إن الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، مَن يَهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له ، ومَن يُضلِل فلا هادِيَ له ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله ، أرسله بالهُدى ودِين الحق ليُظهِره على الدِّين كُلِّه ، وكَفَى بالله شهيدًا .
أرسله بين يَدَي الساعة بشيرًا ونذيرًا ، وداعيًا إلى الله بإذنه وسِراجًا مُنيرًا ، فهَدَى به مِن الضلالةِ ، وبَصَّرَ به مِن العَمَى ، وأرشد به مِنَ الغَيِّ ، وفَتَحَ به أعيُناً عُميً ا، وآذانًا صُمًّا ، وقُلوبًا غُلفًا ، فبَلَّغَ الرسالةَ ، وأدَّى الأمانة ، ونَصَحَ الأمة ، وجاهَدَ في الله حَقَّ جِهاده ، وعَبَدَ رَبَّهُ حتى أتاه اليقينُ مِن رَبِّهِ ، صلَّى عليه وعلى آله وسلَّم تسليمًا .


أمَّا بعد : فما مِن بِناءٍ إلَّا وله أصلٌ وأساسٌ يقومُ عليه ، وإنَّ أساسَ بِناءِ دِين الإسلام يقومُ على أصلين ، هما :

أ- عِبادة الله وحده لا شريك له .
2- الإيمان برسوله صلَّى الله عليه وسلَّم .


وهذا حقيقة قول "لا إله إلا الله ، محمدٌ رسول الله" ، فمَن خرج عن واحدٍ منهما ، فلا عمل له ، ولا دِين .

ومِن أجل ذلك ، فإنَّ مِن المتعَيِّن على كل مسلم أن يعرف ما يدل عليه كل واحد من هذين الأصلين وما يشتمل عليه من أمور وأحكام ، معرفةً تُخرجه من حَدِّ الجهل على أقل الدرجات ، وأن يلتزم بذلك اعتقادًا وقولاً وعملاً ؛ لينالَ بذلك الفوزَ والسعادة في الحياة الدنيا وبعد الممات .

وهذه الرسالة موضوعها الأصلُ الثاني من أصليْ هذا الدين ، وقد سَمَّيتُها :

"حقوق النبيِّ - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم - على أُمَّتِهِ في ضَوءِ الكِتابِ والسُّنَّة" .

وقد دفعني إلى اختيار هذا الموضوع أهميتُه بالدرجةِ الأولى ، فهو - كما أسلفتُ - يُعنى بأحد أصليْ الدِّين "شهادة أنَّ مُحمدًا رسولُ الله" .

فمِنَ المهم والمفيد أن تُبحَثَ جوانبُ هذا الأصل ، وتُعرَفَ ، وتُعرَضَ وِفْقَ ما جاءت بذلك نُصوصُ القُرآن والسُّنَّةِ وَوِفْقَ ما كان عليه سَلَفُنا الصالحُ رضوانُ الله عنهم أجمعين .
وبخاصةٍ أنَّنا نعيشُ في زمانٍ قد حاد فيه كثيرٌ مِنَ الناس عن جادِّةِ الصوابِ في هذا الأصل ، واضطربوا اضطرابًا شديدًا .


فتجليةُ الأمر ، وتوضيحُ الصوابِ ، وبيانُ الحَقِّ في هذا الأصل ، مِن الواجباتِ المتعيِّنة على طلبة العلم في هذا الزمان ؛ نظرًا لعدم تَوَفُّر كِتابٍ بعينه يكونُ شاملاً لجميع جوانبِ هذا الموضوع ، وتطمئنُ له النفسُ مِن جهةِ سلامةِ ما احتواه ، يُمكنُ إحالةُ عامَّةِ الناسِ عليه .

فرأيتُ أنَّ مِنَ الرأيْ القويم أن أكتبَ في هذا الموضوع ؛ لأجمعَ فيه ما تفرَّقَ ، وأُرَتِّبَ ما تشتَّتَ ، وأشرحَ ما يحتاجُ إلى شرح ، وذلك وِفْقَ ما كان عليه مَنهجُ سَلَفِنَا الصالح مِن الاعتمادِ على نُصوص الكتاب والسُّنَّةِ ، ونقل كلام الصحابة والتابعين وأئمة هذا الدين رَضِيَ الله عنهم أجمعين .

تمهيــــد
- - - -

الحمد لله الذي أكمل لنا ديننا ، وأتم علينا نعمته ، ورضي لنا الإسلام دينًا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، أرسله بالدِّين القَيِّم ، والمِلَّةِ الحنيفية ، وجعله على شريعةٍ من الأمر ، أمر باتِّباعها ، وأمره بأن يقول : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } يوسف/108 ، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا .

وبعد :

فإنَّ الله - عز وجل -لم يخلق الخلقَ عبثًا ، قال تعالى : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ } المؤمنون/115 .

بل خلقهم لغايةٍ ذكرها في كتابه الكريم في أكثر من موضعٍ ، فقال تعالى : { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } المُلك/2 .

وقال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } هود/7 .

وقال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } الذاريات/56 .

فالحِكمةُ مِن خَلْقِهِ للخَلْقِ هِيَ اختبارُهم وابتلاؤهم ؛ لِيَجزِيَ المحسِنَ بإحسانِهِ والمسيء بإساءتِهِ . فهذه هِيَ الحِكمةُ مِن خَلْقِهم أولاً ، وبَعثهم ثانيًا . ولذلك لم يتركهم هَمَلاً ، بل أرسل إليهم رُسُلَه ، فكان مِن سُنَّةِ الله - تبارك وتعالى - مواترة الرسل ، وتعميم الخلق بهم ، بحيثُ يبعث في كل أمة رسولاً ؛ ليُقيمَ هُداه وحُجَّتَه ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } النحل/36 ، وقال تعالى : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ } فاطر/24 ، وقال تعالى : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا } المؤمنون/44 ، وقال تعالى : { رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيمًا } النساء/165 ، فالرُّسُلُ هم الواسطة بين الله عز وجل وبين خَلْقِهِ في تبليغ أمره ونهيه ، وإرشادِ العباد إلى ما فيه صلاحُ مَعاشِهم ومَعادِهم .

وإنَّ الله - تبارك وتعالى - جعل محمدًا - صلَّى الله عليهِ وسلَّم - خاتم النبيين ، وأرسله للناس أجمعين ، وأكمل له ولأمته الدين ، وبعثه على حين فترةٍ من الرسل وظهور الكفر وانطماس السُّبُل ، فأحيا به ما دُرِسَ من معالم الإيمان ، وقَمَعَ به أهلَ الشِّركِ والكُفر مِن عَبَدةِ الأوثان والنيران والصُّلبان ، وأَذَلَّ به كُفار أهل الكتاب ، وأهل الشرك والارتياب ، وأقام به منار دينه الذي ارتضاه ، وشاد به ذكر مَن اجتباه مِن عباده واصطفاه .

فاللهُ - سبحانه وتعالى - أرسل محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - للناس رحمةً ، وأنعم به نعمةً يا لها مِن نعمة ، قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } الأنبياء/107 .

