عمر بن عبد العزيز وجهوده العلمية

كان قبسًا من نورٍ أضاء سماء الأمة الإسلامية في فترة من الفترات التي ضعفت فيها الهمم، وفترت فيها العزائم، فقيَّضه الله عزَّ وجلَّ للأمة ليكون مجدِّد دينها على رأس المائة الثانية، وقد كان!!
نشأة عمر بن عبد العزيز العلمية:
اختار عبد العزيز - والد عمر- صالح بن كيسان ليكون مربيًا لعمر بن عبد العزيز، فتولى صالح تأديبه وتعليمه، وحبَّبه في العلم، وكان أبوه حريصًا على تقويمه، وتشجيعه على الجد والاجتهاد؛ يروي ابن كثير عنه أنه كان يلزم الصلوات المفروضة في المسجد منذ نعومة أظفاره، فتأخَّر مرة عن صلاة الجماعة، فسأله مؤدبه صالح بن كيسان عمّا أخره، فذكر له أن الخادمة كانت ترَجِّل له شعره، فقال له: بلغ منك حبك تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة، وكتب إلى والده في ذلك، فبعث أبوه له من يحلق رأسه[1]، هكذا كانت تربيته.

كما تأثر فيما بعد بشيوخ كبار مثل "عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود" الذي كان عمر يحترمه ويُجِلُّه كثيرًا، وأخذ عنه ونهل من علمه وأدبه، ولما تُوُفِّي والده ضمه إليه عمُّه عبد الملك بن مروان (الخليفة الفقيه)، مما دفعه إلى العلم دفعًا، وجعله يدرك ـ منذ فترة مبكرة ـ أن الحياة لا تقوم إلا بالعلم، وأن العلم "لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كُلَّك".
وهكذا تربى عمر وتعلم على يد طائفة كبيرة من العلماء والفقهاء، بلغ عددهم ثلاثة وثلاثين عالمًا، فيهم ثمانية من الصحابة، وخمسة وعشرون من التابعين[2]، نهل من علمهم وتأدب بأدبهم، ولازم مجالستهم حتى ظهرت آثار هذا العلم وهذه التربية على تصرفاته، فامتاز بشخصية علمية دقيقة.
حب عمر للعلم:
كان من توفيق الله جلَّ وعلا له أن حبَّب إليه العلم منذ نعومة أظفاره، فرحل في طلب العلم، وأطال الجلوس في حلقات الفقهاء، ومجالس المحدثين.. ومنذ كان واليا للمدينة المنورة وهو حريص على تلقي العلم من الصحابة وكبار التابعين، يذكر أنه كان يكثر من مجالسة شيخه "عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة"، وكان من شيوخه أيضًا سعيد بن المسيب، الذي عُرِفَ عنه أنه كان لا يأتي أحدًا من الأمراء إلا عمر، وذلك لما عرفه عنه من حبه للعلم، وتوقيره للعلماء، ولمكانته العلمية وما حصله فترة شبابه من علم جعله معلمًا لكثير من معاصريه، ومن شيوخه سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وكان مجلس عمر : يضم نخبة من كبار العلماء يذكر الزهري (الإمام العالم) أنه كان مع "عمر بن عبد العزيز" في ليلة يتحادثان، فقال له عمر: "كل ما حدَّثتَه الليلة فقد سمعته، ولكنَّك حفظت ونسينا"[3].

وهذا يبين رسوخ قدمه في طلب العلم، وكثرة سماعه، وسعة اطِّلاعه، حتى يصرِّح للإمام الزهري، بأنه سمع كلَّ ما حدَّث به.
ومن الدلائل الواضحة على سعة علمه:
أنه ما من كتاب من كتب السنة أو الفقه الاستدلالي، إلا وفيه ذكر لعمر بن عبد العزيز، من حديث أو رأي، أو أمر، أو قضاء، ونحو ذلك.

الاحتجاج لرأيهم بقوله وفعله، من ذلك الرسالة الشهيرة التي بعث فيها الليث بن سعد إلى الإمام مالك، وفيها يحتج الإمام الليث غير مرة لصحة قوله بقول عمر على مالك فيما ذهب إليه في بعض مسائله.
