"لا قيمة للحياة من دون عشق. لا تسأل نفسك ما نوع العشق الذى تريده، روحى أم مادى، إلهى أم دنيوى، غربى أم شرقى... فالانقسامات لا تؤدى إلا إلى مزيد من الانقسامات. ليس للعشق تسميات ولا علامات ولا تعاريف. إنه كما هو، نقى وبسيط".

هكذا تقول القاعدة الأربعون والأخيرة من قواعد العشق التى بثها الصوفى الكبير شمس الدين التبريزى، فى الرواية التى تحمل اسم "قواعد العشق الأربعون" والتى كتبتها الروائية التركية "إليف شافاق"، وترجمها إلى العربية د. خالد الجبيلى، ويتضح من هذه الرواية أن "إليف شافاق" كاتبة تدرك الغرض من الذى تكتبه، كما أنها تعرف قدرة الكتابة على النفاذ إلى النفوس العطشى، التى تمثل الكتابة لها أكثر من خربشات على الورق.

"قواعد العشق الأربعون" رواية تخاطب القلب، تلقى فى طريقه الإشارت التى يتبعها للوصول للحقيقة، وتتوجه إليه همسا وعلنا بالكتابة، وترسل له القواعد المعنية بالعشق والمراسلات التى يتبادلها العاشقون، وتترصد للروح بكل الفصول والفقرات التى صاغتها، إذن هى رواية تعرف متلقيها وتخاطبه، بعيدا عن العالم القاسى الذى يصدم القلب والعقل ولا يحاورهما.

ربما أرادت "إليف شافاق"، فى البداية، أن تكتب عن الصراع بين الشرق والغرب فاكتشفت أن الهوة أوسع مما تبدو، وأن هناك صراعا بين الروح والجسد أولى بهذا الأمر، فليس الخطر فيمن يسكن هنا ومن يسكن هناك، وليست المشكلة فى طريقة حياتنا لكنها فى فهم المغزى من حياتنا، كما ليس الهدف كيف نبدأ المهم كيف ننتهى، فالتلميذ ذو الشعر الأحمر الذى بدأ حياته يريد أن يكون درويشا انتهى به الأمر تاجرا نصابا كاذبا، بينما "ورد الصحراء" البغى انتهت تائبة تبحث عن الله، هذا وغيره الكثير قالته لنا الرواية الأكثر تسربا للنفس فى قراءاتى الأخيرة.

"قواعد العشق الأربعون" يدور إطارها عن حكاية لقاء الصوفى المتبحر شمس الدين التبريزى ورجل الدين وريث المجد جلال الدين الرومى، 1244 فى مدينة قونية من بلاد الأناضول، حيث يظهر الأستاذ عندما يكون التلميذ مستعدا، كى يبث فى روحه الذى يحتاجه من رؤية جديدة للأشياء، ومن تفسير مختلف للحكايات.. وهى أيضا عن (إيلا) التى تسكن نورثامبتون بأمريكا 2008، بحياتها المنتظمة وقلقها وتخطيطها وهروبها و(عزيز.ز.زاهار) الذى يسكن العالم، ويجول فى كل البلاد البعيدة والفقيرة ويعيش فقط اللحظة الراهنة لأن "الماضى تفسير والمستقبل وهم".. وهى أيضا رواية عن رحلة صوفية ترتقى فى مراتب التدرج للوصول إلى الله.. هى رواية ضد الخوف والاستسلام وكل المفاهيم السلبية فى حياة الإنسان.. وهى أيضا رواية عن حب دنيوى ناجح أحيانا وفاشل فى أوقات أخرى.. والرواية بالعموم تدور حول أشخاص يعذبهم الجهل وتؤرقهم المعرفة.

من ناحية أخرى يمكن القول، إن طريقة كتابة الرواية تشبه رقصة "سما" التى وضعها شمس التبريزى وجلال الدين الرومى كرقصة خاصة بالدراويش، بكل تقنياتها البسيطة والعميقة، باختلاف طبقات الموسيقى والرقص والأزياء التى يرتديها الراقصون، فالرواية تدور بين شخصيات من أزمنة مختلفة وأماكن متفرقة، ومستويات مجتمعية متنافرة، كأن يجتمع سليمان السكران وجلال الدين الرومى فى حانة صغيرة، يتحدثان كأنهما صديقان قديمان اعتادا الجلوس فى المكان نفسه، وكأن يكون هناك تشابه بين شمس الدين التبريزى وعزيز الاسكتلندى رغم مرور ثمانمائة عام.. كما أن رقصة الصوفيين "سما" تحاول أيضا أن تربط السماء بالأرض، والخالد بالفانى، والدائم بالمؤقت، والمقدس بالمدنس.

بالإضافة إلى أن شخصيات الرواية تمثل جانبا من هذه الرقصة الدائرية، فكل شخص فى الرواية يرى من وجهة نظره ما يريد أن يراه، يحب ويكره، يفسر الأمور من وجهة نظره، وشمس التبريزى الصوفى العارف يقول لك، هكذا الحياة وجهات نظر مختلفة لشىء واحد، بينما "إليف شافاق" تستخدم تقنية تعدد الأصوات كى يظل النص صاخبا ونافذا وقويا كموسيقى صوفية.

"قواعد العشق الأربعون" هى كتابة مغايرة للعالم الذى نعرفه، أو نحاول أن نعرفه، تجعل من الإنسان جوهرا ومن الله هدفا، كتابة تحدثك عن الموسيقى والشعر والحب والصداقة والإخلاص والإيمان، وتجعل من هذه الأشياء قيمًا تعاش من أجلها الحياة، هى لا تتخيل العالم لكنها تعيد قراءته، كما أنها تترك مساحة للشر والموت والخيانة والخديعة والفقر والشهوات والأنانية والضياع والكفر، وترى أن كل ذلك ضرورى كى ندرك النقيض، وكى نشعر بالاختلاف.

إذن لتشتعل قلوبنا عشقا مع شمس الدين التبريزى وهو يضع لمساته الأخيرة على صوفية جلال الدين الرومى، وربما على أرواحنا نحن القراء، عندما نمسك أنفسنا متلبسين نعيد قراءة "قواعد العشق" ونفكر فيما وراء الكلمات كى نجد الظواهر التى نعرفها مختلفة لأننا نظرنا إليها بطريقة جديدة مغايرة.