وسلوكيات اجتماعية، إحسان إلى الآخرين. المؤمن الذي يواجه وينتصر في المعركة إنسان صاحب قيم وصاحب سلوك متميز في تعامله مع الآخرين. ثم تختم الآيات بالحديث عن التوبة والاستغفار والرجوع عن الذنوب، لماذا؟ من أعظم أسباب الهزائم الفردية والجماعية في الأمم كثرة الذنوب والخطايا والمعاصي، مخالفة أمر الله عز وجل، مخالفة المنهج الذي نزل في هذا الكتاب العظيم بشتى أنواع المخالفات. ولكن كيف تعالج تلك المخالفات؟ سورة آل عمران في آية واحدة تقدم لي التعامل مع المخالفات، الاستعداد، الإعداد النفسي للقاء العدو ولمواجهته (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)) تذكُّر لله سبحانه وتعالى، تذكر من خالفت، أنا حين يصدر مني مخالفة لأمر الله عليّ كمؤمن إذا كان دواعي الإيمان لا تزال في قلبي حية تنبض بالحياة أن أتذكر الخالق الذي خالفت أمره، أن أتذكر الخالق الذي خرجت عن أوامره وتعديت الحدود التي وضعها لي في حياتي (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ) الاستغفار هنا ليس عملًا سلبيًا، ليس كلمات باللسان أستغفر الله العظيم وأتوب إليه وأنا منغمس في أوضاع مخالفة لأمر الله، هذا ليس بالاستغفار الكامل، أبداً! التوبة من شرائطها العزم على عدم الرجوع إلى الذنب، التوبة من أعظم شروط تحققها وقبولها أن يشعر الإنسان المسلم بالندم على ما قد صدر منه والعزم على عدم الرجوع إليه (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا) تراجع عن الخطأ، إصلاح الوضع السابق، الأعداء لا يمكن أن يواجهوا بذنوب. أنا لا يمكن أن أتوقع النصر وأنا مليء بأوضاع خاطئة، أوضاع غير صحيحة، أوضاع نفسية وتراكمات اجتماعية وسلوكيات منحرفة، لا يمكن. ولذلك التوبة من أعظم الأسلحة التي يُكتب بها النصر للمؤمنين التوبة التي تعني التراجع عن الخطأ ولذلك ربي في الآيات التي تليها قال (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)) قوانين، هناك قوانين. هذا الكون يجري وفق قوانين في كل شيء، هذا الكون خلق خلق الله عز وجل جعل فيه قوانين ثابتة لا تحابي أحدًا من البشر، هذه القوانين للنصر كما هي للهزيمة، هذه القوانين التي جاءت في سورة آل عمران في النصر، لماذا؟ ليحدث المؤمنين عن أسباب الهزيمة التي وقعت في معركة أحد أسباب الهزيمة، تحليل. لا يمكن أن تقع بي هزيمة على أي مستوى مستوى فردي أو جماعي أو كوارث أو نتائج سلبية دون أن أقوم بدراستها، بتحليلها، بالنظر لماذا وقعت وكيف وقعت؟ بمراجعة النفس على المستوى الفردي أو المستوى الأممي، مراجعة النفس، مراجعة المواقف. ولذلك الآيات أنهت بقوله تعالى (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)) بيان لأسباب النصر، بيان لسنن النصر والهزيمة حتى يكون المؤمن على بينة وهو ويخوض في واقع المواجه. ولذلك جاءت بعد ذلك الآيات تطمينًا لنفوس المؤمنين تهوينًا وتخفيفًا على قلوب المؤمنين الذين أدركوا مواطن الخلل والخطأ وعزموا على الرجوع والتراجع وإصلاح ما كان من خلل (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)) الابتلاءات، المحن، الهزائم، النكبات، النكسات، القروح، الجروح، الندوب، الآلام، الأحزان، هذه من واقع الحياة تصيب المؤمن