رصد الأكاديمى البريطانى، تشارلز تريب، أستاذ السياسات الشرق أوسطية فى كلية الدراسات الإفريقية والشرقية فى جامعة لندن، عبر كتابه الجديد "السلطة والشعب" استراتيجيات المقموعين التى تفتح الطريق أمام إسقاط الأنظمة المستبدة وخلخلة هيمنتها، متخذا من ثورات الربيع العربى نموذجا يمكن الاعتماد عليه لفحص الأحداث المقبلة وتقديم دروس للأجيال القادمة.

وفى الكتاب الذى جاء فى 407 صفحات، قال تريب إنه فى يوم الخامس والعشرين من يناير 2011، تشكلت مجموعات محدودة من الناس فى ميدان التحرير يحركها الحماس الذى بثته الثورة التونسية التى تمكنت من خلع نظام الرئيس زين العابدين بن على فى 14 يناير بعد شهر واحد من الاحتجاجات، ووقفت الجموع وسط الميدان الفسيح الذى تدرك أنه الفضاء الرئيسى الذى يمثل السلطة وتحلم بالسيطرة عليه.

وأشار الكتاب إلى أن ذلك كان العدد الأولى من الناس ممن شعروا بأن مجرد وصولهم إلى هذا المكان انتصار تاريخى رغم إحساسهم بقلة عددهم داخل الميدان الفسيح الذى يحمل بين جنباته عبق تاريخ طويل من المقاومة، ووسط الحصار الحديدى الذى كانت السلطة تفرضه عليه طوال الوقت، وأضاف الكتاب "لحظة تلو أخرى تزايد ذلك العدد حتى اكتظ الميدان وتعالت صيحات المتظاهرين مطالبة بسقوط النظام ورحيل رأسه، حسنى مبارك، ولم يكن من الممكن أن يسمح النظام لأحد باحتلال ذلك الفضاء الذى يجسد سلطته المطلقة، فأطلقت قوات الأمن المركزى لتفرقة المتظاهرين بالهراوات وقنابل الغاز، لكن الجموع كانت قد اجتاحت أماكن أخرى من البلاد وتمكنت من التغلب على محاولات قوى الأمن تفريقهم واستعادة فضاءاتهم المصونة، وأخيرا تمكنت الجماهير المتمسكة بأماكنها من الانتصار على النظام وآلاته القمعية، وتنحى الرئيس محمد حسنى مبارك فى الحادى عشر من فبراير مسلما السلطة للمجلس العسكرى ".

ويرى الكاتب أن الثورة التونسية تشترك مع الثورة المصرية وغيرها من حركات الربيع العربى فى عدد من الخصائص التى تلقى بالضوء على الكثير من عناصر المقاومة السياسية السلمية وبالتبعية طبيعة السلطات التى تواجهها، وقال " كانت ردة فعل الطغاة تجاه الغضب العارم للجماهير تكشف عن عدم قدرة هؤلاء الطغاة على تصديق ما يحدث، فقد كانوا يؤمنون بتلك الأساطير التى حاكوها حول سلطتهم والتى من الواضح أنه لم يكن هناك من يؤمن بها غيرهم، فبينما كانت الجماهير تثور وتخرج غاضبة فى دولة تلو الأخرى، ظل الطغاة يعيشون فى حالة من النكران ويعتقدون أن هناك مؤامرات تحركها قوى خارجية تحاك ضدهم ".

هذا المشهد الحى من القمع، والمقاومة وخلخلة تلك الأنظمة السياسية العتيدة، لا يجب النظر له باعتباره حدثا استثنائيا، فهو يستدعى بالضرورة إلى الأذهان العديد من الأحداث المشابهة التى ميزت التاريخ الحديث للشرق الأوسط، والتى باستيعاب آليات تطورها، يمكننا فهم آليات الصراع بين السلطة والشعب؛ حيث أن تاريخ الشرق الأوسط المعاصر بما يحمل فى طياته من قمع وتمرد، احتلال وثورات، وعلاقة ديناميكية حية ومستمرة بين طرفى المعادلة – السلطة والشعب-، هو ما دفع الكاتب إلى تقصى آليات المقاومة عبر التاريخ الحديث.

