مقابلة بين الشعرين: العربي والغربي

– الشعر والترجمة:



من أوجه الاختلاف بين الشعر العربي، أن هذا الأخير، لا يُفْتقَدُ بالترجمة إلى أي لغة من اللغات الأوربية، في حين يُفتقَد الشعر العربي بالترجمة. فقد لاحظ حداد أن أكثر الاصطلاحات الكلامية في الشعر الإفرنجي وما فيه من ضروب التعابير اللفظية"قلما تتفاوت في درجات البيان ووجوه الإيضاح والتعبير،؛لأنها كلها ترجع لأصل واحد، وهو اللغة اللاتينية التي هي أم لغاتهم جميعا، وعنها يُشتق أكثر ألفظهم ومسمياتهم وطرق الإنشاء عندهم"[129].

فهو يرى أن النحو في اللغات متقارب، وضروب البلاغة الإنشائية متشابهة، فلا تختلف الأذواق إلا اختلافا يسيراً، ولعل يعود إلى طبيعة لغتهم من حيث اعتمادها على حقائق الأفكار، ومحدوديتها في تنويع الصيغ التعبيرية.

أما اللغة العربية، شأن اللغات الشرقية،"فإن النقل عنها مثل النقل إليها، يستلزم تبديل العبارة كلها بجميع وضعها تقريبا، وتقديم من كثير من ألفاظها أو تأخيره، وربما أدى الأمر بالناقل إلى تغيير الأصل بجملته إلى معنى يُقاربه، لعدم اتفاق المعاني بين اللغتين، وتباين أذواق أهلها في وجوه التعبير وأساليب المجاز وطرق الاستعارة، مما يرجع إلى مألوف كل من الفريقين في حال الحضارة وهيئة الاجتماع"[129 – 130ٍ].

فطبيعة الشعر العربي تستعصي على الناقل لخصوصية في معاني ذلك الشعر، وتباين أذواق أهله، واختلاف أساليب التجوّز فيه. والخلاف في جوهره اجتماعيٌّ حضاريٌّ. وهنا تختلف اللغة العربية عن اللغات الأوربية، فالترجمة بين هذه اللغات لا تكاد تحتاج فيها" إلى الزيادة على ترجمة الألفاظ بأعيانها ومواضعها، دون تغيير يُذكر في أسلوب العبارة أو تنسيق مفرداتها على الوجه النحوي"[129].

ومن هنا لا تَفْقِدُ الأشعار ُالمترجمة، من لغة إلى لغة أوربية، من جمال معانيها الشعرية شيئا، لِوَحدة الأصل وتشابه العواطف والأذواق، وتعويلهم على دقة المعاني واتفاقهم بينهم، وقلما تختلف أنواع التعبير عنهم. ويلاحظ الحداد أن تلك اللغة أضيق من العربية كثيرا"بحيث إنهم لا يجدون لإبراز المعنى صيغةً أو صيغتيْن، إلا وجدنا له نحو عشر صِيَغ أو أكثر، نتفنَّنُ بها في إبرازه، وتختلف درجة الشاعرية عندنا باختلاف الإجادة والتقصير فيها. وهي المزية التي امتازت بها لغتنا العربية عن غيرها من سائر اللغات"[130 – 131].

أوجه الاختلاف بين الشعريْن



حدد الباحث الفرقَ الفاصل بين الشعر العربي والشعر الأوربي في نوعيْن: لفظي ومعنوي.

أ – اللفظي ما تعلق بالوزن والقافية،"فإنَّ وزن الشعر يتألف من الأُهجية اللفظية، وهي نبرة صوتية تعتمد على حرف من حروف المد، سواء كان ذلك الحرف وحده أو مقترِنا بحرف صحيح، ويُسمون هذه الأُهجية في اصطلاحهم الشعر ( أقداما)، وبها تنقسم أبحر الشعر عندهم على حسب أعدادها في البيت، فيكون أطولها ما تركب من اثني عشر هِجاء، وهو ما يسمونه الوزن الإسكندري، نسبة إلى الإسكندر... ومنه أكثر قصائدهم ورواياتهم"[137].

