على الرغم من زوال عقبة التوافق بين المصالح الأمريكية مع الرغبة الروسية، بعد أن أجمع الطرفان على أن الحل العسكرى للأزمة السورية "غير ممكن أو مقبول"، إلا أن مؤتمر "جينيف 2" الذى من المقرر أن يعقد خلال نوفمبر القادم، مازال يواجه العديد من الإشكاليات التى يمكن أن تعصف به.

وإذا كان "بيان جنيف 1" الصادر فى 30 يونيو 2012 قد سعى إلى رسم طريق للتوصل إلى حل دبلوماسى للصراع، ووافقت عليه قوى كبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا ودول الخليج والعراق، إلا أن البيان ظل حبرا على ورق بسبب اصطدامه بالرفض الإيرانى، حيث اعتبرت طهران عدم دعوتها لحضور المحادثات تجاوزا غير مقبول بحقها كأحد أهم اللاعبين على الساحة السورية.

فيما اتفقت روسيا والولايات المتحدة فى مايو الماضى على محاولة عقد مؤتمر "جنيف2 " لتنفيذ الاتفاق، الذى يطالب بسلطة حاكمة انتقالية تتولى مهام الحكم فى سوريا، لكنهما لم تتطرقا إلى مسألة بقاء أو رحيل الرئيس السورى بشار الأسد عن السلطة.

وجاء فى الاتفاق أن مثل هذه الحكومة الانتقالية يجب أن تختارها حكومة دمشق والمعارضة بالتراضى فيما بينهما، وهو ما يستبعد فعليا - كما تقول الولايات المتحدة - بقاء الأسد فى السلطة.

ويمكن فى هذا الإطار رصد أول الإشكاليات وهى تمثيل المعارضة فى المؤتمر المؤمل انعقاده نهاية الشهر الجارى، حيث أكد المبعوث الدولى الأخضر الإبراهيمى أنه لا يمكن أن يتم المؤتمر بدون حضور جهة تمثل معارضة فاعلة، وهو ما يصطدم بخيار الرئيس السورى بشار الأسد الذى يرى أن المعارضة الداخلية "المستأنسة" هى من يجب أن يمثل الشعب السورى.

فيما يرى رئيس الائتلاف الوطنى السورى المعارض أحمد الجربا، أن الائتلاف لا يرفض مؤتمر جنيف2 لمجرد الرفض, وإنه يقبل به وفق معطيات تضمن نجاحه وعدم تلاعب النظام السورى به، وهو ما يوضح عدم إعلان موقف نهائى للائتلاف بشأن المشاركة فى المؤتمر.

ويبدو من خلال تصريحات قادة المعارضة السورية المنضوين تحت لواء الائتلاف "الذى يعترف به الغرب"، مشاركة ممثلين لمعارضة حقيقية فى مؤتمر "جينيف 2" يمكن أن يصطدم بما قدمه زعيم الائتلاف من جملة معطيات لضمان نجاح هذا المؤتمر، وفقا لما يراه من خطورة الموقف وحساسية اللحظة وأهمية الدعم الدولى ومدى قدرة نظام بشار الأسد على المناورة.

ويتكون الائتلاف من 63 مقعدا، ويمثل أعضاؤه معظم التشكيلات والكيانات السياسية المعارضة والثورية، وهى: المجلس الوطنى السورى والهيئة العامة للثورة السورية، ولجان التنسيق المحلية، والمجلس الثورى لعشائر سوريا، ورابطة العلماء السوريين، واتحادات الكتاب، والمنتدى السورى للأعمال، وتيار مواطنة، وهيئة أمناء الثورة، وتحالف معا، والكتلة الوطنية الديمقراطية السورية، والمكون التركمانى، والمجلس الوطنى الكردى، والمنبر الديمقراطى، والمجالس المحلية لكافة المحافظات، إضافة إلى بعض الشخصيات الوطنية وممثل عن المنشقين السياسيين.