كذلك يرد ذكره في كتب المذاهب الأربعة، على سبيل الاحتجاج به، حتى إن الحنفية جعلوا له وصفًا متميزًا به، وهو "عمر الصغير" تمييزًا له عن جده الفاروق عمر رضي الله عنه، والإمام مالك ذكره في "الموطأ" في زيادة على عشرين موضعًا، كما أنَّ أصحابه من بعده قد أكثروا من ذكر عمر في كتبهم، وكذلك فعل الشافعية، وأمّا الحنابلة فيكفي للدلالة على شأنه الكبير عندهم والاحتجاج بقوله، ما قاله إمام المذهب: "لا أدري قول أحد من التابعين حُجَّة إلا قول عمر بن عبد العزيز"[4].
ورسالته الطويلة العظيمة في الرَّد على القَدَرية[5]، وحُجَجه القوية فيها، وتفنيد آرائهم، شاهد واضح، ودليل ناصع، على غزارة علمه، وكبير شانه، كذلك حجاجه للخوارج، وكشف زيوف آرائهم، حيث ناظرهم فما ترك لهم حُجَّة إلا كسرها بمنطق قويم، ودليل قوي، وحُجَّة غالبة، ورأي قاهر[6].
أقوال العلماء في علم عمر:
اجتمعت آراء الأئمة وشهاداتهم على أن عمر بن عبد العزيز أحد الأفراد من العلماء الراسخين، ومن أبرز علماء زمانه المليء بكبار التابعين، وهذه شذرات من أقوالهم:
عن الزهري قال عبيد الله بن عبد الله: "كانت العلماء عند عمر بن عبد العزيز تلامذة"[7]. وهذه شهادة عظيمة من أستاذه وخاصة شيوخه.
وقال مجاهد: "أتينا عمر بن عبد العزيز ونحن نرى أنه سيحتاج إلينا، فما خرجنا من عنده حتى احتجنا إليه"، وقال أيضًا: "أتينا عمر نعلمه، فما برحنا حتى تعلمنا منه"[8].
وقال ميمون بن مهران: "كان عمر بن عبد العزيز معلِّم العلماء"، وقال فيه سيد العلماء أيوب السختياني- وكفى به-: " لا نعلم أحدًا ممن أدركنا كان أخذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر منه"[9].
وأمّا الإمامان مالك وابن عيينة فقالا: "عمر بن عبد العزيز إمام"[10] وقال الحافظ ابن سعد فيه: "كان ثقةً مأمونًا، له فقه وعلم وورع، وروى حديثًا كثيرًا، وكان إمام عدلٍ، : ورضي عنه"[11]، ووصفه الحافظ ابن عبد البر بأنه: "كان أحد الراسخين في العلم"[12].
وقال الإمام الذهبي: "وكان إمامًا فقهيًا مجاهدًا، عارفًا بالسنن، كبير الشأن، ثبتًا، حجة، حافظًا"[13].
فهذه كلمة إجماع من هؤلاء الأئمة الثقات، وبذلك أصبح عمر موئل العلماء، وقبلة الطالبين، روى الحديث فأكثر، ونظر في النصوص فاجتهد واستنبط، فأخذ عنه الفقهاء، واعتبروا رأيه حجة.
قال الليث بن سعد :: حدثني رجل كان صحب ابن عمر وابن عباس، وكان عمر بن عبد العزيز يستعمله على الجزيرة، فقال: "ما التمسنا علمَ شيءٍ إلا وجدنا عمر بن عبد العزيز أعلم الناس بأصله وفروعه، وما كان العلماء عند عمر بن عبد العزيز إلا تلامذة"[14].