وقال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً } إبراهيم/28 ؛ و هم الذين لم يؤمنوا بمحمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم ، فإرسالُه أعظمُ نِعمةٍ أنعم اللهُ بها على عباده .
فقد جمع اللهُ لهذه الأمة بخاتم النبيين ، وإمام المتقين ، وسَيِّد ولد آدم أجمعين ، ما فَرَّقَهُ في غيرهم من الفضائل ، وزادهم من فضله أنواع الفواضل ، بل أتاهم كِفْلَيْنِ من رحمته ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } الحديد/28-29 .


وقال صلَّى الله عليه وسلَّم : ( إنما أَجَلُكُم - في أَجَلِ مَن خلا مِنَ الأُمَمِ - ما بين صلاةِ العصر إلى مَغربِ الشمس ، وإنما مَثَلُكُم ومَثَلُ اليهود والنصارى كَرَجُلٍ استعمل عُمَّالاً ، فقال : مَن يَعمل لي إلى نِصف النهار على قيراط قيراط ؟ ، فعملت اليهودُ إلى نِصف النهار على قيراط قيراط ، ثم قال : مَن يَعمل لي مِن نِصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط ؟ ، فعملت النصارى من نِصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط ، ثم قال : مَن يَعمل لي مِن صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين ؟ ، ألَا فأنتم الذين يَعملون مِن صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين ، ألَا لكم الأجرُ مرتين ، فغضبت اليهودُ والنصارى ، فقالوا : نحنُ أكثرُ عَمَلاً وأقلُّ عَطاءً ، قال الله : هل ظلمتُكم مِن حَقِّكم شيئًا ؟ قالوا : لا ، قال : فإنَّه فضلي أُعطِه مَن شِئتُ ) أخرجه بهذا اللفظ البخاري في صحيحه : كتاب الأنبياء ، باب ما ذكر عن بني إسرائيل . فتح الباري (6/ 495- 496) ح 3459 .

" وقد خص اللهُ تعالى محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - بخصائص ، مَيَّزَهُ الله بها على جميع الأنبياء والمرسلين ، وجعل له شِرعةً ومِنهاجًا - أفضل شرعة وأكمل مِنهاجٍ مُبين - كما جعل أمته خير أمةٍ أُخرجت للناس ؛ فهم يُوفون سبعين أمة ، هم خيرُها وأكرمُها على الله من جميع الأجناس ، هداهم الله بكتابه ورسوله لما اختلفوا فيه من الحق قبلهم ، وجعلهم وسطًا عَدلاً خيِارًا ، فهم وَسَطٌ في توحيدِ الله وأسمائه وصفاته ، وفي الإيمان برُسُلِهِ وكُتُبِهِ وشرائع دِينِهِ مِن الأمر والنهي والحلال والحرام ، فأمرهم بالمعروف ، ونهاهم عن المنكر ، وأحلَّ لهم الطيباتِ ، وحَرَّمَ عليهم الخبائث ، فأخرجهم بذلك من الظلمات إلى النور ، فحصل لهم ببركةِ رِسالته ويُمن سِفارتِهِ خيرُ الدنيا والآخرة .
فلقد هَدَى اللهُ الناسَ ببركةِ نُبَوَّةِ محمدٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبما جاء به مِنَ البَيِّناتِ والهُدَى هِدايةً جَلَّت عن وصف الواصفين ، وفاقت معرفة العارفين ، حتى حَصَلَ لأمته المؤمنين به عُمومًا ، ولأُولي العلم منهم خُصوصًا مِنَ العلم النافع ، والعمل الصالح ، والأخلاق العظيمة ، والسُّنَنِ المستقيمة ، ما لو جُمِعَت حِكمةُ سائر الأمم عِلمًا وعَملاً - الخالصة مِن كل شَوْب - إلى الحِكمةِ التي بُعِثَ بها ، لتَفَاوتا تفاوتاً يمنعُ معرفة قَدْرِ النِّسبةِ بينهما ، فللّهِ الحمدُ والمِنَّةُ كما يُحِبُّ رَبُّنا ويَرضَى " اقتضاء الصراط المستقيم / ص3 .

فهو المبعوثُ بالهُدَى ودِين الحق بين يدي الساعةِ بشيرًا ونذيرًا ، وداعيًا إلى الله بإذنه وسِراجًا مُنيرًا ، فكَمَّلَ الله به الرسالة ، وهَدَى به من الضلالة ، وعلَّمَ به من الجهالة ، وفتح برسالته أعيُنًا عُميًا ، وآذانًا صُمًّا ، وقُلوبًا غُلْفًا ، فأشرقت برسالته الأرضُ بعد ظُلُماتها ، وتألَّفَت به القلوبُ بعد شَتاتها ، فأقام بها المَلَّةَ العَوجاء ، وأوضح بها المحجة البيضاء ، فبَيَّنَ عن طريقه - صلَّى الله عليه وسلَّم - الكُفرَ من الإيمان ، والرِّبح من الخسران ، والهُدَى من الضلال ، وأهلَ الجنةِ مِن أهل النار ، والمتقين من الفُجار ، فهو المبعوثُ رحمةً للعالمين ، ومحجةً للسالكين ، وحُجَّةً على الخلائق أجمعين . ولقد نَوَّه الله عز وجل في كتابه الكريم بهذه النعمة العظمى التي امتَنَّ بها على هذه الأمة في آيات كثيرةٍ مِنها :

قولُه تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } آل عمران/164 .
وقال تعالى : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } الجُمعة/2-3-4 .
وقال تعالى : { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ } البقرة/151-152 .
وقال تعالى : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } التوبة/128 .

وإنما كان إرسالُه - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى الناس أعظمَ مِنَّةٍ امتَنَّ بها على عباده ؛ لأنَّ في ذلك تخليصُ مَن وَفَّقَهُ اللهُ وهداه منهم مِن العذاب السرمديِّ ، وذلك بسبب الإيمان بالله ورسوله ، والابتعاد عن كل ما يُوجِبُ دخولَ النار ، والخلود فيها .

ولذلك فإنَّ الناسَ أحوجُ ما يكونون إلى الإيمان بالرسول صلَّى الله عليه وسلَّم ، والأخذ بما جاء به من الدِّين ، فهم أحوجُ إلى ذلك من الطعام والشراب ، بل ومن نَفَسِ الهواء الذي يتنفَّسونه ؛ فإنهم متى فقدوا ذلك ، فالنارُ جَزاءُ مَن كَذَّبَ بالرسول ، وتولَّى عن طاعته ، كما قال تعالى : { فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى } الليل/14-15-16 ؛ أيْ : كَذَّب به ، وتولَّى عن طاعته ، فهم مُحتاجون إلى الإيمان بالرسول ، وطاعته ، والأخذ بما جاء به ، والالتزام بذلك في كل مكان وزمان ، ليلاً ونهارًا ، سَفَرًا وحَضَرًا ، سِرًّا وعلانيةً .

ولَمَّا كانت منزلةُ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عند ربِّه بهذه المرتبة ، وكانت حاجةُ الناس إليه بهذه الدرجة ، فقد أوجب اللهُ لنبيه - صلَّى الله عليه وسلَّم - على هذه الأمة جُملةً من الحقوق والواجبات ، تُنَظِّمُ العلاقةَ التي تربطهم به تنظيمًا دقيقًا ، لا لَبْسَ فيه ولا اشتباه .

وهذه الحقوقُ منها ما يَتَّصِلُ بجانبِ الرسالة التي بُعِثَ بها ، ومنها ما يتعلَّقُ بخاصةِ شخص الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - تفضيلاً وتكريمًا من الله له .

