يبحث فى الملفات الموجودة فى الكمبيوتر عن الصورة التى نسيها، ولم يجدها مع بقية الأعمال فحتى لو ضاعت الصورة فإن أصلها الموجود يمكنه من أن يصنع واحدة أخرى بديلة عنها.

قرر البحث حسب المكان، فتح ملف صور المحلة، تذكر فى التو واللحظة ما حدث يومها وكأنه يفتح باب آلة الزمن، وعاد لليوم الذى كان موجودًا فيه بالمحلة عندما قابل عمال مصنع المحلة بكبائنه الكبيرة التى تشبهه برج القاهرة كان ذلك فى وقت الراحة لعمال الوردية الأولى الذين أصروا عندما عرفوا أنه يحاول القيام بتوثيق ما رسم من جرافيتى الثورة وبالذات الذى يعبر عن مطالبهم مثل، حد أدنى للأجور وحد أقصى للأجور، وجرافيتى "أفرجوا عن المعتقلين" وكيف أخبروه أن يذهب إلى ميدان الشون، وبعدها يذهب إلى ميدان الساعة. كانت لحظات مميزة فى حياته يعرف أنها ستكون لحظات لن ينساها.
لم يجد الصورة بها فتح ملف السويس ثم الإسماعيلية ثم بورسعيد ثم طنطا ثم المنصورة ثم الأقصر ثم أسوان بحث بشكل سريع داخل كل ملف لم يجد الصورة، عدم تركيزه جعله لا يبحث جيدا قاربت الساعة على الواحدة صباحًا استرجع أحداث اليوم فى ذاكرته.
كان يجلس وحده بين لوحاته يعرف أنه آخر يوم فى المعرض جرب ذلك الشعور كثيرا بعد أن يمشى الجميع يقيم ذلك الحوار الصامت مع اللوحات المعلقة على الحائط، خمسون صورة معلقة تكلمه ويكلمها، تلك اللقطة للسيدة التى تحمل صورة ابنها الشهيد المرسوم على الحائط ويقف أمامها بحجم أصغر مجموعة من الشباب يحملون العلم، صورة فى شارع جانبى لشاب يجلس على الرصيف هاربا من قنابل الغاز وخلفه جدار ضخم كبير مكتوب عليه "نريد قانون ثورى" المفارقة بين الشاب وهيئته وهو يعانى من الغاز وبين الكلام المكتوب خلفه هو ما لفت نظره لعمل تلك اللقطة حائط مكتوب عليه "مفيش حرية ببلاش" يمر بجواره فتى يركب عجلة يوصل عيش للمنازل واقفا ليصور تلك الكلمة بموبايله جرافيتى لأحد الشباب مرسوم بحجم كبير مكتوب أسفل صورته شهيد الحرية الحجر المكتوب عليه كلمة مكملين... يتذكر الوقت الذى صور فيه تلك اللقطة جيدا؛ كان ذلك فى اليوم الذى قرر فيه الثوار أن يزيلوا الأحجار الضخمة التى وضعها الأمن بين شارع القصر العينى ومجلس الشعب وبينما يقوم الشباب بإزالة الأحجار وقعت الكتل الأسمنتية الكبيرة وبقيت فقط كلمة "مكملين" المكتوبة على الحجر وقرر أن يلتقط تلك اللقطة النادرة يحب تلك اللقطة جدا... يمر بين اللوحات يسأل نفسه: هل كان ترتيب اللوحات مناسبا هل كان كما يريده؟ أليس الأفضل إن كان ترتيبهم بشكل مختلف يجلب السلم ويقف مع العامل الذى يعمل بالجاليرى حتى يتم إنزال اللوحات، وبينما يقوم العامل بذلك يتجه ناحية مدخل الجاليرى حيث الأجندة التى يكتب فيها الناس تعليقاتهم عن المعرض لا يحب أن يقرأ ما كتب إلا فى آخر يوم هناك تعليقات بها مجاملات استبعدها على الفور من دائرة حساباته يسعده تلك التعليقات من أناس لا يعرفهم مست بعض التعليقات قلبه فهى تشيد باللوحات التى يحبها جدا والقريبة من قلبه، ويحب أيضًا تلك التعليقات التى يرى أصحابها اللوحات بشكل مختلف عما قصده بها هذه التعليقات بالذات تثبت أن الفن له تفسيرات متعددة ربما بقدر كل فرد يدخل المعرض يرى بطريقته رغم أن اللقطات هى هى.

جمع اللوحات الكبيرة مقاس متر فى 70 وحدها ثم اللوحات مقاس 50 فى 70 وحدها ثم مقاس 30 فى 40 تحرك ناحية الباب وخرج لشم الهواء فى الخارج بينما اللوحات ملفوفة وموضوعة فوق بعضها بحرص شديد، حاول إيقاف تاكسى لكن لم يحظ بالحظ السعيد لما يحمله فى يده، وصل إلى المحطة وركب مينى باص متوجها لبيته وضع اللوحات بجانب الشباك، وجلس هو على الكرسى الآخر قطع تذكرتين، وجلس تكلم الناس فى أثناء سير المينى باص فى مواضيع شتى.
تذكر اللقطات التى صورها فى السويس كانت أصعبها تلك اللقطة لجرافيتى لاحد الشهداء عندما وجد سيدة تشبه والدته تشير له لتسأله عما يفعل، أخبرها بأنه يوثق لصورة الجرافيتى المرسوم، لأنه سوف يتم إزالته فيما بعد ولكنها قالت له: إن ذلك لن يحدث إلا على جثتها. مما أثار تعجبه: لماذا هذا الجرافيتى بالتحديد؟ فقالت: لأنه لابنها. وبكت بكاء صاحبته نهنهة مكتومة، وسرعان ما تعالى صوت بكائها توقف عن العمل ولم يستطع تصوير اللقطة، صممت أن يدخل بيتها فى الاتجاه المقابل للجرافيتى الضخم لصورة ابنها على الحائط حكت له أن زملاء ابنها قرروا رسم تلك الصورة حتى تظل صورته هى أول ما تراه عندما تهم بالخروج من المنزل.