جهوده في نشر العلم وتدوينه:
لم يجلس أمير المؤمنين عمر في حلقات العلم ليبثَّ فيها ما عنده، ولم يتصدر المجالس للإفتاء ونشر الفقه؛ إلا أنَّ له سابقة عظيمة، ودورًا أكبر خطرًا، وأعظم أثرًا، وأكثر نفعًا للمسلمين في هذا المجال... ذلكم هو جهده العظيم في تدوين الحديث النبوي، وكذلك جهده الوافر في تسيير العلماء والفقهاء لتعليم الناس وتثقيفهم وإرشادهم، وكان من جهده العظيم في هذين الجانبين ما يأتي:

أولاً: تدوينه العلم وأمره بذلك:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن كتابة غير القرآن في أول الأمر، مخافة اختلاط غير القرآن به، واشتغال الناس عن كتاب ربهم بغيره، ثم جاء بعد ذلك الإذن النبوي بالكتابة والإباحة المطلقة لتدوين الحديث الشريف، فنُسِخَ النهي، وصار الأمر إلى الجواز.

قال الخطيب البغدادي: "إنَّ كراهة الكتاب في الصدر الأول إنما هي لئلاّ يضاهى بكتاب الله تعالى غيره، أو يُشتَغَل عن القرآن بسواه.. ونهى عن كَتْبِ العلم في صدر الإسلام، لقِلَّة الفقهاء في ذلك الوقت، والمميزين بين الوحي وغيره؛ لأنَّ أكثر الأعراب لم يكونوا فقهوا في الدين، ولا جالسوا العلماء العارفين، فلم يُؤمَن أن يُلحِقوا ما يجدون في الصحف بالقرآن، ويعتقدوا أنَّ ما اشتملت عليه كلامُ الرحمن"[15].
ولقد هَمَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بجمع السنة، وفكَّر طويلاً، ثم لم يلبث أن عَدَلَ عن ذلك؛ فعن عروة بن الزبير أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد أن يكتب السنة، فاستفتى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير اللهَ فيها شهرًا، ثم أصبح يومًا وقد عزم الله له، فقال: "إني أريد أن أكتب السنن، وإني ذكرت قومًا كانوا قبلكم كتبوا كتبًا؛ فأكبُّوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدًا"[16].
ولما أُمِنَ ذلك ودعت الحاجة لم تُكرَه كتابة العلم، وثبت أن كثيرًا من الصحابة قد أباحوا تدوين الحديث، وكتبوه لأنفسهم، وكتب طلابهم بين أيديهم، وأصبحوا يتواصوا بكتابة الحديث وحفظه.
بَيْدَ أن التدوين الذي آتى ثمارَه هو ما قام به أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، وقد تجلَّي ذلك في إرشاداته لكتابة العلم وتدوين الحديث، وأوامره للخاصة والعامة بذلك؛ فمن إرشاداته قوله: "أيها الناس، قيِّدوا النعم بالشكر، وقيدوا العلم بالكتابة"[17]. ولم يكتفِ أميرُ المؤمنين عمر بهذا الإرشاد العام، والحضَّ على حفظ العلم بكتابته، بل سعى - بحكمه خليفة المسلمين - إلى إصدار أوامره إلى بعض الأئمَّة العلماء بجمع سنن وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حمله على ذلك ما رآه عند كثير من التابعين من إباحة كتابة الحديث، وهم قد حملوا علمًا كثيرًا، فخشي عمر على ضياعه خاصة أنه ليس دائمًا يتوافر الحفظة الواعون لنقله، دونما احتياج إلى كتابة الكتب والرجوع إليها للاستذكار.
وثمة سبب آخر يضاهي سابقه في الأهمية، وهو انتشار الوضع، ودس الأحاديث المكذوبة، وخلطها بالصحيح من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بسبب الخلافات المذهبية والسياسية، وإلى هذا يشير كلام الإمام الزهري: "لولا أحاديث تأتينا من قِبَلِ المشرق ننكرها لا نعرفها، ما كتبتُ حديثًا، ولا أَذِنتُ في كتابته"[18].
ورأي الزهري هذا كان رأي كثيرٍ من أئمَّة ذلك العصر؛ حيث خافوا على الحديث النبوي من الضياع، واختلاطه بالمكذوب، مما حفَّز العلماء على حفظ السنن بتدوينها.