وقد وردت في شأن تلك الحقوق نُصوصٌ كثيرةٌ في كتاب الله عز وجل ، وسُنَّةِ نَبِيِّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم ، وضَّحت وفصَّلت وبيَّنت جوانبَ تلك الحقوق .

وهذه الحقوقُ في جُملتِها هي الأصلُ الثاني من أصلَيْ الدِّين ، كما يَدُلُّ عليه قولُنا " أشهدُ أن لا إله إلا الله ، وأشهدُ أنَّ محمدًا رسولُ الله ".

ولذا فقد كان لِزامًا على كل مَن ينطقُ بهذه الشهادة ، ويَدِينُ اللهَ بهذا الدِّين ، أن يُحيطَ بتلك الحقوق مَعرفةً ، ويَلتزِمَ بها اعتقادًا وقَولاً وعَملاً ، فذلك عَقدٌ من عُقودِ الإيمان الذي لا يحصلُ إيمانُ العبد إلَّا به .

ومِمَّا يُؤسَفُ له أنَّ كثيرًا مِن المسلمين اليومَ ، هم على درجة كبيرة من الجهل بهذه الحقوق ، فتراهم لذلك على طرفيْ نقيض هذا المقام :

- فإمَّا مُقَصِّرٌ عن القيام بهذه الحقوق التي أوجبها اللهُ على الأمة ، فتراه لا يُقيم لها وزنًا ، ولا يُلقي لها بالاً .

- وإمَّا غَالٍ مُبتدِع مُنكَبٍّ على ما ابتدعه ، يَظُنُّ أنَّه بما يفعله مِن أمور مُبتدَعةٍ في هذا المقام ، قد أحسن صُنعًا ، وأنَّه مُؤَدٍّ لِمَا أوجبه اللهُ من حَقٍّ لنبينا محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم ، وكِلا الطرفين صاحِبُ حالٍ مَذمومٍ غير محمود . فلَمَّا كان عامةُ أصحابِ هذين الطرفين إنَّما أوقعهم فيما هم فيه ، جَهلُهم بمعرفةِ تلك الحقوق على الوجه المطلوب شرعا ، ولَمَّا كانت هذه الحقوقُ هِيَ مِن جُملةِ هذا الدِّين الذي تَعَبَّدنا اللهَ به ، فكان لا بُدَّ فيها مِن تَوَفُّر شَرْطَي القَبول :

أ- الإخلاصُ .
2- الصوابُ ( الاتِّبَاع ) .
كما قال تعالى { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً } الكهف/110 .

فقد أحببتُ أن أُوَضِّحَ تلك الحقوق النبوية وِفقَ ما جاءت بذلك النصوصُ الشرعية ، وما كان عليه سَلَفُ هذه الأمة وأئمتُها ، عسى أن يكونَ في هذا البيان والتوضيح تعليمٌ للجاهِل ، وتذكيرٌ للغافِل ، وتحذيرٌ ورَدْعٌ للمُبتدِع ، ومُدارسةٌ للعارِف .

فأسألُ اللهَ عز وجل التوفيقَ والرشادَ ، وأن يَرزُقنا التَّمَسُّكَ بِسُنَّةِ نبيه صلَّى الله عليه وسلَّم ، والسَّيرَ على هَدْيهِ ، والتَّأسِّي به ، وأن يشرحَ لذلك صُدُورنا ، ويُنيرَ قُلُوبنا ، إنَّه جَوادٌ كريم ، وعلى كل شيءٍ قدير .

تعريفُ الإيمان بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم :

‹‹ الإيمان بالرسول : هو تصديقه وطاعته واتباع شريعته ›› اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم .

وهذه الأمور هي الركائز التي يقوم عليها الإيمانُ بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم .

وعن بيان هذه الأمور المطلوبة عند الإيمان بالنبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال العلماء :

أ- أما تصديقه - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيتعلقُ به أمران عظيمان :
أحدهما : إثباتُ نبوته ، وصِدقه فيما بلَّغه عن الله ، وهذا مختص به صلَّى الله عليه وسلَّم .. مجموع الفتاوى .


ويندرج تحت هذا الإثبات والتصديق عدة أمور ، منها :

1- الإيمان بعموم رسالته إلى كافة الثَّقَلين ، إنسِهم وجِنِّهم .

2- الإيمان بكونه خاتم النبين ، ورسالته خاتمة الرسالات .

3- الإيمان بكون رسالته ناسخة لما قبلها من الشرائع .

4- الإيمان بأنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد بلَّغ الرسالة ، وأكملها ، وأدَّى الأمانة ، ونصح لأمته ، حتى تركهم على البيضاءِ ليلها كنهارها .

5- الإيمان بعِصمته صلَّى الله عليه وسلَّم .

6- الإيمان بما له من حقوق خلاف ما تقدم ذِكره ، كمَحبته ، وتعظيمه صلَّى الله عليه وسلَّم . وسيأتي تفصيل الأمور الخمسة المتقدمة بأدلتها في المباحث اللاحقة من هذا الفصل بإذن الله تعالى .

أما الحقوق الأخرى الواجبة له فسيأتي تفصيلها في الأبواب القادمة إن شاء الله تعالى .

الثاني : ‹‹ تصديقه فيما جاء به ، وأن ما جاء به من عند الله حق يجب اتباعه . وهذا يجب عليه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعلى كل أحد ›› مجموع الفتاوى .

فيجب تصديق النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم – في جميع ما أخبر به عن الله عز وجل ، من أنباء ما قد سبق ، وأخبار ما سيأتي ، وفيما أَحَلَّ من حلال ، وحَرَّم من حرام ، والإيمان بأن ذلك كله من عند الله عز وجل ، قال تعالى : { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } النجم/3-4 .

قال شارحُ العقيدة الطحاوية : ‹‹ يجب على كل أحد أن يؤمن بما جاء به الرسولُ إيماناً هَمَلاً ، ولا ريب أن معرفة ما جاء به الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - على التفصيل فَرْضٌ على الكِفاية ›› شرح العقيدة الطحاوية .

ب- طاعته واتباع شريعته : إن الإيمان بالرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما يتضمن تصديقه فيما جاء به ، فهو يتضمن كذلك العزم على العمل بما جاء به ، وهذه هي الركيزة الثانية من ركائز الإيمان به صلَّى الله عليه وسلَّم .

وهي تعني : الانقياد له صلَّى الله عليه وسلَّم ؛ وذلك بفِعل ما أمر به ، واجتناب ما نهى عنه وزجر ، امتثالاً لقوله تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } الحشر/7 . فيجبُ على الخلق اتباع شريعته ، والالتزام بسُنته مع الرضا بما قضاه ، والتسليم له ، والاعتقاد الجازم أن طاعته هي طاعة لله ، وأن معصيته معصية لله ؛ لأنه هو الواسطة يين الله وبين الثقلين في التبليغ .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ‹‹ يجب على الخلق الإقرار بما جاء به النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، فما جاء به القرآن العزيز أو السنة المعلومة وجب على الخلق الإقرار به جُملةً وتفصيلاً عند العلم بالتفصيل ، فلا يكون الرجلُ مُؤمناً حتى يُقِرَّ بما جاء به النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، وهو تحقيقُ شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسولُ الله ، فمَن شَهِدَ أنَّه رسولُ الله ، شَهِدَ أنَّه صادِقٌ فيما يُخبِرُ به عن الله تعالى ، فإنَّ هذا حقيقة الشهادة بالرسالة ›› مجموع الفتاوى .