وكل شطر من الشعر ينتهي عند الهجاء السادس، بحيث لا تنقطع الكلمة في وسطه إلى شطريْن، بخلاف الشعر العربي الذي يجوزُ وصل الشطريْن منه بكلمة واحدة، وهو المعروف عندنا بالمدور. وهم إذ يصلون بين البيت الأول والثاني في المعنى واللفظ، يعتبر العرب هذا عيبا. ولاحظ أن إقامة الوزن في الشعر الإفرنجي على عدد الأُهجية مما يُسهل نظمه كثيرا، ويُتيح للشعر أن يُقدم أو يُؤخر في ألفاظ البيت ما شاء، ولا يختل معه الوزن، على عكس الشعر العربي الذي يعتمد وزنُه على التفاعيل من الأسباب والأوتاد، فإن تقديم الحرف الواحد أو تأخيره، قد يؤدي إلى اختلاف بجملته، أو ينتقل البيت من بحر إلى بحر.

والقافية عندهم لا تلزم الشاعر أكثر من بيتيْن، ويُقسمون القوافي إلى مؤنثة ومذكرة، بحيث لا يتوالى بيتان على قافية مذكرة أو مؤنثة، ويريدون بالقافية المؤنثة ما كانت مختومة بحرف علة، وبالمذكرة ما كانت مختومة بحرف صحيح، فهم أبدا يعاقبون بين هذه القوافي إلى ختام القصيدة [139].

وإقامة شعرهم على قواف متعددة أرجعه الحداد إلى ضيق لغتهم، وقلة ألفاظهم، بحيث لا تتسع لالتزام قافية واحدة في القصيدة الطويلة، على خلاف الشعر العربي الذي له من اتساع اللغة واستفاضة ألفاظها أكبر نصيب. ووجد أن الشعراء الإفرنج يُخالفون بين أبيات القصيدة في قوافيها، بأن يفرقوا بين كل بينيْن من قافية واحدة، على ما يُشبه نسق الموشحات الأندلسية عندنا، فالأذن لا تستقر على وزن معلوم [140].



ب – الفرق في المعنى:

وجد الحداد شعرهم يلتزم الحقيقة التزاما شديدا، وينأى عن المبالغة والغلو والإغراب، شأن الشعر الجاهلي عندنا. وهو لا يجد فرقا بين الشعرين في بساطة المعاني وصدق التشبيه وحقائق الوصف،"على خلاف ما صار إليه شعر العرب بعد الإسلام من الإغراق والغلو والمغالاة في الوصف، إلى ما يفوت حد التصور والإدراك"[141].

وهكذا يرى أننا شابهنا الإفرنج في شعر جاهليتنا من حيث البساطة والتزام الحقائق، وباينّاهم كثيرا في شعرنا الأخير، من عهد المتنبي إلى الآن، من حيث الإغراب في المعاني والمغالاة في الوصف، بما يُخرج الكلام عن حد الحقيقة أحيانا؛ إلاَّ أن ذلك لا يرد في شعرنا إلا من بعض الوجوه المعدودة كالغزل والمديح وأشباههما، مما يوافق الخيال، ويجري في وهم النفس، ويُقصدُ به تصوير الوجدان الخفيّ أكثر ما يُقصد به تقرير الحقيقة الراهنة. أما في مجال تقرير الوقائع وإيراد الحِكَم وتصوير الحقائق ووصف المشاهد؛ فإنهم لا يكادون يخرجون من محجة الصدق والقصد، فهم من هذا القبيل يشبهون الإفرنج[142 – 143].

ومن الفروق المعنوية بين الشعرين، أن شعراء العرب يفتتحون أغراضهم الشعرية بمقدمات تمهيدية، وقد يستغنون عنها، أما الشعراء الإفرنج فإنهم يأتون بها اقتضابا، وفي اصطلاحهم أن لا يقدموا شيئا بين أيدي أغراضهم الشعرية.

وإذا كان الفخر بابا خاصا في الشعر العربي، فإن الشعراء الإفرنج يعتبرونه عيبا ونقصا، فلا يستغلون التمدح في كلامهم. ولاحظ أن العرب اليوم أصبحوا اليوم ينفرون منه؛ إلا إذا دعت إلى ذلك ضرورة تدفع الشاعر إلى مثله في مقام النضال، والمدافعة والإحسان[143].

ومما انفرد به الإفرنج دوننا نظمُ الروايات التمثيلية، فقد رتبوها في أسمى درجات الشعر، واستدلوا بها على براعة الشاعر وحسن اختراعه. ووجد الحداد أنهم في هذا مصيبون لأن في نظم الرواية الشعرية (التمثيلية)، من الإبداع أكثر مما في نظم الديوان في القصائد والمعلقات؛ ولأن الرواية الشعرية تستلزم روايات طويلة وقدرة فائقة في الصور والنظم والتأليف، على غير ما تقتضيه القصائد، فالشاعر المسرحي عندهم يبني حكاية، ويمثل عواطف متعددة، ويُقيم نفسه في موقف كل شخص من أشخاص الرواية يتكلم بلسانه وينطق عن شعوره، ويضع في دوره التمثيلي ما كان ينبغي أن يقوله صاحب الدور الأول. ولاحظ الحداد أن هذا الفن انتقل في زمانه إلى العرب وبدأت محاولات في نظم الروايات الشعرية.