وجاء رأي السلطة العليا ممثلاً بقرار الخليفة الورع المجاهد أمير المؤمنين عمر؛ فاتخذ خطوة حازمة حاسمة بتدوين سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل من مسئوليات الدولة حفظ السنة المطهرة[19]؛ فكتب إلى الإمام الثَّبْت، أمير المدينة وأعلم أهل زمانه بالقضاء، أبي بكر بن حزم، يأمره بذلك ففي صحيح البخاري: "وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خفت دروس العلم (ضياعه)، وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولتُفْشُوا العلم، ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرًّا"[20]، وعند ابن سعد عن عبد الله بن دينار: قال: "كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن محمد عمرو بن حزم: أن انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو سنة ماضية، أو حديث عمرة بنت عبد الرحمن[21]، فاكتبه، فإني خِفْتُ دروس العلم وذهاب أهله"[22].
كذلك وجَّه كتابًا بهذا الشأن إلى الإمام الحجة ابن شهاب الزهري، فقد ذكر ابن عبد البر أن ابن شهاب قال: "أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن، فكتبناها دفترًا دفترًا، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفترًا"[23]. ومن هنا قال الحافظ ابن حجر: "وأول من دون الحديث ابن شهاب الزهري على رأس المائة بأمر عمر بن عبد العزيز، ثم كَثُرَ التدوين ثم التصنيف، وحصل بذلك خير كثير، فلله الحمد"[24]، بل إنَّ عمر أرسل إلى أهل المدينة جميعًا يحثهم على جمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليشارك في هذا كل من لديه علم، ولو كان بضعة أحاديث؛ فعن عبد الله بن دينار قال: "كتب عمر بن عبد العزيز إلى أهل المدينة: أن انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبوه، فإني قد خفت درس العلم وذهاب أهله"[25].
ولم يقف عمر عند ذلك، بل عمَّم أوامره إلى جميع الأمصار في الدولة الإسلامية؛ ليقوم كل عالم بجمع وتدوين ما عنده من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما سمعه من أصحابه الكرام؛ روى أبو نعيم في "تاريخ أصبهان" فقال: "كتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق: انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه واحفظوه، فإني أخاف دروس العلم وذهاب العلماء"[26].
كذلك فإن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه اهتمَّ باللغة العربية؛ فشجَّع أهل البلاد المفتوحة على تعلمها وإتقانها، وكان يُغدِق عليهم – لذلك - العطايا، كما كان يعاقب من يَلْحَن بالعربية، وينقص من عطائه، لما يعلم من أهمية العربية في فهم كتاب الله تعالى والسنة الشريفة[27].
منهجه وطريقته في التدوين:
اتبع عمر بن عبد العزيز: في جمع الحديث النبوي وتدوينه منهجًا سديدًا قويمًا، ووضع فيه شروطًا صارمة، ويتجلَّى ذلك في أربعة أمور:

الأول: حُسْنُ اختياره للقائمين بهذا الأمر:
فقد اختار له ابن حزم، والزهري: فأمّا أبو بكر بن حزم فهو أحد أوعية العلم، ومن أعلام عصره، قال فيه الإمام مالك: "ما رأيت مثلَ ابن حزمٍ أعظم مروءةً ولا أتم حالاً، ولا رأيت من أُوتِيَ مثل ما أوتي: ولاية المدينة، والقضاء، والموسم"، وقال: "كان رجل صدق، كثير الحديث"[28]، وقال ابن سعد: "كان ثقة عالمًا كثير الحديث"[29] توفي سنة (120هـ)[30].

وأما ابن شهاب الزهري فهو الإمام العلم، حافظ زمانه، وشهرته ملأت الآفاق: قال فيه الليث بن سعد: "ما رأيت عالمًا قطُّ أجمع من ابن شهاب: يحدِّث في الترغيب والترهيب؛ فتقول: لا يحسن إلا هذا، وإن حدَّث عن العرب والأنساب، قلت: لا يحسن إلا هذا، وإن حدَّث عن القرآن والسنة، كان حديثه"[31].