معنى شهادة أن محمداً رسولُ الله _ صلَّى الله عليه وسلَّم :

أ- معناها :

" معنى شهادة أنَّ محمدًا رسولُ الله : طاعتُه فيما أمر ، وتصديقُه فيما أخبر ، واجتنابُ ما نهى عنه وزَجَر ، وأن لا يُعبَدَ الله إلَّا بما شَرَع " .

وهذه الشهادةُ هِيَ الشَّطْرُ الثاني مِنَ الرُّكن الأول مِن أركان الإسلام الخمسة ، كما أنَّ الإيمانَ بالنبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - داخِلٌ في الرُّكن الرابع مِن أركان الإيمان الستة ، ويشهد لذلك حديثُ جبريل المشهور .

ويُلاحَظُ أنَّنا عرّفنا الشهادةَ والإيمانَ به بتعريفٍ واحد ، وهذا الأمرُ يَصِحُّ في حالةِ الإفرادِ ، أما في حالة الاقتران فالإيمانُ به يَختَصُّ بتصديق القلب وإقراره ، والشهادةُ يُرادُ بها نُطقُ اللسان واعترافُه ، ويجب تحقيقُ هذه الشهادة مَعرفةً وإقرارًا وانقيادًا وطاعةً .

قال شيخُ الإسلام ابن تيمية : ‹‹ وأما الإيمانُ بالرسول فهو المهم ، إذ لا يَتِمُّ الإيمانُ بالله بدون الإيمان به ، ولا تحصل النجاةُ والسعادةُ بدونه ، إذ هو الطريقُ إلى الله سبحانه ، ولهذا كان رُكنا الإسلام : " أشهدُ أن لا إله إلَّا الله ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه " ›› .
ب- شروطُ الشهادتين :

بعد ذكر معنى " شهادة أن محمدا رسول الله " ناسب المقام أن نشير هاهنا إلى شروط هذه الشهادة بشقيها ، لأننا في زمان يجهل فيه كثير من الناس هذه الشروط ، إذ يعتقد كثير منهم لجهلهم أن التلفظ وحده يكفي لتحقيق الشهادة ويستغنون بهذا عن العمل بالمقتضى المترتب على هذه الشهادة .

وتصويبًا لهذا الخطأ وإزالةً لهذا الجهل ، أقول : إنه من المعلوم أن العبد لا يدخل في دين الإسلام إلا بعد الإتيان بالشهادتين "شهادة أن لا إله إلا الله ، وشهادة أن محمدا رسول الله".

قال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } الحجرات/15 ،

وقال صلى الله عليه وسلم : ‹‹ أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ›› متفقٌ عليه .

ومن المعلوم كذلك أن جميع الدين داخل في الشهادتين إذ مضمونهما أن لا نعبد إلا الله ، وأن نعبده بما شرع على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، ونطيعه فيما جاء به عن ربه سبحانه وتعالى ، والدين كله داخل في هذا .

ولهاتين الشهادتين شروطٌ لا بد من توفرها فيهما ، إذ لا يمكن لقائلهما أن ينتفع بهما إلا بعد اجتماعها فيهما ، وهذه الشروط مطلوبةٌ في كلا الشهادتين ، وذلك لما بينهما من التلازم ، فالعبد لا يدخل في الدين إلا بهما معا .

وهي سبعة شروط :

# الشرط الأول : العِلم :

إذ العلم بالشيء شرطٌ عند الشهادة ، به ويشهد لذلك قوله تعالى : { إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } الزخرف/86 .

ومن الأدلة على وجوب العلم بالشهادة قوله تعالى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ } محمد/19 ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : ‹‹ من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة ›› رواه مسلم. والعلم المراد به هنا : هو معرفة معنى الشهادتين ، ومقتضاهما ، واللوازم المترتبة على ذلك .

فلا إله إلا الله معناها : لا معبود بحَقٍّ إلا الله .

ومقتضاها ولازمها : نفي الشرك ، وإثبات الوحدانية لله تعالى ، وإفراده بالعبادة ، مع الاعتقاد الجازم لما تضمنته من ذلك ، والعمل به .. تيسير العزيز الحميد

ومعنى شهادة أن محمدا رسول الله : الإقرار والاعتراف للرسول صلى الله عليه وسلم أنه عبد الله ورسوله إلى الناس كافة .. دليل المسلم في الاعتقاد ، للشيخ عبد الله خياط

ومقتضاها ولازمها : طاعته فيما أمر ، وتصديقه فيما أخبر ، واجتناب ما نهى عنه وزجر ، وألا يُعبَدَ الله إلا بما شرع .

# الشرط الثاني : اليقين :

أي استيقان القلب بالشهادتين ، وذلك بأن يعتقدهما اعتقادًا جازمًا لا يصاحبه شك أو ارتياب ؛ لأن الإيمان لا يغني فيه إلا علم اليقين لا علم الظن ، قال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا } الحجرات/15 . وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له : ‹‹ مَن لقيتَ وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مُستيقنًا بها قلبه فبشره بالجنة ›› الحديث .. رواه مسلم ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ‹‹ أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى اللهَ بهما عبدٌ غير شَاكٍّ فيهما إلا دخل الجنة ›› رواه مسلم .

# الشرط الثالث : الإخلاص :

"وهو تصفية العمل بصالح النية عن جميع شوائب الشرك" .

قال تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } الآية .. البينة/5 ، وقال تعالى : { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } الزمر/3 ؛ "أي لا يقبل الله من العمل إلا ما أخلص فيه العامل لله وحده لا شريك له" .

وقال قتادة في قوله تبارك وتعالى : { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } شهادة أن لا إله إلا الله " . تفسير ابن كثير

وعن عتبان بن مالك - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ‹‹ فإن الله حرم على النار مَن قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله ›› متفقٌ عليه .

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ‹‹ أسعد الناس بشفاعتي مَن قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه ›› رواه البخاريّ .

# الشرط الرابع : الصدق فيها المنافي للكذب :

"وهو أن يقولها صِدقًا من قلبه يُواطىء قلبه لسانه" .

قال تعالى : { الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } العنكبوت/1-2-3 ، "أي الذين صدقوا في دعوى الإيمان ممن هو كاذب في قوله ودعواه ، والله سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون ، وهذا مجمع عليه عند أئمة السنة والجماعة" تفسير ابن كثير .

وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعاذ رديفه على الرحل – قال : ‹‹ يا معاذ بن جبل ›› قال : لبيك يا رسول الله وسعديك . قال : ‹‹ يا معاذ ›› قال : لبيك يا رسول الله وسعديك ثلاثًا . قال : ‹‹ ما مِن أحدٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صدقًا مِن قلبه إلا حرمه الله على النار ›› الحديث .. رواه البخاريّ .

# الشرط الخامس : المحبة :

"لهذه الكلمة ، ولما اقتضته ودلت عليه ، ولأهلها ، والعاملين بها ، الملتزمين لشروطها ، وبغض ما ناقض ذلك" معارج القبول .