ج – تفوقُنا في وصف الشيء وتفوقهم في وصف الحالة:

يرى أن العرب أقدر على وصف الأعيان، يقول:"إننا إذا وصفنا... أتينا في ذلك بأحسن مما يأتون به، وتوسعنا فيه توسعا لا يقدرون هم على الإتيان بمثله. وإنهم إذا وصفوا حالة من قتال رجليْن أو معركة جيشين أو مقابلة محبيْن أو غرق سفينة أو مصاب قوم، جاءوا في ذلك بأحسن مما نجئ به، وتوسعوا فيه بما لا نقدر أن نسبقهم فيه.

فالمتنبي وصف الأسد بما لا يقدر الإفرنجي على وصفه بمثله، وهوغو وصف معركة واترلو بما لا يقدر شاعر عربي على الإتيان بنظيره، فهم بذلك أقدر على تصوير الوقائع، ونحن أقدر على تصوير الأعيان"[145].

فالشاعر العربي له قدرة على دقة الوصف، والإحاطة بجزئيات الشيء الموصوف، والشاعر الأوربي إذا وصف حالة أو موقفا توصل إلى أعماقه، وكشف عن غوامضه وخفاياه. فشعراؤهم يتعمقون المشاعر، ويفحصونها فحصا دقيقا. وشعراء العرب يُشيرون إلى ذلك إشارة إجمال، ويتركون إلى القارئ تمام التصور والتفصيل[145].

وعن البديع اللفظي والمعنوي،

يلاحظ الحداد أن هذا مما لا وجود له عندهم، وأن شعراء العرب ينفردون عن سواهم بإيراد المعاني على أساليب كثيرة.

خاتمة:



الخلاصة التي انتهى إليها من هذه المقارنة بين الشعريْن:"أنهم امتازوا علينا بشيء، وامتزنا عنهم بأشياء، وأننا قد جمعنا من شعرهم أحسنَه، ولم يجمعوا من شعرنا كذلك؛ وهي ولا شك مزية اللغة العربية التي اختصت بما لم تختص به لغة سواها، من غزارة مواد اللفظ ووفرة ضروب التعبير، واتساع مذاهب البيان... والله أعلم"[146].

اعتبر د. إسحاق موسى الحسيني مقال الشيخ نجيب الحداد أقدم ما كتب في النقد في العصر الحديث، وأن له جانبا كبيرا من الأهمية في تاريخ النقد الأدبي؛ لأن كاتبه أنشأه على غير مثال، ونحا فيه نحوا غير مألوف يوم ذاك، باعتماده على الموازنة بين الشعر العربي والشعر الإفرنجي، وبوصوله إلى أحكام مستنبطة من الموازنة وبريئة من العصبية (6).

وذهب عبد الحي دياب إلى أن الحداد قدم هذه الموازنة ليقف الشاعر العربي على حقيقة الشعر الغربي ليسير على هديها، واعتبرها أول موازنة من نوعها.

وأرى أن الحداد قد قدم هذه المحاولة الرائدة فكشف عن أوجه التشابه والتقابل بين الشعرين: العربي والغربي؛ وكأنه كان يتجاوب مع ثقافته الفرنسية، ونزوعه القومي في ترسيخ قيمنا النقدية واستنبات قيم جديدة. والمقال محاولة لمد مصالحة بين الماضي والحاضر، بين الأنا والآخر، ونلاحظ أن الحداد لا يهتم بموضوع التأثير، ولا ينبهر أمام الآخر أو يتعصب، فيتلاشى ويتبدّد. فهو ينطلق من مواقع القديم، ويُقبل على الجديد فينهل منه ما استطاع، ونظره على حقيقة الإبداع في ذاته.

إن هذا المقال يُسهم في البحث عن القوانين التي تتحكم في الظواهر الأدبية نشأةً وتطوراً وجموداً. لقد بدأ النظر – في عصره – إلى الأدب من منظور التاريخ وعلم الاجتماع والحضارة والمعتقدات العامة والمناخ الطبيعي، وأصبحت هذه العوامل حاضرة في التفسير والتحليل، لما لها من تأثير في تكييف الأذواق، وصياغة الإبداعات وتحديد القيم الاجتماعية.