وقد أكد الجربا أكثر من مرة ضرورة أن يسبق أية عملية تفاوض مزمعة توفير ضمانات ورعاية عربية وإسلامية، ولاسيما من السعودية وقطر وتركيا والإمارات والأردن، وتحت إشراف جامعة الدول العربية، بالإضافة إلى رفض أى مشاركة لإيران كوسيط فى عملية التفاوض، على اعتبار أنها "دولة محتلة من خلال مرتزقة يقاتلون أبناء الشعب السورى".

وتصطدم رغبة المعارضة السورية فى عدم مشاركة إيران برغبة إدارة الرئيس الأمريكى باراك أوباما، التى باتت أكثر استعدادا لمشاركة إيران بالمؤتمر إذا أيدت علانية بيان 2012 الذى يطالب بتشكيل حكومة انتقالية فى سوريا.

وتؤشر الرغبة الأمريكية بشأن استعداد إيران لتأييد بيان جنيف علانية حتى يمكنها النظر لمشاركة إيران بشكل أكثر إيجابية فى "جينيف 2"، إلى الإشكالية الثانية التى ربما تواجه المؤتمر فى حال انعقاده وهى قضية مصير الرئيس الحالى بشار الأسد، وإذا ما كان سيستمر فاعلا فى المشهد السورى أم ستتم الإطاحة به، أو على أكثر تقدير توفير خروج مشرف وآمن له بنهاية ولايته العام القادم 2014.

ووفقا لتصريحات المسئولين الأمريكيين، فإن موقف واشنطن من نص "جنيف ١" لم يتغير بالنسبة إلى المجلس الانتقالى فى سوريا الذى ينبغى أن تكون له صلاحيات تنفيذية كاملة، وأن الإدارة الأمريكية مازالت مصرة على رحيل الأسد ولم تغير موقفها، والدليل على ذلك أن السفير روبرت فورد أكد خلال أحد لقاءاته باللواء سليم إدريس رئيس أركان الجيش الحر، أن الإدارة لم تغير موقفها من أن لا حل سياسيا فى سوريا مع بقاء الأسد.

ورغم اختلاف الراعيين الرئيسيين لماراثون جينيف الذى يمكن أن يمتد لأكثر من 4 مؤتمرات على ما تقدم من إشكاليات بشأن طبيعة المعارضة التى يجب أن تشارك فى "جينيف 2" ومصير بشار الأسد، إلا أن الطرفين يتفقان على الإشكالية الثالثة بعد اعتبار أن الحل فى سوريا ليس عسكريا وهى تأمين المنطقة من المجموعات المتشددة. .حيث تعتبر واشنطن وموسكو أن المصلحة مشتركة بألا يكون ثمة متشددين متطرفين - فى هذا الجانب أو ذاك - يستفيدون من وضع وموقع أكثر أهمية فى سوريا، وهو ما يضع قضية تسليح المعارضة التى يمكن وصفها بالمعتدلة على المحك.

ويبدو القلق حول الدور الجهادى فى سوريا نابعا من خطر المقاتلين، الذين قد يشكلون خطرا على الغرب بعد عودتهم من سوريا أو أثناء وجودهم فيها، إضافة لاعتناق الكثيرين عقيدة القاعدة وطموحاتها الدولية.

ويقدر المسئولون الأمريكيون عدد المقاتلين الذين يصلون شهريا إلى سوريا ما بين 100-500 معظهم ينضمون للجماعات المتشددة، وهم من مختلف الجنسيات من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، هولندا، كندا، استراليا ومن باكستان والشيشان وشمال أفريقيا ودول المنطقة من العراق والأردن ولبنان وحتى من فلسطينيى الداخل فى إسرائيل.

وترى دراسات استخباراتية أن سوريا وخلال العامين الماضيين جذبت إليها جهاديين أكثر مما جذب اليمن والعراق وأفغانستان فى عقود الثمانينيات من القرن الماضى أو بعد الغزو الأمريكى، وملاحقة النظام اليمنى لتنظيم قاعدة شبه الجزيرة العربية.