قال تعالى : { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } التوبة/24 ، ففي الآية دليلٌ على وجوب محبة الله ورسوله ، ولا خلاف في ذلك بين الأمة ، وأن ذلك مقدم على كل محبوب .. تفسير القُرطبُيّ

وقال تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ } الآية .. البقرة/165 .

وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه } الآية .. المائدة/54 .

وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال : ‹‹ ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : مَن كان اللهُ ورسولُهُ أحب إليه مما سواهما ، وأن يُحِبَّ المرءَ لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذَفَ في النار ›› متفقٌ عليه .

# الشرط السادس : الانقياد :

أي الانقياد والاستسلام ظاهرًا وباطنًا لأوامر الله ، وما أنزله من الشرع على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم .

قال تعالى : { وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُور ِ} لقمان/22 .

ففي هذه الآية : "يقول تعالى مُخبِرًا عَمَّن أسلم وجهه لله ، أي أخلص له العمل وانقاد لأمره واتبع شرعه، ولهذا قال : { وَهُوَ مُحْسِنٌ } ، أي في عمله : باتباع ما به أمر ، وترك ما عنه زجر { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } ؛ أي فقد أخذ مَوثِقًا من الله مَتينًا أنه لا يُعذبه { وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ }" . تفسير ابن كثير

وقال تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً } الأحزاب/36 . والآية عامة في جميع الأمور ، وذلك أنه إذا حَكَمَ اللهُ ورسولُهُ بشيءٍ فليس لأحد مخالفته ، ولا اختيار لأحد هنا ولا رأي ولا قول ، كما قال تبارك وتعالى : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } تفسير ابن كثير .

# الشرط السابع : القبول :

أي قبول الشهادتين ، والالتزام بمقتضياتها ولوازمها .

قال تعالى { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } البقرة/285 ، وقال تعالى في شأن مَن لم يقبلها : { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ } الصافات/35-36 .

وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ‹‹ مَثَلُ ما بعثني اللهُ به مِن الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا ، فكان منها نقية (1)قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعُشب الكثير ، وكانت منها أجادب (2) أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان (3) لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً ، فذلك مثل مَن فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلِم وعلَّم ، ومثل مَن لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ›› متفقٌ عليه .

فهذه هي شروط الشهادتين يجب على المسلم تحقيقها ، والإتيان بها على الوجه المطلوب حتى يكون من أهلها .
ج- مراتب الشهادة:
للشهادة مراتب يتدرج عليها الشاهد مرتبة بعد مرتبة حتى يتم له تحقيق الشهادة على الوجه المطلوب.
ومراتب الشهادة أربع هي الكواشف الجلية:


# المرتبة الأولى:
العلم والمعرفة والاعتقاد لصحة المشهود به وثبوته، فلا بد للشاهد أن يعلم ويعرف معنى الشهادتين وإلا كان الشاهد شاهدا بما لا علم له به
قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} الآية .. الزخرف/86.




# المرتبة الثانية:
تكلمه بالشهادتين وإن لم يُعلِم بها غيره، بل يتكلم بها مع نفسه ويتذكرها وينطق بها
أو يكتبها , والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز:
{وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ}الآية .. الزخرف/19.
فجعل ذلك منهم شهادة وإن لم يتلفظوا بلفظ الشهادة ولم يؤدوها عند غيرهم.




# المرتبة الثالثة:
أن يُعلِم غيره بما شهد به ويخبره به ويبينه له ومرتبة الإعلام والإخبار نوعان:
إعلام بالقول، وإعلام بالفعل.
وهذا شأن كل مُعلِم لغيره بأمر، تارة يعلمه به بالقول وتارة بفعل ومما يدل
على أن الشهادة تكون بالفعل قوله تعالى:
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} الآية .. التوبة/17.
فهذه شهادة منهم على أنفسهم بما يفعلونه الكواشف الجلية



# المرتبة الرابعة:
أن يلتزم بمضمونها ويأتمر به.
ومجرد الشهادة لا يستلزم هذه المرتبة، لكن الشهادة في هذا الموضع تدل عليه وتتضمنه، فإنه سبحانه وتعالى
شهد به شهادة من حكم به وقضى وأمر وألزم عباده كما قال تعالى:
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}الآية .. الأسراء/23.
وقد شهد الله لنفسه بالوحدانية فقال تعالى
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}الآية .. آل عمران/18.

المطلب الرابع: نواقض الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم




لابد أن نعرف نواقض هذا الأمر ومبطلاته حتى يحترز المسلم من الوقوع فيها، فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني..."أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الفتن: باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة؟،

ولمعرفة نواقض الإيمان به صلى الله عليه وسلم نقول:

لما كان الإيمان به صلى الله عليه وسلم يعني تصديقه وتصديق ما جاء به صلى الله عليه وسلم، والانقياد له، فإن الطعن في أحد هذين الأمرين ينافي الإيمان ويناقضه فالنواقض على هذا الاعتبار يمكن تقسيمها إلى قسمين:
القسم الأول: الطعن في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم.
القسم الثاني: الطعن فيما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم مما هو معلوم من الدين بالضرورة، إما بإنكاره أو بانتقاصه.

















القسم الأول: الطعن في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم:




ومما يدخل تحت هذا القسم نسبة أي شيء للرسول عليه الصلاة والسلام مما يتنافى مع اصطفاء الله له لتبليغ دينه إلى عباده، فيكفر كل من طعن في صدق الرسول صلى الله عليه وسلم أو أمانته أو عفته أو صلاح عقله ونحو ذلك.

كما يكفر من سب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو عابه، أو ألحق به نقصا في نفسه أو نسبه أو دينه، أو خصلة من خصاله، أو عرّض به، أو شبهه بشيء على طريق السب له أو الإزراء عليه أو التصغير لشأنه أو الغض منه أو العيب له، فهو ساب له والحكم فيه حكم الساب يقتل كفرا، وكذلك من لعنه، أو دعا عليه، أو تمنى مضرة له، أو نسب إليه مالا يليق بمنصبه على طريق الذم، أو عبث في جهته العزيزة بسخف من الكلام وهُجر (1) ومنكر من القول وزور، أو عيره بشيء مما جرى من البلاء والمحنة عليه، أو تنقصه ببعض العوارض البشرية الجائزة المعهودة لديه"(2) .

فالساب إن كان مسلما فإنه يكفر ويقتل بغير خلاف، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم.
وإن كان ذميا فإنه يقتل أيضا في مذهب مالك وأهل المدينة وهو مذهب أحمد وفقهاء الحديث وهو المنصوص عن الشافعي نفسه كما حكاه غير واحد"الصارم المسلول على شاتم الرسول لشيخ الإسلام ابن تيمية
وهذا الحكم على الساب والمستهزئ، يستوي فيه الجاد والهازل بدليل قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}الآيتان (65، 66) من سورة التوبة.
ومن الأدلة الواردة في السنة حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله"،فقام محمد بن مسلمة فقال: يارسول الله أتحب أن أقتله؟، قال: "نعم..." أخرجه البخاري في صحيحه- واللفظ له - كتاب المغازي باب قتل كعب بن الأشرف. انظر: فتح الباري (7/
فعلم من هذا الحديث أن من آذى الله ورسوله كان حقه أن يقتل كما قتل كعب بن الأشرف
والأدلة من الكتاب والسنة على هذه المسألة كثيرة ولا مجال لاستيعابها هنا.
- الإجماع:
وقد أجمعت الأمة على قتل منتقصه من المسلمين وسابه، وكذلك حكى غير واحد الإجماع على قتله وتكفيره.
وقال الإمام إسحاق بن راهويةأحد الأئمة الأعلام: "أجمع المسلمون على أن من سب الله، أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم، أو دفع شيئا مما أنزل الله عز وجل، أو قتل نبيا من أنبياء الله عز وجل أنه كافر بذلك وإن كان مقرا بكل ما أنزل إليه".
وقال الخطابي "لا أعلم أحدا من المسلمين اختلف في وجوب قتله". وقال محمد بن سحنون :أجمع العلماء على أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم والمتنقص له كافر، والوعيد جاء عليه بعذاب الله له، وحكمه عند الأمة القتل ومن شك في كفره وعذابه كفر"الصارم المسلول
ومن المعلوم أن سب النبي صلى الله عليه وسلم تعلق به عدة حقوق:
1- حق الله سبحانه:
فإن الطعن في الرسول طعن في المرسل وتكذيبه تكذيب لله تبارك وتعالى وإنكار لكلامه وأمره وخبره وكثير من صفاته.
