تعرف على إخوته البنات الثلاثة حكت له أنها حاولت منع ابنها من الخروج فى ذلك اليوم ولكنه صمم، كانت خائفة عليه بشكل كبير، حلمت فى اليوم السابق على استشهاده بأنه يطير فى سماء المدينة طلبت منه أن يشرب الشاى أخبرها أنه يشربه باردا تعرف على البنات الثلاثة الصغيرات أخوات الشهيد وسمحت له بمشاهدة الألبوم الخاص بة اكتشف أنه شاب فى العشرين من عمره وهو أكبر أبنائها لم يستطع أن يشرب الشاى ولما قال لها إنه يعيش فى القاهرة، وأتى فقط ليوثق جرافيتى الشهداء، صممت على أن يبقى معهم لكنه لم يشأ أن يتعبها.

وهو عند الباب طلبت من أن يعطيها نسخة من الصورة، ولما عرف أن إحدى أخوات الشهيد تملك إيميلا قرر أن يرسل لهم الصورة عليه.
- انت يا بنى قاعد على كرسين ليه؟
- نعم!
- بقولك قاعد على كرسين ليه؟.
- يا حاجه ما هو أنا قاطع تذكرتين بس اتفضلى ولا يهمك.
- ربنا يباركلك يا بنى.
وضع اللوحات فى المسافة الفاصلة بين الكرسى وجانب المينى باص
- بتاعة إيه الصور دى يا بنى
- دى لوحات عن صور الشهدا
- ربنا يرحمهم. هكذا قالت. ولم تتكلم مرة أخرى، حتى نزوله من المينى باص أكتشف أنه ربما يكون نسى اللوحة فى قاعة العرض، وبالتالى فإنها لن تضيع لأنه يمكنه استرجاعها فى اليوم التالى وإما يكون قد نسيها فى المينى باص لذا قرر أن ينزل مسرعا من البيت أخذ تاكسيا وقرر الذهاب إلى جراج المينى باص كانت هذه اللقطة واحدة من أهم اللقطات التى صورها فى حياته، كان قد صور بعض الشباب يقفون أمام مدرسة الهرم للغات ويكتبون أسفل صورة الشهداء "يا نجيب حقهم يا نموت زيهم"

بعد مرور ثمانية أشهر وهو عائد لمنزله وجد صورة أحد هؤلاء الشباب الذين رسموا على الحائط وكتبوا عليه "يا نجيب حقهم يا نموت زيهم" قد رسمت على الجدار لم يصدق نفسه وعندما صعد لمنزله وجد صورة الشاب ويرسم على الجدار ثم صورته شهيدًا وهى معلقة على الجدار بعد مرور أربعين يوما على وفاة الشاب، وقف أصدقاء ذلك الشاب يملأون الشارع بجملة واحدة: "لو مات واحد لسة كتير") كانت هذه أكثر صورة يعتز بها فى معرضه حيث طبعها بشكل متسلسل فى الجزء الأيمن من اللوحة الشاب وهو يرسم فى الجزء الثانى الشاب مرسوما على الجدار ثم فى الجزء الأيسر من اللوحة الكلمة التى كتبها زملائه.

وصلت السيارة للجراج وجد المفتش وهو يقوم بعد الإيراد والعربات لازلت واقفة لقد رجع قبل آخر دور للمينى باص
سأل المفتش عن السيارة التى كانت فى التحرير فى الحادية عشر والنصف - ليه؟ بتسأل ليه؟
- أصل فيه حاجة مهمة قوى ضاعت منى فى المينى باص.
- فلوس؟
- لأ.
- محفظة؟
- لأ
- دهب؟
- لأ؟
- أمال إيه؟
- لوحة.
انفجر المفتش ضاحكا: لوحة!... لوحة إيه؟
- أصل أنا مصور دى لوحة كنت عاملها فى معرض
- طيب.. طيب.. بص العربية دى بتاعة محمود، كان آخر دور ليه
دخل العربة اقترب من المكان الذى كان جالسا فيه، وجد اللوحة مبين الكرسى، وبين جانب السيارة أزال الغبار، والتراب الذى علق بها:
سأله المفتش: لقيتها؟
رفع اللوحة حتى يراها المفتش الذى ابتسم له: شوف يا بنى مدام مش فلوس ولا محفظة هيبقى هتلاقيها..
- الحمد لله.
بحث فى جيبه اكتشف أنه ليس معه نقود فكر أن يمشى رافعا اللوحة لكنه تأكد أن الناس لن يروها بسبب الظلام الذى حل بالطريق.
اكتفى بأن يضعها تحت إبطه وأن يكون وجهها للمارة الذن كانوا يختلسون النظر لها أحيانا ورغم المسافة الضخمة التى كان سيمشيها من شبرا إلى الهرم، فإنه كان سعيدا جدا.