حقيقة ضمير الغائب في القرآن الكريم
من الواضح أنَّ الألفاظ المفردة إنَّما وُضِعَتْ لأنْ يُضَم بعضها إلى بعض فتفيد المخاطب معنى كان يجهله قبل أن تركب وتُلقى عليه، ففي الكلام معانٍ هي ما يُقصد إيصاله إلى أذهان المخاطبين؛ وفيه ألفاظ هي بمنزلة الجسور تعبر عليها المعاني من نفوس الناطقين إلى نفوس السامعين، وإذا كانت الألفاظ بمنزلة الوسائل كانت في الدرجة الثانية بالنظر إلى المعاني التي هي المقصود من نظم الكلام.
صرف البلغاء هممهم إلى المعاني وأبدعوا في تصويرها، وأعني من المعاني تلك الصور التي تبقى قائمة في نفوس السامعين بعد سماع خطبة أو قصيدة، ثم نظروا إلى الألفاظ فإذا هي عند تركيبها كالأجسام تحلُّ فيها الأرواح، أو البرود تتحلى فيها الأجسام، فأحسوا أن الروح الراكبة يجمل بها أن تكون في جسم نفي اللون، متناسب الأعضاء، وأن الجسم النضر يزيده حسنًا على حسنه أن يظهر في ملبسٍ بَهِي المنظر، رقيق الحاشية، كذلك المعاني تخطر على فكر البليغ، فيقتضي حالُها أن تلقى في لفظ جيِّد السبك، محكم النظم، آخذ بالغرض من جميع نواحيه.
من أجل ذلك وجَّه بلغاء العرب جانبًا عظيمًا من عنايتهم إلى تخير الألفاظ، وإحكام نسجها بمقدار ما تؤدِّي صور المعاني، وتضعها في نفس السامع الموضع اللاَّئِقِ بِها من الإعجاب أو القبول، وليس من شرط جودة الكلام أن يكون لكل جزءٍ من صورة معناه التركيبي - لفظ مفرد يختص بالدلالة عليه؛ بل مدار حسن البيان على أن تصير صور المعاني في نفس المخاطب بحالها التي كانت عليها في نفس المتحدث بها، وسواء بعد هذا أكانت الألفاظ مفصلة على قدر المعاني في الكثرة والقلة، أم كانت المعاني فوق ما تدل عليه الألفاظ بحسب أوضاعها اللغوية.
ولاعتماد حسن البيان على نقل صور المعاني إلى نفوس المخاطبين كما هي، لم يبالِ العرب أن يكتفوا في الدلالة على بعض المعاني بمساق الكلام وما تقتضيه طبيعة المعنى، إلى نحو هذا من القرائن التي لا يضبطها حساب؛ بل يعدون في أصول بلاغتهم أن يطرحوا كثيرًا من الألفاظ متى وثقوا بأن في نظم الكلام، أو في الأحوال الخارجة عنه - ما ينبه السامع إلى مدلولاتها.