2- وتعلق حق جميع المؤمنين:

فإن جميع المؤمنين مؤمنون به خصوصا أمته فإن قيام أمر دنياهم ودينهم وآخرتهم به، بل عامة الخير الذي يصيبهم في الدنيا والآخرة بواسطته وسفارته فالسب له أعظم عندهم من سب أنفسهم وآبائهم وأبنائهم وسب جميعهم، كما أنه أحب إليهم من أنفسهم وأولادهم وآبائهم والناس أجمعين.

من حيث خصوص نفسه، فإن الإنسان تؤذيه الوقيعة في عرضه أكثر مما يؤذيه أخذ ماله، وأكثر مما يؤذيه الضرب، بل ربما كانت عنده أعظم من الجرح ونحوه، خصوصا من يجب عليه أن يظهر للناس كمال عرضه وعلو قدره لينتفعوا بذلك في الدنيا والآخرة، فإن هتك عرضه وعلو قدره قد يكون أعظم عنده من قتله، فإن قتله لا يقدح عند الناس في نبوته ورسالته وعلو قدره كما أن موته لا يقدح في ذلك، بخلاف الوقيعة في عرضه فإنها قد تؤثر في نفوس بعض الناس من النفرة عنه وسوء الظن به ما يفسد عليهم إيمانهم

ويوجب لهم خسارة الدنيا والآخرة ..الصارم المسلول
القسم الثاني: من نواقض الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم:
الطعن فيما أخبر به الرسول لا- مما هو معلوم من الدين بالضرورة- إما بإنكاره أو انتقاصه.
فإذا اجتمعت الشروط التالية في المنكر وهي:
أ- أن يكون ذلك الأمر المنغص من الأمور التي أجمعت عليها الأمة وأن يكون من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة انظر صحيح مسلم بشرح النووي
ب- أن لا يكون المنكر حديث عهد بالإسلام لا يعرف حدوده فهذا إذا أنكر شيئا من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة جهلا به فانه لا يكفر صحيح مسلم بشرح النووي
ج- أن لا يكون المُنكِر مكرها على ذلك، والمُنكِر في هذه الحالة يحكم بكفره وانتقاض إيمانه. والمنتقص لأمور الدين إذا كان غير مكره فإنه يكفر سواء كان جادا في ذلك أم هازلا.

والأمثلة على هذا القسم كثيرة جدا نذكر منها على سبيل المثال ما يختص بجانب الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وسلم.
أولا: "أن يعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه وأن حكم غيره أحسن من حكمه
ثانيا: من أبغض شيئا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به فهو كافر"الجامع الفريد
ثالثا: اعتقاد الإنسان أنه يسعه الخروج عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم.

ولهذا الأمر صورتان:
الأولى: أن لا يرى وجوب تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم ولا وجوب طاعته فيما أمر به وإن اعتقد مع ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عظيم القدر علما وعملا وأنه يجوز تصديقه وطاعته ولكنه يقول إنه لا يضر اختلاف الملل إذا كان المعبود واحدا ويرى أنه تحصل النجاة والسعادة بمتابعة الرسول وبغير متابعته وهذا هو قول الفلاسفة والصابئة مجموع الفتاوى
وهذا القول هو الذي ينادي به في وقتنا الحاضر من يدعون إلى وحدة الأديان ويروج لهم في ذلك الماسونية (1)

الثانية: من يرى طلب العلم بالله من غير خبره، أو العمل لله من غير أمره، وهؤلاء وإن كانوا يعتقدون أنه يجب تصديق الرسول أو تجب طاعته.
وإضافة إلى هذه النواقض فإن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ينتقض أيضا بالنواقض العامة الأخرى للإسلام وهي:

1- الشرك في عبادة الله تعالى:
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}النساء/48 .


2- أن يجعل بينه وبين الله وسائط:
يدعوهم ويسألهم الشفاعة فيما لا يقدر عليه إلا الله، ويتوكل عليهم فهذا كافر بالإجماع الجامع الفريد
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ}الأعراف/194

3- السحر:
ومنه الصرف والعطف (2) فمن فعله أو رضي به كفر الجامع الفريد بدليل قوله تعالى: { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ}البقرة/102

4- "مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين"الجامع الفريد :
والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}المائدة/51
وهذا من أعظم النواقض التي وقع فيها سواد الناس اليوم في الأرض وهم بعد ذلك يحسبون على الإسلام ويتسمون بأسماء إسلامية، فلقد صرنا في عصر يُستحى فيه أن يقال للكافر يا كافر.
ومظاهرة المشركين أخذت صورا شتى فمن الميل القلبي إلى انتحال مذاهبهم الإلحادية إلى مجاراتهم في تشريعاتهم، إلى كشف عورات المسلمين لهم، إلى كل صغير وكبير في حياتهم...

5- الإعراض عن دين الله تعالى:
لا يتعلمه ولا يعمل به الجامع الفريد والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ}السجدة /22

ولا فرق في جميع هذه النواقض يين الهازل والجاد والخائف، إلا المكره وكلها من أعظم ما يكون خطرا، وأكثر ما يكون وقوعا فينبغي للمسلم أن يحذرها ويخاف منها على نفسه الجامع الفريد

المبحث الثاني: وجوب الإيمان بنبوته ورسالته صلى الله عليه وسلم.

المطلب الأول: معنى النبوة والرسالة
جمع الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم يين النبوة والرسالة قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} الأحزاب/40
أ- معنى النبي لغة وشرعا:
النبوة في اللغة العريية مشتقة إما من (النبأ) أو (النباوة) أو (النبوة) أو (النبي)لسان العرب
1- فإذا كانت مأخوذة من (النبأ) فتكون بمعنى الإخبار، لأن النبأ هو الخبر.
2- وإذا كانت مأخوذة من (النباوة أو النبوة) فتكون بمعنى الرفعة والعلو، لأن (النباوة أو النبوة: هي الشيء المرتفع).
3- أما إذا كانت مأخوذة من (النبي) بدون همز، فيكون معناها الطريق إلى الله عز وجل لأن معنى "النبي" الطريق.
ولو نظرنا إلى النبوة الشرعية لوجدنا أنها تشمل كل هذه المعاني إذ النبوة إخبار عن الله عز وجل، وهي رفعة لصاحبها لما فيها من التشريف والتكريم، وهى الطريق الموصلة إلى الله سبحانه.