وقال عمر بن عبد العزيز: عليكم بابن شهاب، فإنه ما بقي أحدٌ أعلم بسُنَّةٍ ماضية منه"[32]، وقيل لمكحول: "مَنْ أعلم من لقيت؟ قال: ابن شهاب. قال: ثم من؟ قال: ابن شهاب"[33].
الثاني: أنه طلب ممن يدون له السُّنة جمع الأحاديث مطلقًا وتدوينها، وتتبع أحاديث أناس مخصوصين لما امتازوا به، وتدوين أحاديث معينة لأهميتها؛ فقد أمر ابن حزم بتدوين حديث عَمرة بنت الرحمن لأنها من أثبت الناس بأم المؤمنين عائشة[34]، والسيدة عائشة هي أعلم الناس بأحوال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشئونه الخاصة داخل بيته ومع أهله.
وذكرت إحدى الروايات أنه أمر ابن حزم بجمع وتدوين حديث عمر بن الخطاب، وذلك لما يقصده ابن عبد العزيز من تتبع سيرة الفاروق، وأقضيته وسياسته في الصدقات، وكتبه إلى عماله فيها، وقد طلب عمر ذلك أيضًا من سالم بن عبد الله بن عمر، وكل ذلك واضح من النهج الذي سلكه عمر بن عبد العزيز في الاقتداء بجده رضي الله عنه.
الثالث: أنه ألزم مَن يُدوِّن السنة النبوية أن يميز الصحيح من السقيم، ويتحرَّى الثابت من الحديث، وذلك واضح في رواية الدارمي؛ حيث يقول عمر لابن حزم: "اكتُبْ إلى بما ثبت عندك من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبحديث عمر". وعند الإمام أحمد: "اكتب إلى من الحديث بما ثبت عندك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديث عَمْرة"[35].
وهذه نقطة عظيمة الأهمية في تأسيس منهج التدوين على أسسٍ راسخة، ثابتة صحيحة.
الرابع: تَثَبُّته شخصيًا من صحة الحديث والتحديث:
فعمر من كبار العلماء، وليس بأقل شأنًا من العلم ممَّن أمرهم بالتدوين؛ لذلك قام بمشاركة العلماء في مناقشة بعض ما جمعوه، زيادةً في التثبت؛ من ذلك ما رواه أبو الزناد عبد الله بن ذكوان القرشي قال: رأيت عمر بن عبد العزيز جمع الفقهاء، فجمعوا له أشياء من السنن، فإذا جاء الشيء ليس العمل عليه؛ قال: هذه زيادة ليس العمل عليها"[36].

ثمرة هذا التدوين:
لقد آتَتْ هذه الجهود الباكرة المباركة أُكُلَها، وتمثَّل ذلك بتلك الدفاتر التي جمعها الإمام الزهري، فأمر عمر بن عبد العزيز بنسخها عدَّة نسخ، ثم أرسل إلى كل بلد في دولته الكبيرة دفترًا منها.

ويُلاحَظ أن كثيرًا من العلماء جمع لنفسه مسموعاته، ليعود إليها كلَّما وجد في نفسه الحاجة إلى إتقان حفظها، أما التدوين الرسمي، الذي تولَّته الدولة، وعُمِّمَت ثمرتُه على الأمصار، فكان بأمر عمر بن عبد العزيز.
ومن الثمرات الطيبة- أيضًا – ذلك المنهج السديد الذي اتبعه أمير المؤمنين عمر، بوضع الأسس والنقاط المهمة أثناء التدوين، فكانت نواة لمنهج واسع متكامل جاء بعده.
وهذا كله ناتج من دِقَّة فهمه، وغزارة علمه، ونفاذ بصيرته وقبل ذلك وبعده توفيق الله تعالى له.
ولئن كان عمر بن الخطاب قد أشار على الصِّدِّيق بجمع القرآن، ففعل، فكان لهما الفضل الكبير على الأئمة، ثم جاء عثمان فجمع الناس على مصحف واحد، وحرف واحد، ولهجة واحدة هي لهجة قريش - فإن الله تعالى قد ادَّخر لعمر بن عبد العزيز تلك المنقبة العظيمة، والمكرمة الجليلة، في إصدار أوامر الخلافة بجمع السنة وتنقيحها وتدوينها، وجعل من واجبات الدولة حماية السنة التي هي المصدر الثاني للتشريع.