وتصيب الكافر والأيام مداولة بين الناس ولكن المؤمن يفقه معنى الابتلاء والاختبار ولا تكون الخطوب أو المصائب والشدائد التي تمر به سواء على مستوى الحياة الفردية واليومية أو على مستوى الأمم والدول لا تكون مدعاة لإدخاله في نوبة اكتئاب أو في نوبة حزن سلبي فالحزن منهيٌ عنه في القرآن، ما ذُكِر الحزن في موضع القرآن إلا وقد نُهي عنه (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا (40) التوبة) (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) آل عمران) لماذا هذا النهي عن الحزن؟ حزن سلبي يُدخل الإنسان في مداخل غريبة بعيدة عن قيم القرآن، المؤمن متفائل، القرآن يزرع الأمل والتفاؤل في نفس المؤمن. القرآن وسورة آل عمران تعلمني أن أتعلم من الخطأ، الهزائم والنكبات والمصائب تجعل الإنسان إذا تعلّم مواضع ومواطن الخطأ فيها أكثر قوة أكثر صلابة أشد قدرة على مواجهة تلك الصعاب والمحن والابتلاءات. ثم إن سورة آل عمران تقدم لي فقه الابتلاء، فقه المحن، فقه التعامل مع المشاكل، فقه التعامل مع مصائب الحياة، مع أزماتها (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)) والآية التي قبل (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) اختبار، تمحيص، لا يمكن أن يكون هناك إيمان بدون تضحيات، لا يمكن أن يكون هناك ثبات بدون أن يقدم الإنسان عربونًا لذلك الثبات. المحن والشدائد والمصائب لها حِكَم، لها مشيئة من إرادة الله سبحانه وتعالى، فيها دروس، فيها عبر تفرز المؤمن من المنافق من الكافر، تمحيص، يمحص، المحن والشدائد والصعوبات طهارة للمؤمن، تنقية لإيمانه، غربلة لعناصر الثبات في حياته، ترك وفرز لعناصر الضعف من القوة في قلبه ونيته وإخلاصه لله عز وجل يمحّص، تمحيص. ولذلك الآية التي تليها (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)) كثير من الناس اليوم يتساءل لماذا المحن؟ لماذا يحصل لي هذا وأنا مؤمن وأصلي؟! كثير من الناس بعض المؤمنين اليوم حين يواجه بمصيبة فقد عزيز، مرض عضال، ضائقة مادية شديدة، إصابة في أولاد، إصابة في شيء من هذه الأمور المادية المختلفة على المستوى الفردي وأحياناً على المستوى المجتمعي أول سؤال يتبادر لذهنه وإن لم يصرِّح به لماذا أنا؟!!وأنا مؤمن بالله، أنا أخاف الله، أنا أصلي لله، أنا أقوم بفروض الطاعة والولاء لله لماذا يصيبني هذا؟! هذا التساؤل في حد ذاته غير مشروع كيف؟ المؤمن لا يصلي لأجل أن لا يصاب بمحن، المؤمن لا يمتثل لأوامر الله لأجل أن يحميه الله سبحانه وتعالى من النكبات والمصائب، المؤمن ليست هذه هي الغاية لديه المؤمن يمتثل لأمر الله لله، المؤمن يصلي لله لأن الله قد أمره بذلك، المؤمن يسير على منهج الله لأنه المنهج الحق الذي أمر به الله عز وجل سواء كان فقيرًا أو غنيًا، سواء أن الله سبحانه وتعالى ابتلاه بمرض أو كان صحيح الجسم، سواء أقبلت عليه الدنيا أو أدبرت. قضية الإيمان والامتثال والسير على منهج الله قضية لا ينبغي أن تخضع لظروف الحياة ونكباتها وأزماتها، هذا من فقه الابتلاء والاختبار، هذه من فوائد المحن والمصائب والشدائد، إفراز قيمة المؤمن، قيمة الإيمان في قلبه، تمحيص، طهارة. ولذلك ألم ونار وشدة التضحيات والمصائب ومرارة المواقف الصعبة في حياة المؤمن لها لذة خاصة حين يصبر عليها المؤمن. صحيح المؤمن يسأل الله العفو والعافية ولكن إن أصابته المحنة أو الكرب ما تراجع عن إيمانه بل ثبت على الإيمان ثبت على القيم، تأكد أن الله سبحانه وتعالى إنما يختبر ويمتحن قوة يقينه وثقته بالله عز وجل وليس مجرد قوة الإيمان أو عدم الإيمان بل قوة يقينك بالله. أنت تعلم وتقول بأن الله رحمن رحيم ما مدى يقينك بهذا الإيمان؟ ما مدى يقينك بهذه الصفة أن الله رحمن رحيم عزيز حكيم؟ كل ابتلاء وكل مصيبة من ورائها حكمة وفي أمر الله عز وجل. ثم إن جدارة الدخول إلى الجنة تقتضي منك أن تقدم التضحية، الإيمان ليس بالتمني ليس بالأماني الباطلة، ليس أن يتمنى الإنسان الجنة ولا يسعى لها ولا يقدم مهرًا لها ولذلك جاءت الآيات (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)) تراجعتم، تخاذلتم، زغتم وحدتم عن المنهج الحق ولم تثبتوا عليه، هنا موطن الشدة والابتلاء هنا اختبار موطن الثبات على الحق ولذلك ربي عز وجل قرر هذه الحقيقة أمام مصيبة الموت، الموت مصيبة تقع على الإنسان سواء في نفسه أو في غيره ومن يعزّ عليه (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)) الموت لا ينحصر في القتال ولا في ساحة المعركة والثبات في ساحات المعركة ومواجهة العدو لا تقصّر أجلاً كما أن الجبن والتراجع والتخاذل والفشل وعدم الثبات لا يطيل عمر الإنسان ولا يؤخّر في أجله شيئًا، كتاب مؤجل عند الله عز وجل. فلتكن إرادة المؤمن الآخرة، التطلع إلى الإيمان، القوة الروحية ولذلك تقدم سورة آل عمران في هذا الموقع من السورة وسائل النصر" القوة الروحية" القوة التي لا يمكن أن تستمد إلا من هذا الكتاب العظيم آيات القرآن العظيمة. ولذلك ضربت مثلاً لكل المؤمنين عبر العصور مع أنبيائهم وكتبهم (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ (146)) كثرة مهولة كما أن للباطل من ينصره فإن للحق آلاف مؤلفة وجنود مجندة تنصره عبر الأجيال وعبر التاريخ. (فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) وهن ضعف خضوع تذلل واستكانة لمن يخالفوك في القيم والمبادئ التي أنت ينبغي أن تثبت عليها، من جراء ماذا؟ من جراء عدم الثبات، من جراء عدم القدرة والاستعداد للتضحية. ولذلك النصر لا يُكتَب إلا بهذه المبادئ، قوة روحية مستمدة من القرآن العظيم. إيمان وثبات على الحق استعداد للتضحية بالغالي والنفيس لأجل ذلك الإيمان الذي تحمله في قلبك. لا معنى للإيمان إن كان مجرد تمني وأماني باطلة وحين تحق الحقيقة ويطلب الله من عباده التضحية بالمال والنفس لا يجد منهم إلا التخاذل، هذا ليس بالإيمان! هذه أماني باطلة، استعداد. ثم يصاحبه الدعاء ليصبح سلاح المؤمن الماضي الذي لا يمكن أن يرد ولا يصد (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)) في تلك الأجواء الإيمانية العظيمة وتلك الاستعدادات المادية والروحية والوجدانية وتلك الاستعدادات للتضحية بكل شيء لأجل هذا المنهج والثبات عليه والسير على ما جاء فيه لا يمكن أن يكون الجزاء إلا الجنة (فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)). تدبر سورة آل عمران - 3-الجزء الأول- د. رقية العلواني