أما النبوة في اصطلاح الشرع: " فهي خبر خاص يكرم الله عز وجل به أحدا من عباده فيميزه عن غيره بإيحائه إليه ويوقفه به على شريعته بما فيها من أمر ونهي ووعظ وإرشاد ووعد ووعيد"شعب الإيمان للبيهقي
أما النبي فقد اختلف العلماء في تعريفه:
- فمنهم من قال: هو الذي أوحى الله إليه بشرع ليعمل بهشرح العقيدة الطحاوية ولم يؤمر بتبليغه.
- فمنهم من قال: هو الذي أوحى الله إليه أن يدعو الناس إلى شريعة رسول قبله.أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ محمد الأمين الشنقيطي
- ومنهم من قال: هو الذي أوحى الله إليه وأخبره بأمره ونهيه وخبره، ويعمل بشريعة رسول قبله بين قوم مؤمنين كتاب النبوات لشيخ الإسلام ابن تيمية وهذا هو الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ولعله هو أرجح الأقوال وأسلمها من الاعتراض .

4- معنى الرسول لغة وشرعا:
الرسول لغة: إما مأخوذ من الرِّسل.
والرِّسل: هو الانبعاث على تؤدة. يقال: ناقة رسله: أي سهلة السير، وإبل مراسيل: منبعثة انبعاثا سهلا. ولفظ الرسل متضمن لمعنى الرفق ومعنى الانبعاث.
فإذا تصور منه معنى الرفق يقال على رسلك إذا أمرته بالرفق. وإذا تصور منه معنى الانبعاث يقال إبل مراسيل أي منبعثة.
ولفظ الرسول اشتق من المعنى الثاني أي الانبعاث.
فالرسول على هذا الاشتقاق هو المنبعثالمفردات في غريب القرآن تأليف أبي القاسم حسين محمد المعروف بالراغب الأصفهاني
وإما مأخوذ من الرَّسْل وهو التتابع فيقال جاءت الإبل رَسْلا أي متتابعة، ويقال جاءوا أرْسَالأ: أي متتابعين.
ومعنى الرسول على هذا الاشتقاق: هو الذي يتابع أخبار الذي بعثه.لسان العرب مادة "رسل"
ولو نظرنا إلى كلا الاشتقاقين فإنا نجد أن لفظ الرسول في اصطلاح الشرع يدل عليهما فالرسول مبعوث من قبل الله، وهو كذلك يتابع أخبار الوحي المنزل إليه من الله تعالى.

والرسول في الشرع: عرف بعدة تعريفات:
فمن العلماء من عرفه بقوله: هو الذي أوحى الله إليه بخبر وأمره بتبليغه للناس، وهؤلاء فرقوا بينه ويين النبي بأن النبي أوحي إليه بخبر ولم يؤمر بتبليغه شعب الإيمان للبيهقي
ومنهم من عرفه بقوله: هو الذي أنزل إليه كتاب وشرع مستقل مع المعجزة التي تثبت بها نبوته.
وقالوا: إن النبي هو الذي لم ينزل إليه كتاب وإنما أوحي إليه أن يدعو الناس إلى شريعة رسول قبله أضواء البيان
ومنهم من قال: إن الرسول هو الذي ينبئه الله ثم يأمره أن يبلغ رسالته إلى من خالف أمره أي إلى قوم كافرين.
أما النبي فهو من أوحى الله إليه وأخبره بأمره ونهيه وخبره، ويعمل بشريعة رسول قبله بين قوم مؤمنين بهما.
وهذا القول الثالث هو أرجح الأقوال.
أما القول الأول فهو غير مسلم كما سبق وإن وضحت في الكلام على معنى النبي.وكذا الأمر بالنسبة للقول للثاني فليس من شرط الرسول أن يأتي بشريعة جديدة كما تقدم ذكر ذلك.

المطلب الثاني: الأدلة من القرآن والسنة على وجوب الإيمان به صلى الله عليه وسلم

أ-الأدلة من القرآن:
أوجب الله سبحانه وتعالى على الثقلين أن يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء به كما شهدت بذلك نصوص الكتاب العزيز,
في مواضع كثيرة من القرآن الكريم منها:
قال تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ، وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} الحديد/7و8.
وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} التغابن/8.
وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً} النِّساء /136.
أما الحق الثاني له:
فهو طاعته قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} آل عمران /132.
والحق الثالث هو:
محبته قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} التوبة / 24.

ب- الأدلة من السنة على وجوب الإيمان به صلى الله عليه وسلم:
أ- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه.
2- وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله"أخرجه البخاري في صحيحه.
3- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع لي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار"أخرجه مسلم في صحيحه .

ج-دليل الإجماع:
أجمعت الأمة على وجوب الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، كما أجمعت كذلك على أن كل من قامت عليه الحجة برسالة محمدا صلى الله عليه وسلم من الإنس والجن فلم يؤمن به استحق عقاب الله تعالى كما يستحقه أمثاله من الكافرين الذين بعث إليهم الرسول وهذا أصل متفق عليه بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين وسائر طوائف المسلمين أهل السنة والجماعة وغيرهم إيضاح الدلالة في عموم الرسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية مطبوعة ضمن مجموعة الرسائل المنيرية.
المطلب الثالث: دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم
أيد الله تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالدلائل، والمعجزات الكثيرة الدالة على وجوب الإيمان به وصدق رسالته وهذه الدلائل والمعجزات فاقت الألف معجزة كما ذكر ذلك غير واحد من العلماء الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لشيخ الإسلام ابن تيمية ومنها ما هو حسي ومنها ما هو معنوي، وكذلك هي متنوعة فمنها ما كان قبل مولده كبشارات الأنبياء به ومنها ما كان وقت ولادته كقصة الفيل والعجائب التي حدثت عام مولده الدالة على نبوته، ومنها ما كان عند مبعثه كالقرآن الكريم وانشقاق القمر ونبع الماء بين أصابعه صلى الله عليه وسلم وغيرذلك
أ- القرآن الكريم:
هو أعظم الآيات والبراهين والدلائل والمعجزات التي أعطيها النبي صلى الله عليه وسلم، وليس من آية أبدع ولا أروع منه.
ولقد تضمنت هذه المعجزة وجوها متعددة من الإعجاز، فالقرآن الكريم معجز بلغته وفصاحته وبيانه وبلاغته وأحكامه وتشريعاته وبما حواه من أخبار وقصص، ومغيبات، وعلوم، فهو معجز من جميع الوجوه، ولقد تحدى الله قوم النبي صلى الله عليه وسلم على أن يأتوا بمثله أو بشيء منه
المرحلة الأولى:
التحدي بالإتيان بمثل القرآن وذلك كما جاء في قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}الطور/33-34
المرحلة الثانية:
تحداهم بالإتيان بعشر سور مثله حيث قال تبارك وتعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}هود/13
المرحلة الثالثة:
حيث تحداهم تبارك وتعالى بالإتيان بسورة واحدة فقال تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}البقرة/23
ولما عجزوا عن الإتيان بما تحداهم به قطع الله طمعهم على أن يأتوا بمثله فقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}الأسراء/8
وبعد مرحلة قطع الطمع أنزل الله فواتح السور كـ {الم، الر، المر} وغيرها تقريعا وتوبيخا للكفار، مخبرا لهم أن ما تحداهم به مكون من حروف هي حروف العربية التي يتحدثون بها والتي بلغوا ذروتها فهم أفصح العرب، والقرآن نزل بلغة العرب
بعض جوانب هذا الإعجاز القرآني الذى عجز الكفار أن يأتوا بمثل هذا القرآن من جهتها وهى ما يلي:

