التماس الحكمة هو التماس سقيا الأرواح و الأبدان معا ، لأن بها أسباب الحياة ، و لذة العيش ، و دفء المشاعر و الأحاسيس ، و نطوع كل ما يشتهى من الغايات ، الحكمة تكون في ما يجري على اللسان و الجوارح و جميع مخارج العقل الذي فاض فنهى و أمر ، و أظهر المراسيم و صدر ، و ألجم مشتقات البدن من أطراف ، فساح فيها و طاف ، مرورا بالحواس و انتهاءا بالقلب المهيمن عليها ، الحكم ... كلمة جامعة مانعة سديدة صائبة ، قليلة الأحرف ، غزيرة المعاني ، الكافية الوافية ، شديدة الاحكام ، لا تتعنت فيها الأفهام ، ولا يقصر عن بلوغها بعض الأنام ، تتجلى كأروع ما طرز من الكلام ، ففي طياتها الأمن و الأمان و السلام ، الحكمة السموعة ... تشنف الآذان ، و ترهف المسامع ، تأسر القلوب ،و تجتذب المحبوب ، تخلب العقول ،و تسلب الألباب ،تملك عصا الطاعة ، فيستجاب لأمرها الساعة ،تسحر البشرية ، و تخلد مع الأبدية ، الحكمة المفوهة ليست لأي أحد ، فلا التكلف فيها بلازم لاخراجها ، ولا التدبيج المكثف يزيدها بهاء الى بهاء ، لأن ما يميزها بساطة عبارتها المصحوب بقوة موجها الهادر ، فالصور و ان نمقت أشد التنميق فقد لا تأتي بالمطلوب ، ولا تفي بالغرض ، بينما الحكمة المسددة منتفية لغيرها ، مؤدية لواجبها لوحدها ،لها وقع خاص يعرف به ،و بصمة نفيسة خالدة لا تمحى مع مرور الزمن ، الحكمة .. الضالة المنشودة ، أروع أنشودة ، وهي العامرة المعمورة ، بزخمها و عظمتها ، بتجليها و سطوتها ،و هي خير الكلام الذي قل و دل ، و بان و جل ، و لنعم المراد الذي حل ، ان أصبتها أصبت خيرا صيبا ،و تملظت طعما طيبا ، و لو عمل الناس بها لكفوا ، ولبثوا مطمئنين ، و لطالما .. رفعت أمما ، و سطرت تاريخهم بأحرف نورانية ، الحكم ... مخصمة المتنازعين ،و هداية الحائرين ، جوابا للسائلين ، شفاء للعليلين ، قسطا للآدميين ، سلاما للآمنين ، و هي فصل الخطاب ، و الجواب الشافي ، و رقية الحكماء على مر الأزمان ، وهي الضمير الحي الذي يبوح بالنصيحة مسديا ،الحكم .. حالة من الاتزان المستدرك على كل ما ليس له داع من قول أو فعل ، وهي سعادة اعتبارية يكافىء بها العظماء الذين خلف الكواليس ، من عمل بها أتى الخير من جميع أبوابه ، و تسود بين خلانه و أحبابه ، باختصار شديد ... هي الانتماء لكل ما هو نوراني سامي مبجل مهيب ، و تحكيم العقل و اعطاءه صلاحية النفوذ الى ما لا سبيل النفوذ اليه الا بها ، الوقار و الهيبة ركنا الحكمة ،و الرجاحة منتوجها النوعي المشهود له ، سلطانها يفوق تأثير سلاطين الكراسي ، وهي التي تهديك شعاب الفطنة ، و تسرح بك في مروج الألمعية ، و تلبسك حلل الكرامة و السؤدد ، وهي السحر الحلال ، هداية الحيارى ، رغد العيش في ثناياها ،و لن يسترك شيء اذا لم تستتر بعبائتها ، تأتيك بما يخلب سوانح العقل و شوارده ، أبت كل محمدة على السطوع في حضرتها ، و عنت كل فضيلة في المثول و مواجهتها ، فالحسن كل الحسن ما تحيكه ، و البهاء من أدناه الى أعلاه ما تخيطه ، فبمثل سردها يطيب جوهر الشيء قبل أن يطيب مظهره ، فيفصح عن نفائس مشتملة ، لم تدع لغيرها مجالا لأن تقارع أو أن تنطح ، وما بلوغ النهايات في المعالي إلا عن مطية الحكم ، تتسامى المقاصد مع ما تنزع اليه بلا جدال ، و لها في ذلك مشاهد و سجال ، بالحكم تسمو و تتألق ،فتنفرد هي بتميزها وتأتي غيرها حولها تتحلق ، فهي بهجة المعاني المعبرة عنها ، و المختارات من الألفاظ المستطعمة نكهتها ، من الممكن أن توصف بأنها أتم ما قيل في أتم ما فعل ، أو أفضل ما دون و أكمل ما أوتي ، الحكم ... نتائج الأمور إذا وافق تصريفها غرز الإبر ، يعزوها البعض بقطعة الفلين في عرض البحر إذا أوشك أحدهم على الغرق فأراد التشبث بها ، فهي عصارة تجارب ، و خلاصة أحداث ، تشكل في مجموعها تراكمات و خبرات ، اختصارات و تفسيرات ، تنفخ الروح في كل جماد ، و يتلو ذكرها في كل بلاد ، ليست بمبالغة ان قيل : هي إكسير الحياة الخالد ، ففي أي شطر منها تتفتق الحجة البالغة ، و تنتهي المسائل العالقة ، و ينشأ الرأي السديد ، و تستحكم نوازع البقاء ، و تدوم أسباب حياة كل ما يعنى به ، من مضامينها المتلازمة / البناء و النماء و الاعمار ، و هي المرجع الحكم عند الاختلاف و التناحر ، و تقاس بريش الطاووس بالنسبة لباقي أنواع الريش المعروفة ، الحكم ... النهايات السعيدة عندما تنقش بماء الذهب ، فهي كل ما كان عونا في رسم ابتسامة ، و ايقاد شمعة أمل ، و عملية انقاذ عاجلة تنتشل المرء من مكاره مصدات العيش الهانىء ، كما أنها تحقيق غاية سعيدة مرجوة لطالما لبثنا في انتظارها دهرا ، و هي الاقتراب من خط النهاية للأحلام العظيمة ، و ربما كانت حياة رغدا لكثير من الأموات و الأحياء على السواء ، الحكم ... النقاء الصافي بعد صفو الانتقاء ، و حبات لؤلؤ استعارت وهج الشمس أمدا طويلا ، و هي كل ما طاب مجراه على الحواس الخمسة ، فأمعنت النظر و الشم و التذوق لذاذة ، الحكم .. الوقوف على جمال أسرار الحياة عن كثب ، و التطلع الى منبهاتها كلما دعى داعيها ان هو قفز أو وثب ، و هي كل ما أخلف مفازة ، و جر حسن خاتمة ، و أظهر حجة ، أو دحض ادعاء ، و أيد حقا ، و جلب رزقا ، و أنار دربا ، أو أطفا نار حرب ، الحكم... ما انطوت عليه المغيبات مما يعد بالخيرات ، و حظوة المحظوظين اذا فكهوها ، و تباشير المستودعين العارفين اذا لم يقايضوها ، الحكم ... لو قيل ما قيل فلن يمس المقال جدار تعريفها ، و لن تستوفي جيوش الحروف عدها و عتادها ... فلم لا نلزمها و الحالة هذه ؟