وهي سُنَّة حسنة له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، فلولا التدوين لضاع الكثير من الحديث النبوي، خاصة في العصور المتأخرة، بعد أن قلَّ الحفظ والرواية والسماع، بل حتى الاهتمام بالحديث الشريف.
ولِعُمَر بذلك مِنَّةٌ عظيمة على الأمة، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وهذا من توفيق الله للعظماء وكبار المصلحين، عندما تخلُص سرائرهم، يوفقهم الله للحق، ويدلهم على الخيرات، ويسدد خطواتهم ويهيئ لهم من أمرهم رشدًا.
نشره العلم في الأمصار:
لما كان "من واجبات الدولة أن تُسهِّل تحصيل العلم لجميع القادرين على تحصيله، وهو من فروض الكفايات التي يجب على الدولة القيام به، وتمكين الناس من الوصول إليه"[37]، لم يألُ عمر جهدًا في القيام بهذا العبء خير قيام، وأداء هذا الواجب على الوجه الأكمل، فأرسل العلماء إلى الأمصار بل والبوادي، ليعلموا أهلها شرع الله، ويفقهوهم به.

فبعث إلى مصر الإمام المفتي الثبت، عالم المدينة "نافعًا" مولى ابن عمر وراويته؛ قال عبيد الله بن عمر: "بعث عُمر بن عبد العزيز نافعًا مولى ابن عمر إلى أهل مصر يعلمهم السنن"[38].
وأرسل عشرة من فقهاء مصر من رجال التابعين إلى إفريقية ليفقهوا أهلها ويعلموهم، وينشروا بينهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لينالهم من الخير مثل الذي يَعُمُّ إخوانهم من أهل الحجاز والشام والعراق، وكانت معاقل العلم، فلم يحتج عمر أن يسير لها العلماء، بل تطلَّع إلى أقاصي دولته، فأرسل العلماء إليها، بل إنه أرسل الفقهاء إلى البدو ليعلموا الناس في مضاربهم ويفقهوهم في دينهم؛ روى ابن الجوزي عن ابن أبي غيلان قال: "بعث عمر بن عبد العزيز يزيد بن أبي مالك الدمشقي والحارث الأشعري يفقهان الناس في البدو، وأجرى عليهما رزقًا..."[39].
كذلك كان يرسل الكتب إلى الأمصار الإسلامية في دولته الكبيرة، يعلمهم فيها السنن والفقه، ويأمرهم بإحياء ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، والالتزام بالشرع، وترك ما خالفه، وكانت الكتب تُوَجَّه إلى الولاة والأمراء ليعملوا بها، ويحملوا الناس على التزام ما جاء فيها، وإذا أُشكِلَ على عمر أمرٌ بعث إلى المدينة يسألهم عن ذلك؛ يقول الإمام مالك: "كان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى الأمصار يعلمهم السنن والفقه، ويكتب إلى المدينة يسألهم عمّا مضى، وأن يعملوا بما عندهم"[40]، ويقول الحسن البصري: "وما ورد علينا قَطُّ كتاب عمر بن عبد العزيز إلا بإحياء سنة، أو إماتة بدعة، أو رد مظلمة"[41].
وقد أمر : بإفشاء العلم، وذمِّ كتمانه، وذلك واضح في كتابه إلى أبي بكر بن حزم: "ولتفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرًا"[42].