وأظهرت دراسة نشرت حديثا أن نسبة كبيرة من المقاتلين فى الانتفاضة السورية هم من المتشددين أو من الإسلاميين المعتدلين فيما تعتبر نسبة من يسمون بالعلمانيين ضئيلة.

ولا يعرف بالتحديد عدد مقاتلى كل فصيل إلا أن النصرة والدولة الاسلامية فى العراق والشام (داعش) يقاتل فى صفوفهما الآلاف، ويبلغ عدد مقاتلى فصائل مثل أحرار الشام أكثر من 10 آلاف ويقول المسئول الأمريكى إن مؤسسى أحرار الشام هم من الإسلاميين الذين كانوا معتقلين فى سجون الأسد وأطلق سراحهم ضمن العفو العام عام 2011.

وتظل داعش من أكثر التنظيمات قسوة وخطورة من بين التنظيمات الإسلامية المقاتلة، فقد خاضت معارك مع الجيش الحر، وسيطرت على أعزاز قرب الحدود مع تركيا.

وفيما تعاونت الفصائل المعتدلة مع الجماعات الجهادية مثل النصرة نظرا لكفاءة وانضباط المقاتلين فى صفوفها فإن النصرة خاضت فى الوقت نفسه نزاعات ومعارك مع فصائل كردية حيث قام كل فريق باعتقال مقاتلين ومدنيين من الطرف الآخر.

وبالمحصلة تشكل الجماعات الجهادية نسبة 35 فى المائة من المقاتلين، حيث يصل عدد المقاتلين المتشددين منهم حوالى 100 ألف.

وليس ثمة شك فى أنه وفقا للحسابات العسكرية والتقنية الصرفة فإن انتصار الثورة مستبعدا جدا، ذاك أنها لم تستطع حسم الصراع العسكرى مع النظام وحده، وإذا كان مؤكدا أن دعم روسيا وإيران وحزب الله لبشار الأسد قد لعب دورا فى هذه الحصيلة يكمل الدور الذى لعبه ضعف المساعدات التى حظيت بها الثورة، يبقى أن العاملين هذين لا يحجبان قدرات فعلية استعرضها ذاك النظام، إن لجهة نهوضه على تماسك أهلى مضمون، أو لجهة إبقائه على وحدة الجسم الأساسى لأدواته القمعية.

ويبدو صحيحا القول بإن القضاء على السلطة، وفى الوقت نفسه القضاء على القوى الإسلامية، لا سيما وقد أتيح لها أن تنمو وتكبر وتتعزز بمقاتلين أجانب، غدا من شبه المستحيل.
وإذا كان الصراع الإقليمى والدولى موجود باستمرار، ولكنه ليس هو المسئول عن اندلاع الثورة أو حراكها أو صيرورتها، إلا أنه مما لا شك فيه هو أن الصراع الإقليمى والدولى يعمل على استغلال الثورة وتوظيفها واستعمالها وإهمالها، ولكنه مضطر أيضا إلى ضبط حركاته وسكناته على إيقاع الثورة الذاتى وصيرورتها المستقلة.

وعلى الرغم من عدم وجود إجماع على أن لا مكان لنظام بشار الأسد فى سوريا مهما حدث ومهما كانت نتائج "ماراثون جينيف"، إلا أن أى تسوية مقبلة فى ظل الشروط الراهنة فى المستقبل المنظور يجب أن تراعى مصلحة الشعب السورى، حتى قبل أن تنتهى مأساته الإنسانية، رغم وجود مؤشرات على أن ماراثون المفاوضات يمكن أن يكون شبيها باتفاق الطائف الذى أنهى الحرب الأهلية فى لبنان على أساس لا غالب ولا مغلوب.

وإذا كانت الآمال تتصاعد بشأن إنهاء مأساة السوريين، إلا أنه يجب التأكد من أنه لن يكون يسيرا إجراء مصالحة وطنية فورية، ولن تكون سهلة استعادة المجتمع السورى للحمته والثقة بنفسه بسرعة بعد كل الذى جرى.