وبدأ مؤلف الكتاب إجراء أبحاثه الأولية لإعداد الكتاب قبل أربعة أعوام، متأثرا بما قال أنها " المقاومة الراديكالية فى العراق والتى كانت تهيمن على الأخبار العالمية وتحصد العديد من الأرواح "، لكن ذلك لم يكن سوى بداية الغيث، ثم انهال المطر أثناء رحلة بحثه، عندما بدأ الربيع العربى وخرجت الجموع تتحدى أنظمتها التى كانت تعتقد أنها ستقبع فى أماكنها إلى الأبد، وافترض تشارلز تريب أن الشكل الذى تتخذه حركات المقاومة يعكس طبيعة السلطة فى الأساس وبالتالى فإن المقاومة المسلحة للغزو العسكرى أو الاحتلال تصبح أمرا مفهوما حتى إذا ما لجأت تلك المقاومة إلى أساليب مشكوك فى أخلاقيتها، لكنه توصل إلى أن الأشكال الأخرى من المقاومة – السلمية، الاقتصادية، الرمزية، الفنية- يمكن أن تصبح فعالة أيضا، لهذا السبب فإنها تستحق أن تدرس بنفس قدر من الاهتمام الذى يوجه لأشكال المقاومة المسلحة أو التى تتسم بالعنف بأى شكل من الأشكال، وقال " عندما لجأت المقاومة فى العراق إلى العنف كان ذلك يبدو إلى حد ما مبررا فى الخطاب العربي، لكن الثورة فى كل من تونس ومصر لجأت إلى أساليب مختلفة ومنحت آمالا فى التغيير السلمى ".

ومن جهة أخرى، وفى إطار ما يحدث فى سوريا قال تشارلز تريب " أن الحديث عن وجوب التزام المعارضة بالسلمية يثير ثائرة المقاومة السورية والمتعاطفين معها، وهو ما يجعلنا نلتفت لأحد الخواص المهمة لسياسات المقاومة والتى ربما تبدو مزعجة فى سياق وتبدو مقبولة فى سياق آخر، وهو الخطاب المهيمن على حركات المقاومة، والذى يحدد مسار المقاومة وسبلها ويهيمن على خيال أفرادها كذلك ".

يفحص الكتاب الأشكال المختلفة للمقاومة، والسياسة التى تنتجها والعواقب التى ترتبت عليها فى الشرق الأوسط، مستهلا بحثه بفحص الطرق التى أدى فيها التغير العنيف للسلطة إلى إنتاج مقاومة عنيفة كما حدث فى حركات المقاومة العراقية فى أعقاب الغزو الذى قادته الولايات المتحدة للبلاد فى 2003 أو رد الفعل الفلسطينى المباشر تجاه الاحتلال العسكرى الإسرائيلى لفلسطين فى 1967. كما يفحص الكتاب الحركات التى تطورت ببطء حيث كان الظلم بها يبدو وكأنه جزءا من الطبيعة الأساسية للأشياء كما كان الحال فى المقاومة الجزائرية للاحتلال الفرنسى والانتفاضة الفلسطينية فى 1987 التى خرجت ضد عشرين عاما من الاحتلال.

وكان الحال كذلك فى "الاحتلال العسكري" الذى كانت تمارسه العديد من الأنظمة فى بلدانها. فقد كانت الأنظمة تصدر عقودا من ممارستها للظلم والعنف باعتبارهما جزءا أصيلا من الحياة ذاتها، لكن الناس خرجت لتحطم ذلك النوع من التنويم المغناطيسى بدءا من الثورة الإيرانية 1979 وصولا للحركة الخضراء بعد ذلك بثلاثين عاما، وكذلك من خلال احتجاجات الربيع العربى حيث دفعت الوحشية والظلم الناس للتمرد سواء فى تونس، ليبيا، مصر، سوريا، اليمن، أو حتى البحرين.