أولا:
تحداهم بفصاحة القرآن وعلو أسلوبه، وأحكامه، ودقة تعبيره.
ثانيا:
تحداهم بتشريعه الكامل الموافق لمقتضى العقل والفطرة، الهادي جميع البشر إلى سواء السبيل من جوانب الحياة كلها عقيدة وعبادة واقتصادا وسياسة وأدبا وأخلاقا
ثالثا:
تحداهم بما تضمنه القرآن من الأخبار الغيبية التفصيلية المسهبة، وبوقوف الرسول صلى الله عليه وسلم من إخوانه المرسلين السابقين موت المصدق لهم المبين لتحريف أقوامهم شرائعهم، المعلن لخزاياهم وفضائحهم في خروجهم على أنبيائهم بيان الواثق بنفسه المؤمن بما أوحي إليه من ربه، وهو أمي عاش في أمة أمية.

ب- انشقاق القمر:
قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ}القمر/1-2
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر"أخرجه البخاري في صحيحه.


ج- نبع الماء بين أصابعه:
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بإناء وهو بالزوراءفوضع يده في الإناء فجعل الماء ينبع من بين أصابعه، فتوضأ القوم. قال قتادة: قلت لأنس كم كنتم؟، قال: ثلائمائة، أو أو زهاء ثلاثمائةأخرجه البخاري في صحيحه .


د- إشباع العدد الكثير من الطعام القليل:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "قال أبو طلحة لأم سليم: لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفا أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟، قالت:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "قال أبو طلحة لأم سليم: لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفا أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟، قالت: نعم، فأخرجت أقراصا من شعير ثم أخرجت خمارا لها، فلفت الخبز ببعضه ثم دسته تحت يدي، ولاثتني ببعضه، ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فذهبت به فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ومعه الناس، فقمت عليهم. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آرسلك أبو طلحة؟"، فقلت: نعم. قال: بطعام؟، قلت: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن معه: "قوموا"، فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته. فقال أبو طلحة: يا أم سليم قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس وليس عندنا ما نطعمهم. فقالت: الله ورسوله أعلم. فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هلمي يا أم سليم ما عندك"، فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ففت، وعصرت أم سليم عكة فأدمته، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ما شاء أن يقول. ثم قال: "ائذن لعشرة" فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا. ثم قال: "ائذن لعشرة" فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا. ثم قال: "ائذن لعشرة" فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا. ثم قال: "ائذن لعشرة" فأكل القوم حتى شبعوا والقوم سبعون أو ثمانون رجلا"أخرجه البخاري في صحيحه.

هـ- ما أطلع عليه من الغيوب وما سيكون في المستقبل:
ومنها على سبيل المثال حديث حذيفة ابن اليمان قال: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما ما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به، حفظه من حفظه ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء وإنه ليكون منه الشيء نسيته فأراه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه"أخرجه مسلم في صحيحه.

المبحث الثالث: وجوب الإيمان بعموم رسالته صلى الله عليه وسلم:

والإيمان بعموم الرسالة وعالميتها هو الذي يدين به كل مسلم يؤمن بالله ورسوله، فهذا ما جاءت به آيات الكتاب الكريم ونصوص السنة الثابتة، فهو من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة والتي أجمعت عليها الأمة.

المطلب الأول: الأدلة من القرآن على عموم رسالته
أ- الآيات التي ورد فيها لفظ "الناس" منها:
قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعا}الأعراف/158.
وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاس}سبأ/28.
وقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً}النِّساء/79.
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً}النِّساء/174.
والشاهد من هذه الآيات أنها بينت شمول رسالة محمد صلى الله عليه وسلم للناس جميعا. قال صاحب اللسان: "الناس قد يكون من الإنس ومن الجن"لسان العرب.
ب- الآيات التي ورد فيها لفظ "العالمين": ومنها
قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}سورة الأنبياء/107.
وقوله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ}سورة الأنعام/90.
وقوله تعالى: {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}سورة يوسف/104.

وقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً}سورة الفرقان/1.
وقوله تعالى: {وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}سورة القلم/52. والمراد بالعالمين هنا هم الإنس والجن إذ هم المكلفون.
ج- الآيات التي ورد فيها لفظتا "كافة" و"جميعا" وهي:
قوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}سورةسبأ/28.
وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً}سورة الأعراف/58.
وهناك ثلاث عبارات هي: "الناس" و"كافة" و"جميعا" دلت جميعها على العموم.
د- الآية التي ورد فيها لفظ "ومن بلغ":
قال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}الأنعام/19، فالشاهد من الآية هو قوله تعالى: {لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} فلفظ (من) في قوله {وَمَنْ بَلَغَ} من صيغ العموم.
هـ- الآيات التي ورد فيها خطاب الجن ومنها:
قوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً}سورة الجن/1-2,إلى آخر الآيات التي نزلت في شأن دعوة الجن إلى الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
وكذلك فإن سورة الرحمن هي خطاب للثقلين الإنس والجن معا.
و- الآيات التي وردت في دعوة أهل الكتاب:
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}المائدة/19.
وبالجملة فإن في القرآن من دعوة أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن دعوة المشركين وعباد الأوثان وجميع الإنس والجن ما لا يحصى إلا بكلفة وهذا كله معلوم بالاضطرارمن دين الإسلام الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح .


المطلب الثاني: الأدلة من السنة على عموم رسالته:
1-وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة" أخرجه البخارى في صحيحه.
2- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون" أخرجه مسلم في صحيحه.
3- وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوتيت خسما لم يؤتهن نبي قبلي، نصرت بالرعب فيرعب مني العدو عن مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلي، وبعثت إلى الأحمر والأسود"أخرجه أحمد في مسنده .
ب- السنة العملية:
إن المتأمل في سيرته ودعوته صلى الله عليه وسلم يعلم حرصه صلى الله عليه وسلم على نشر الرسالة وإبلاغها لجميع المكلفين، فقد دعا صلى الله عليه وسلم الإنس على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم، سواء كانوا أهل كتاب أم ليسوا بأهل كتاب، كما دعا الجن كذلك فآمن له من آمن منهم وبايعوه على الإسلام.


المطلب الثالث: دليل الإجماع على عموم رسالته.
إن الإجماع منعقد من أئمة المسلمين وعامتهم على أن محمدا صلى الله عليه وسلم أرسل إلى جميع الأمم - أهل الكتاب وغير أهل الكتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح - فإن الذي يدين به المسلمون هو أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث رسولا إلى الثقلين الإنس والجن، أهل الكتاب وغيرهم، وأن من لم يؤمن به فهو كافر مستحق لعذاب الله، مستحق للجهاد، وهو مما أجمع أهل الإيمان بالله ورسوله عليه، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي جاء بذلك وذكره الله في كتابه، وبينه النبي أيضا في سنته.