وقد عمل : على تذليل الصعوبات أمام العلماء وطلبة العلم؛ ففرض المرتبات للعلماء، ولكلِّ مَنْ نَصَبَ نفسه للعلم وحبسها عليه؛ فقارئ القرآن الذي حفظه، وقام يُقرِئه للناس، ويُعلِّمهم أحكامه، والمحدِّث الذي يعقد مجالس الإملاء وينشر الحديث النبوي، والفقيه الذي ينظر في الكتب ويستنبط منها، ويعلِّم الناس أمور دينهم ليعبدوا الله على بصيرة، والطالب الذي يتفرغ للعلم أو البحث والدرس، كل أولئك قد يشغلهم أمر ذويهم وأبنائهم، وسدُّ حاجاتهم، وتدبير أمور معاشهم، فقام عمر بقطع هذا الهاجس عنهم، وكفل لهم ولمن يعولون ما يعيشون به حياة كريمة، تتكفَّل به الدولة، ويُؤخَذ من بيت المال، ونعمّا فعل، فبذلك شجع كلَّ مَن وجد في نفسه الإمكانية لنشر العلم وخدمة الدين والأمة.
روى الإمام الثقة الحجة الخطيب البغدادي عن أبي بكر بن أبي مريم قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى والي حمص: "مُرْ لأهل الصلاح من بيت المال بما يغنيهم؛ لئلاّ يشغلهم شيء عن تلاوة القرآن، وما حملوا من الأحاديث"[43].
اهتمامه بتعليم أولاده:
لم يقتصر اهتمام عمر بن عبد العزيز بالعلم على هذا القدر - على عِظَمِ شأنه -، ولكنه كان نموذجًا مثاليا في تربية أبنائه على العلم، وحُبِّ العلماء وتوقيرهم، واتبع إجراءاتٍ تعليمية جعل منها منهجًا جديرًا يلبي حاجة الناشئ المسلم، وكان يغرس في أبنائه حب العلم منذ الصغر، ويتعاهدهم بالرعاية والعناية، فها هو : يعلِّم ابنه عبد الملك مُذْ أصبح يجيد الكلام القراءة وبعض القرآن، قبل أن يدفع به للمعلمين، ويقول له ابن عمه في ذلك: دعه يلعب مع الصبيان، فما زال طفلاً، فأخذ عمر بيده وقال له: "يا بُنَيَّ كُنْ عالمًا، فإن لم تستطع فمتعلمًا"[44].

ولما اطمأنَّ إلى أنَّ بنيه قد أخذوا حظهم من التربية المستقيمة في بيت الأبوة القويمة العليمة، وأُسِّسَتْ أخلاقُهم على التقوى، وتشرَّبت نفوسُهم حبَّ العلم والتعلُّم، اختار لهم مؤدِّبًا عالمًا تقيًا، بعث به إليهم، وأرسل إليه رسالة يحدد له فيها الطريقة المثلى للتأديب فقال له: "فإني قد اخترتك على علمٍ منِّي بك، لتأديب ولدي، فصرفتهم إليك من غيرك من موالي وذَوِيَّ الخاصة بي،.. وليفتتح كل غلام منهم بجزء من القرآن يثبت في قراءته، فإذا فرغ تناول قوسه ونبله وخرج للرمي..."[45].
وظلَّ : يتابع أبناءه ويتعهَّدهم بالرعاية، ويُسدِّد خطاهم ويوجههم، فكتب إلى أحد أبنائه يقول: "يا بُني احذر الصرعة على الغفلة، حين لا تستجاب الدعوة، ولا سبيل إلى الرجعة، ولا تغترنَّ بطول العافية، فإنما هو أجل ليس دونه فناء، ولا بعد أن تستكمله بقاء"[46].
وقال لابنه عبد العزيز: "يا بُني إذا سمعت كلمة من امرئ مسلم، فلا تحملها على شيء من الشر، ما وجدت لها محملاً على الخير"[47].
وبلغه أن ابنًا له اتخذ خاتمًا، واشترى له فصًا بألف درهم، فكتب إليه عمر قائلاً: "أما بعدُ، فقد بلغني أنك اشتريت فصًا بألف درهم، فبعه، وأشبِع به ألف جائع، واتخذ خاتمًا من حديد، واكتب عليه: رحم الله امرًا عرف قدر نفسه"[48].
رحم الله عمر بن عبد العزيز؛ كان طودًا من أطواد العلم، ونبراسًا لمن جاء بعده؛ فجزاه الله عن الأمة خير الجزاء !!