وأضاف تشارلز تريب فى كتابه " لا يشكل الظلم الذى أنتج هذه المقاومة وحده طبيعة العلاقة ببين المواطن والدولة، حيث تلعب الحياة الاقتصادية عاملا حيويا "، وهنا يفحص الكتاب العلاقات الصناعية فى مصر خلال العقدين الماضيين فى هذا المنحى وتأثيرها على أحداث ثورة يناير، وفى هذا الإطار يحاول الكتاب أن يفهم مقاومة مثالب الرأسمالية العالمية وهو ما أسفر عن طرح مفهوم الاقتصاد نفسه للمناقشة من خلال القيم الإسلامية.

ولا يقتصر "تريب" فى فحصه للعلاقة بين السلطة والشعب على الحركات السياسية، بل أنه رصد تطورات حركات المرأة التى كانت تتعرض طوال التاريخ للظلم والتمييز والتهميش نظرا لكونها امرأة ففى مصر على سبيل المثال، كانت المرأة تلعب دورا محوريا سواء رمزيا أو نخبويا أو فعليا فى المقاومة الوطنية ضد الاحتلال البريطانى ولكن الدور الذى كانت تلعبه المرأة كان واقعا تحت وطأة القيود التى يفرضها أقرانها من القوميين الرجال، والشيء نفسه ينطبق على المرأة فى الجزائر التى كان لها دور محورى فى حرب التحرير ولكنها عانت من التهميش من قبل الحكم العسكرى الذى جاء لاحقا؛ كما يفحص الكتاب الوسائل التى لجأت إليها المرأة لتغيير تلك العلاقة فى المنطقة سواء كانت مباشرة أم غير مباشرة.

وفى مثل هذا النوع من الصراع كانت الأداة الأساسية للمقاومة هى تحدى خطاب السلطة. ومن هذا المنطلق يفحص الكتاب الأساطير المتعلقة بالسلطة ويعيد فحص رواية التاريخ ذاته، ويستعرض فى نهاية الكتاب تحدى تلك السلطة عبر الفنون البصرية، حيث يتحدى الفنانون السلطة من خلال أعمالهم ويساهمون فى تشكيل وعى الشعب بذاته وبإمكاناته.
ومن خلال عدد من الأعمال الفنية ورسوم الجرافيتي، يقدم المؤلف فى نهاية الكتاب، رصدا لذلك البعد لمقاومة السلطة، مشيرا إلى الصراع الذى نشب بين السلطات الجديدة والفنانين فى أعقاب الربيع العربي، حينما حاول من وصلوا إلى السلطة فرض هيمنتهم على غرار سابقيهم فيما أًصر الفنانون على استئناف مسارهم فى تحدى السلطة رافضين التخلى عن تحقيق الحريات التى ناضلوا من أجلها سواء فى مصر أو فى تونس.
وأخيرا وكما يقول ميشيل فوكو فأينما كانت السلطة، كانت المقاومة ومن ثم فإن بذور المقاومة كامنة فى قلب السلطة ذاتها، ومن هذا المنطلق فإن مسار أى نظام سياسى ناشئ ومسار المقاومة التى تخرج ضده يتحددان بناء على سياسة المقاومة داخل المقاومة ذاتها، وسواء من خلال الأحداث الأخيرة للربيع العربى أو الأحداث السابقة فى التاريخ الحديث للشرق الأوسط، نستطيع أن نرصد قدرة المقاومة على خلخلة هيمنة السلطة. وهو ما يمكن الاعتماد عليه لفحص الأحداث المقبلة أيضا وتقديم دروسا للأجيال القادمة.